صيام رمضان وحكمه العظيمة

هذه خطبة جمعة كتبت أعدها في الحرم المكي الشريف يوم الخميس 1/رمضان/1401 بعد هجرتي إلى مكة المكرمة ، وانتسابي إلى جامعتها ، وكنت أعد الخطبة وأكتبها وألقيها مرتجلة في جامع النور بحي القريات بجدة، وهذه الخطبة نموذج من تلك النماذج التي دونتها واحتفظت بها ، وقد قام الأستاذ طارق قباوة حفظه الله تعالى بصفها ، فأحببت نشرها على الموقع ، تذكيراً بما فيها من المعاني التي نحتاج إلى تجديدها في شهر رمضان.

فوائد صيام رمضان وحكمه العظيمة

فإنكم في شهر عظيم مبارك، وهو شهر رمضان ، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ، شهر الإحسان والغفران ، شهر الجود والصدقات ، شهر تفتح فيه أبواب الجنات، وتضاعف فيه الحسنات وتُقَال فيه العثرات، شهر تُجاب فيه الدعوات ، وتُرفع الدرجات ، وتُغفر فيه السيئات ، شهر يجود الله سبحانه فيه على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم : وأمر الناس بصيامه ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه ، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه.

1 ـ وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة، ومن أعظم الحكم في فرض الصوم علينا (التقوى). قال الله تعالى :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183} .والتقوى: كلمة جامعة لكل خصال البر والإحسان والمعروف، إنها مفتاح كل خير ، وسبيل كل نصر، وغاية كل مؤمن، ومتى صار المسلمون أتقياء، كان الله معهم بالعون والنصر ، قال الله تعالى :[ إِنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {البقرة:194} .ويقول سبحانه:[إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] {النحل:128} . فالصوم مدرسة تخرِّج المتقين وهم الأولياء ، فإن ركني الولاية : الإيمان والتقوى، قال الله تعالى :[أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] {يونس:63} .

2 ـ وفي الصوم يذكر الإنسان أنه عبدٌ لله الذي خلقه وأنشأه وأمده بالنعم التي لا تحصى، وما يتألَّه المتألهون من البشر ، ولا يظلم الظالمون إلا حين ينسون عبوديتهم لربهم، فيتكبرون في الأرض ، ويفسدون فيها...كذلك كان فرعون عالياً في الأرض مسرفاً جباراً يقول لقومه :[وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي] {القصص:38} .وبذلك قتل الرجال واستحيا النساء ، وشرَّد أصلح فئات الشعب وأكرم دعاته وهداته... واستمرَّ في طغيانه حتى أخذته قدرة الله عزَّ وجل ، فأعلن عبوديته :[ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ] {يونس:90} .

ففي الصوم يذكر الأقوياء والأغنياء وكل ذي سلطان .. أنهم عبيد لله في حاجة إلى زرق الله وطعامه وشرابه، فكأنَّ الصيام تذكير للإنسان بضعفه وحاجته فلا يستعلي ولا يستبد ، ولا يتجاوز  حدود بشريته في أيِّ تصرُّف من تصرفاته.

وفي الصوم تعويد كريم على خلق (الصدق) فالصوم سرٌّ بين العبد وبين ربه ، وإذا كان من الممكن أن يدخل الرياء إلى بعض العبادات كالصلاة والزكاة والحج، لأن القيام بها يتمثَّل في أمر ظاهرة يطلع عليها الناس ويستوي في أدائها من حيث الظاهر المخلصون والمنافقون، فإنَّ الصيام سرٌّ لا يعلمه إلا الله ، ولذلك نسبه سبحانه وتعالى لذاته واختصَّ به لنفسه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: « يقول الله تبارك وتعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». وإذا صدق المؤمن مع الله حيث لا يراه أحد من الناس وامتنع عن الشهوات والمفطرات ، دون رقيب إلا الله ، إذا تعوَّد الصدق مع الله تعوَّد الصدق مع الناس في أموره كلها، وبذلك ينال رضا الله ومحبة الناس ، والصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة.

4 ـ والصوم يعود على (الصبر) فالمسلم في رمضان يصبر على وطأة الجوع والعطش ويترك ما اعتاده من الملذات والشهوات...

والصبر على طاعة الله عزَّ وجل ، والصبر على الشدائد والمحن ، والصبر عن أهواء النفس وشهواتها من أقوى الأسلحة التي تتسلَّح بها الأمم في كفاحها وحروبها. روى الترمذي والبيهقي قال صلى الله عليه وسلم :«الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان ». وقال علي رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

5 ـ والصوم يربي النفس على (قوة الإرادة) ويحرر الإنسان من رق الشهوات ، فهو في نهار صومه قد ترفَّع عن أن تسترقه شهوة أو تستعبده لذة ، فهو الحر حقاً ، والملك صدقاً :

صاحب الشهوة عبد فإذا     ملك الشهوة أضحى ملكاً.

فالصائم ينتصر على شهواته ، ويثبت في مواطن الشدَّة والمصاعب ، إنه انتصر على مادية جسمه، وارتباطاته الأرضية، وتحرَّر من عبوديته لحاجياته وشهواته، والصوم بهذا يسهم في إعداد الرجال للجهاد والقتال الرجال الذين انتصروا على أنفسهم ، فأصبح من السهل أن ينتصروا على عدوهم ، واسمعوا إلى ما قصَّه القرآن عن بني إسرائيل في انغماسهم في الشهوات، مما كان سبباً في انهيارهم قالوا: [يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ] {البقرة:61} . وهم الذين قالوا:[إ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {المائدة:112} .فكل همهم موجَّهٌ إلى الاغْتراف من شهوات هذه الحياة وزينتها والتمتع بأوفى نصيب من نعيمها:[وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] {البقرة:96}. فكان المنطق السليم وعدل الله الحكيم مع مثل هؤلاء الشهوانيين أن يهزموا في معاركهم ...فحينما قال لهم نبيهم:[يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] {المائدة:21} .كان ردهم وتخاذلهم أمام شهوات نفوسهم أن:[قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ] {المائدة:22} .وبعد ذلك قالوا :[قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] {المائدة:24} .وهكذا تفعل الشهوات بنفوس أصحابها فتقدهم الصبر والشجاعة وقوة الإرادة ...واسمعوا إلى قصَّة طالوت إذ مَنَع جيشه من الشرب من نهر اعترضهم في المسير وهم عطاش .. فما أطاعه إلا قليل ، ولكن النصر كان على  يد هذه القلة الصائمة المتحرِّرة من سلطان الشهوة..

[فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] {البقرة:250ـ249 } .لقد هزموهم بعد أن هزموا شهواتهم ، وتغلبوا على أعدائهم بعد أن تغلبوا على أهوائهم :[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] {العنكبوت:69} .

أحاديث في فضل صيام رمضان وثوابه الجزيل

إن الصوم عمل صالح عظيم، وثوابه جزيل، وقد وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تبيِّن فضل رمضان:

 ففي صحيح ابن خزيمة: « أتاكم شهر رمضان شهر خير وبركة».

 وفي صحيح ابن خزيمة :« سيد الشهور رمضان، وسيد الأيام الجمعة» وفي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه » .

وأخرج الستة إلا أبا داود عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار ، وسلسلت الشياطين ». وفي رواية للنسائي :« وينادي منادٍ كلَّ ليلة: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر».

وأخرج الخمسة إلا أبا داود عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إنَّ في الجنة باباً يقال له الريان ـ من الري لأن الصائمين عطشوا في الدنيا فيأمنوا العطش يوم القيامة ـ لا يدخله إلاالصائمون ، فإذا دخلوا أُغْلق فلا يدخل منه أحدٌ».

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء . ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً فإنَّ الشقيِّ من حُرم فيه رحمة الله ». رواه الطبراني.

وكتبه : مجد مكي في الحرم المكي الشريف ـ قبيل عصر يوم الخميس

1/رمضان المعظم/من سنة 1401

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين