رحمة الله تعالى - رحمة الله ومقامها
رحمة الله تعالى

" إن الإنسان غامض ٌ وتفسيره ليس فيه .. ولا بدَّ من تفسيره وإلا كان كلُّ شيء ٍ عبثا ً .. إن الوجود كله مفسَّر للطفل تفسيرا ً صغيرا ً مثله في حب أمه وحنانها .. وقد يكون ثدي الأم مثالا ً مُصغرا ً من الكون كمثال المصغر من كرة الأرض في تعاليم الحغرافيا .. بل الأم تفسير ٌ على قَدَر ِ العقل لرحمة الألوهية نفسِها .. " مصطفى صادق الرافعي

أعجبني هذا الكلام كثيرا ً .. ورأيته متربعا ً على عرش الفصاحة العليِّة .. ومتوجا ً بتاج الإنسانية .. ورأيت أنه محتاج إلى مثال ٍ ذd قدرة بيانيِّة ... لإزالة ما علق به من معان ٍ غامضة عَصِيِّة ... فتصبح بإذن الله من بعده ظاهرة جليّQة .. فأقول ميمنا ً باسم الله العظيم :

جيئ إلى النبي عليه الصلاة والسلام بسبي ٍ – في يوم من الأيام – فيه الرجال والنساء والأطفال ، وكان عليه الصلاة والسلام واقفا ً مع صحابته الكرام - كأنهم نجوم الجوزاء أحاطت ببدر الدجى- على مقربة ٍ منهم ينظرون إليهم

وفجأة برزت من بين الجمع امرأة ذاهلة عن نفسها ، تلهث خائفة ً كالمشرف على الموت من سهم الظمأ الذي أصابه . تشق الجمع ذات اليمين وذات الشمال كأنها فارس مغوار خرَّ أمامه أعداءه ، فهو ينال منهم نيَّل الجزار من ذبيحته . عينيها تدوران في فلكيهما في عجلة وكأنهما يريدان الفرار ، والقلب – ذلك المسكين – يرتج خوفا ً وفرقا ً ، وينزف دمعا ً سحا ًغدقا ً على فقد الحبيب ، وأي حبيب : إنه فلذة الكبد ومهجة الفؤاد ، وماء العين ، وفرحة الحياة ، إنه رضيعها ذلك الذي فقدته بين الجمع فانطلقت تبحث عنه . وهي بهذه الحالة من الإشفاق والوجوم وإذ بها تعثر عليه ، وجسده الغض مفترشا ً الأرض ، قد نال التراب من عينييه ، وأثر في جنبيه ، فالتقطتته وأنفاسها تتقطع فرحا ً ، وصوتها لا ينطق مشفقا ً حتى ضمته إلى صدرها وأخذت تهلُّ عليه من حنانها الدفاق ، وشعورها النبيل الرقراق حتى بدى المشهد وكأن نفسا ً من أنفاس الجنة ، ونورا ً من أنوراها قد اطلع على أهل الأرض فلا كاسر ٍ أنشب أنيابه ، ولا جارح ٍ أبرز أظفاره ، وما ذاك إلا من الرحمة التي غشيت المكان ، وعمت قلوب الإنس والجان .

وبحركة لا يفهمها إلا من تذوقها ألقمته ثديها، وأخذ ينهل منه كالظمآن صادف ماء ً زلالا ً ، فلتقت ينابيع الرحمة ، وينابيع الحنان، فما كان من القلوب إلا أن خرت ساجدة ، وما كان من الألسن إلا صاحت ضارعة، وما كان من نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام إلا أن التفت إلى صحابته الكرام ، الذين أخذهم المشهد ، فما منهم إلا شاخص واجف من هوله ، لما شعروا به من الرحمة والحنان اللتان حركتا كل شعرة من أجسامهم الطاهرة ، حركة الشاكر ، الحامد لله رب العالمين ، وقال لهم :" أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!" ، فنطقت جوانحهم بالنفي قبل جوارحهم قائلين :" لا والذي بعثك بالحق!" فقال عليه الصلاة والسلام ، قولا ً تدكدكت منه الجبال ، وتصدعت الأرض ، وتفسخت السماء ولو أن الأقدار أرخت لها الردَّ ، لرأينا لها بكاء ً ، ودمعا ً غزيرا ً ، وكيف لا تفعل ذلك وهي تسمع ثناء الرحمة ، من رسول الرحمة ، على ربِّ الرحمة ، قال عليه الصلاة والسلام :" لله أرحم بعباده من هذه بولدها !" ، يا الله ما أعظم هذا التشبيه ! يا الله ما أعظم هذا البيان ! يا الله ما أعظمك يا رسول الله !

ما أعظمك يا رسول الله .. وما أدق وصفك .. وما أغزر حكمتك .. وما أنبل تربيتك حين قربت لنا الرحمة الإلهية ، والتي تعجر عقولنا القاصرة عن سبر غورها ، ومعرفة كنهها ؛ حين قربتها إلينا فصرنا بفضل بيانك نستظهر هذه الرحمة ، لا بعيوننا ، ولكن بقلوبنا التي ذابت شوقا ً إلى لقاء من عنده هذه الرحمات !
فكيق بعقلك يا ابن آدم أن يدرك أن هذه الرحمة التي عرضها هذه المشهد ما هي إلا رحمة واحدة أنزلها  الله تبارك وتعالى على لعباده ليتراجموا فيها وأن فوقها تسع وتسعون رحمة استأثر بها الله لنفسه العظيمة فقد سمع أبو هريرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول :" إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار "

إن هذه الرحمة سرُّ من أسرار الالوهية أودعها الله خلقه فبها يعم السلام ويسود الأمان وعليهما ترتكز مصالح البشر في المعاش وفي المعاد ويتحقق فيهم معنى الاسخلاف الذي أراده الله منهم. ذلك الاستخلاف الذي جاء لعمارة الارض لا لخرابها، ولذلك كان الأصل في محكم التعايش بين المخلوقات جميعا هو التراحم فيما بينهم فـ"الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الارض يرحمكم من السماء" ، إن السياسة التي تقوم على بناء جدر القطيعة وحفر خنادق الخصام بين الخلق هي سياسة مرفوضة بحكم الفطرة وبحكم المنطق ، لأن التناحر لا ينهض إلا من رحم التدابر وبين كليهما تذهب ريح الرحمة وتحل أعاصير الخراب , وتتصعر بذلك حمم الآلام، وهل كانت الرحمة إلا لتخفيف الألم أو تجتثه من جذوره "فلا يوجد أسمى من دفع الآلام عن إنسان لا يستطيع التعبير عن ألمه" ولا يوجد أقسى من أناس يسببون آلاما ً لغيرهم وهم لا يكترثون. إن فن اقتلاع الآلام فن جميل يبدأ من الرحمة وينتهي بالايثار من أتقنه فهو الإنسان!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين