علم الأداء - فن النطق
ـ علم الأداء ـ
د.عبد البديع النيرباني

     ـ الأداء: فنّ النطق.
     ـ فطبيعة الأداء: أنه فنّ، أي مهارة تكتسب بالدربة والمران، لكنه كغيره من الفنون يستند إلى أساس معرفي، هو علم الأداء.
     فالجراحة مثلاً فن، لكنها تستند إلى علمي التشريح ووظائف الأعضاء.
     وقيادة السيارة أيضاً فن، لكنها تستند إلى علمي الميكانيك والكهرباء وقانون السير.
     ـ لكن قبل الشروع في هذا العلم، لا بدّ أن نقف ملياً عند معنى (النطق)، لنشقّق منه مباحثه.
     ـ نَطَقَ يَنْطِقُ نُطْقاً ومَنْطِقاً ونُطُوقاً: تكّلم.
     والمنطق: علم يَعْصِم الذِّهن من الخطأ في الفكر.
     والنِّطاق: ما يُشدّ به الوَسَط.
     ولم أجد خيراً من كلام الراغب الأصفهاني (ت 425هـ) في تلُّمس المعنى الأصلي لمادة (ن ط ق)، إذ يقول في (المفردات):
     " النطق في التعارف: الأصوات المقطعة التي يظهرها اللسان وتعيها الآذان، ولا يكاد يقال إلا للإنسان، ولا يقال لغيره إلا على سبيل التبع، ولا يقال للحيوانات (ناطق) إلا مقيداً وعلى طريق التشبيه.
     والمنطقيون يُسمُّون القوة التي منها النطق نطقاً، وإياها عنَوا حيث حدّوا الإنسان فقالوا: هو الحيّ الناطق المائت. فالنطق لفظ مشترك عندهم بين القوة الإنسانية التي يكون بها الكلام، وبين الكلام المبرز بالصوت.
     وقد يقال (الناطق) لما يدلّ على شيء. وقوله:(عُلِّمنا منطق الطير) فإنه سمّى أصوات الطير نطقاً اعتباراً بسليمان الذي كان يفهمه، فمن فهم من شيء معنى فذلك الشيء بالإضافة إليه ناطق وإن كان صامتاً، وبالإضافة إلى من لا يفهم عنه صامت وإن كان ناطقاً.
     وقيل: حقيقة النطق اللفظ الذي هو كالنطاق للمعنى في ضمه وحصره. والمِنْطَق والمِنْطَقة: ما يُشدّ به الوَسَط."   ] 811ـ812 باختصار[

     ـ وعلى هذا، فالنطق: إنتاج صوت يدلّ على معنى.
     فيمكننا إذاً أن نميّز في (النطق) ثلاثة معانٍ: معنى الحدث المأخوذ من المصدرية، ومعنى الصوت، ومعنى دلالة الصوت على المعنى.
     أما المعنى الأول ـ وهو الحدث، ونطلق عليه (النطق) تغليباً ـ فندرس فيه: أعضاء النطق، وآلية النطق، وعيوب النطق كالثأثأة والفأفأة واللثغة، وتعديل النطق بما يصطنعه مهندسو الاتصال من أجهزة لتغيير صفات الصوت، وسيرورة النطق مما يعرف بالوقف والابتداء، وأطراف النطق وهي ثلاثة: فعل النطق، وفاعله، والمنفعل به، وفي كلٍّ مقال: (فأما الطرف الأول ـ وهو فعل النطق ـ فينقسم ثلاثة أقسام: فهو إما أن يكون كلاماً ينشئه الناطق ابتداء، وإما أن يكون كلاماً يستظهره، وإما أن يكون كلاماً يقرؤه.
وأما الطرفان الثاني والثالث ـ وهما فاعل النطق والمنفعل به ـ فينبغي أن تتوافر فيهما أمور تعين كلاً على كل.)
وأغراض النطق مما يعرف بوظائف الاتصال، ومرافقات النطق وهي ما يلحق به مما يعين على تمام الإبلاغ كالإشارات ونحوها.
     وأما المعنى الثاني ـ وهو الصوت ـ فندرس فيه الصوت مفرداً ببيان المخارج والصفات، ومركباً ببيان أشكال التغيرات الصوتية.
     وأما المعنى الثالث ـ وهو دلالة الصوت على المعنى ـ فندرس فيه شكلي الدلالة: دلالة الصوت على المعنى بحضوره مما يعرف بالمحاكاة الصوتية، ودلالة الصوت على المعنى بشكل حضوره مما يعرف بالتنغيم.
     ـ وفي علاقة هذا العلم بالعلوم الأخرى، نجد أنه ذو صلة وثيقة بعلم الأصوات، وقرابته من علم التجويد لا تخفى فهو جزء من علم الأداء، ولو أن علم التجويد تطور على أيدي اللاحقين لصار إياه.
     ـ ومن أعظم مصادر هذا العلم في تراثنا العربي شيئان: الأول نظري وهو كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ (ت255هـ)، والآخر تطبيقي وهو ما تناقلته كتب السنة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فضلاً عن أشياء أخرى لا تخفى على الباحث.
     ـ وتأتي أهمية هذا العلم من حاجة كل من ينطق بالعربية إليه، ولا سيما من يتخذ الكلام صنعة له، كالقراء والخطباء والمحاضرين وغيرهم من الملقين.
     والناس في تمكنهم من الأداء صنفان:
فصنف حباهم الله استعداداً فطرياً، فحاجة أولئك إلى علم الأداء لصقل أدائهم وبلوغهم الغاية فيه.
وصنف قصّر بهم استعدادهم الفطري، فحاجة أولئك إلى علم الأداء لتلافي تقصيرهم وبلوغهم الكفاف فيه.
     ـ وثمرة هذا العلم أنه سبيل إلى حسن الأداء، وحسن الأداء سبيل إلى حسن الاستماع، وحسن الاستماع سبيل إلى حسن التدبّر، وحسن التدبر سبيل إلى حسن الانتفاع.
     ـ ويرد هذا العلم في كتابات الدارسين باسم (علم الأداء) تارة، وباسم (فنّ الإلقاء) تارة أخرى. غير أن في تسمية هذه المعارف بالفن تسامحاً.
ألقيت في الدورة التأهيلية لخطباء مساجد حلب التي أقامتها مديرية أوقاف حلب بين: 10/5و4/6/2009 في مكتبة الثانوية الشرعية في حلب>

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين