بوابة الموت - حقيقة الموت
بوابة الموت
خطبة الجمعة للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي
3/7/2009
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
تعالوا أحدثكم اليوم في موضوع يستوحش كثيرٌ من الناس بذكره، بل يستوحشون ممن يحدثونهم عنه، إنه الموت الذي قضى به الله سبحانه وتعالى على عباده جميعاً، بل قضى به على سائر الأحياء.
والموت -يا عباد الله- بالنسبة لمن ذَكَرَه وعرف معناه هو الذي يُقَلِّمُ مخالب البغي في الحياة، وتذكّر الموت مع معرفة حقيقته هو الذي يحطم أنياب الظلم والطغيان في الكون، وتذكّر الموت مع معرفة حقيقته هو الذي يجتث شأفة الفساد بكل أنواعه من المجتمع، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات، فإنه ما ذُكِرَ في كثير -أي من المعاصي- إلا قلله وما ذُكِرَ في قليل -أي من الطاعات- إلا كثَّرَه". لذا تعالوا أحدثكم عن الموت الذي يشمئزّ من الحديث عنه السَّكارى الذين يتطوَّحون بين عوامل الأهواء والشهوات المتنوعة، تعالوا أحدثكم عن الموت الذي يفر هؤلاء من الحديث عنه فرار طير النعام من الحقيقة الراهنة التي تراها، يفرون من الحديث عن الموت وبيان الله سبحانه وتعالى يلاحقهم قائلاً: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}[الجمعة:62/8]، يفرون من الحديث عن الموت ويشمئزون بل يستوحشون ممن يحدثهم عنه، وبيان الله سبحانه وتعالى يلاحقهم قائلاً: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء:4/78].
ولكن ما الموت يا عباد الله؟ هل الموت عدمٌ كما يتصور كثير من الناس؟ وإنها لعدوى سرت إلينا من المجتمعات الغربية، ومن الأفكار الخرافية التي توضّعت في رؤوسهم، يتصوّرون أن الموت عدمٌ، ومن ثم يقول أحدهم: حُكِمَ على فلان بالإعدام، ولقد سرت هذه اللوثة وهذا الوهم الخرافي إلى كثير من الناس المسلمين في عالمنا الإسلامي، الموت ليس عدماً -يا عباد الله- وإنما الموت المرحلة الثالثة من مراحل أربعة جعل الله عز وجل مجموعها منهاج رحلة الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، المرحلة الأولى تتمثّل في حياة الأجنة، حياة الأرحام، والمرحلة الثانية تتمثّل في الحياة الدنيا التي نعيشها اليوم، والمرحلة الثالثة تتمثّل في الحياة البرزخية التي ننتقل إليها عبر بوابة الموت، أما المرحلة الرابعة فهي المرحلة التي تبدأ بالوقوف بين يدي رب العالمين سبحانه وتعالى.
الموت إذاً ليس عدماً، بل أقول لكم حقيقة علمية قبل أن تكون حقيقة دينية، الإنسان ثنائي التركيب -يا عباد الله- سواء كان يتقلب في حياته الدنيا هذه، أو كان قد انتقل إلى حياته البرزخية الآتية، هو على كلٍّ ثنائي التركيب، مركب من جسد وروح، أما الإنسان في هذه الحياة الدنيا فتكون روحه محبوسة لحساب جسده، لا تستطيع الروح أن تتحرك إلا بمقدار ما أوتيه الجسد من القوة، فإذا ارتحل الإنسان إلى المرحلة الثالثة، ودخل في مرحلة الحياة البرزخية، انقلب الأمر، فأصبح الجسد هو التابع للروح، تنطلق الروح بعيدة عن الجسد، ولكن كما تنطلق الشمس بعيدة عن الأرض، هي بعيدة عن الأرض في ذاتها، ولكنها متصلة بالأرض عبر أشعتها، الروح تكون كذلك أيضاً، تنفك عن الجسد الذي امتد في قبره، ولكنها تسيح في العالم الذي تشاء، وأشعة هذه الروح موصولة بالجسد، ومن ثم يتهيّأ الجسد للنعيم إن كان من أهل النعيم، ويتهيّأ للعذاب إن كان من أهل العذاب، ألم يقل الله عز وجل عن ذلك الذي أعلن إيمانه، وأخبرنا الباري عنه في سورة (يس) أنه قتل، فماذا قال بعد أن قُتِلَ طبقاً لما أخبرنا الله عز وجل به؟ {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ, بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يّـس:36/26-27]، هل قال ذلك في يوم القيامة؟ لا، إذ لو كان ذلك القول في يوم القيامة لاجتمع الناس كلهم، ولكنه قالها في الحياة البرزخية {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ, بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. وانظروا إلى بيان الله عز وجل إذ يتحدث عمن يعذبون في الحياة البرزخية ومنهم آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:40/46].
إذاً الموت ليس عدماً -يا عباد الله- حسناً هل الموت مصيبة؟ كذلكم الموت ليس مصيبة بالنسبة لمن مات، وإنما هو مصيبة بالنسبة لأقران الميت، بالنسبة لأهله، زوجه، أولاده، ذوي رحمه، وتتمثّل مصيبتهم في وحشة الابتعاد عن قريبهم، تمثّل المصيبة في الحاجز الذي أُسْدِلَ بينهم وبينه، كانوا يستأنسون بالقرب منه، وإذا هو اليوم بعيدٌ عنهم لا يرونه، أما المَيْت فهو الذي يضع في معنى موته ما يشاء، المَيْت في دنياه التي يعيشها هنا يضع في الموت إما معنى العرس إن شاء، أو يضع في موته معنى المصيبة الفادحة إن شاء، فإن هو وضع الموت نصب عينيه، واستعد له، واصطبغ بصبغة العبودية لله سبحانه وتعالى، وجعل من ذكر الموت كابحاً، فهو يسير في المنـزلقات آمناً مطمئناً معتمداً على كابح الموت ألا يجعله يقع في هذا المنـزلق على أُمِّ رأسه، هذا الذي آمن بالله، وتَذَكَّرَ الموتَ غدواً ورواحاً، واستعد له، فإن الموت سيأتيه عرساً ولا كالأعراس، أما ذاك الذي وضع الموت وراء ظهره، واتخذه منسياً من باله وفكره، وأخذ يستوحش ممن يحدثه عن الموت وهو آيلٌ إليه، فلنعلم أن هذا الإنسان يضع في الموت معنى المصيبة، فإذا جاءه الموت رأى المصيبة الفادحة التي تأخذ منه بالخناق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما اتفق عليه الشيخان من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: "إذا أحب العبد لقاء الله أحب الله لقاءه، وإن كره العبد لقاء الله كره الله لقاءه"، قالت عائشة: أذلك الموت يا رسول الله؟ فكلنا يكره الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس كذاك، ولكن المؤمن إذا دنا موته بُشِّرَ بلقاء الله عز وجل، فلم يكن أمامه شيء أحب إليه من لقاء الله، وأما الكافر أو الفاجر فإذا دنا منه الموت بُشِّرَ بسخط الله سبحانه وتعالى، فلم يكن شيء أمامه أبغضَ إليه من لقاء الله عز وجل". ولكنه آيلٌ إلى هذا اللقاء.
عباد الله، أنا أسأل نفسي وأسأل كل واحد منكم: لماذا يجعل الواحد منا نفسه في مثابة رجلين اثنين: أحدهما أحمق قد استغرق في الحمق والغفلة، والثاني ذو بصيرة ووعي؟ لماذا نحاول أن نجعل من أنفسنا مثالاً لذلك الأحمق؟ أعرفتم قصة هذين الاثنين، وقد ذكرت ذلك مرة وأنا أقول لكم: أضع هذا المثال دائماً نصب عيني، رجل استأجر داراً بعقد يمتد أجله عشر سنوات، وله دار خَرِبة على مقربة من الدار التي استأجرها، لما دخل الدار وهي مفروشة، وفي زواياها كل أسباب النعيم والمتعة وما لذَّ وطاب انحط في هذا النعيم وهذه المتعة ونسي داره الخربة التي تحتاج إلى ترميم وتجديد، ونسي وراح ينحط في هذه الدار ونعيمها ناسياً أنه راحل عنها عما قريب، ولما انتهت السنوات العشر أقبل صاحب الدار يطلب منه الخروج لأن أجل العقد قد انتهى تذكر داره، التفت إليها وإذا بها وكأنها تقول له: أنا آسفة، لست مهيئة لك قط، خرج إلى العراء، أما ذاك الآخر ذو البصيرة، ذاك الذي استأجر الدار لعشرة أعوام، فقد وضع منهاجاً معيناً في حياته، يذهب في كل يوم ساعتين أو ثلاث ساعات ليتعهد خربته، وليرممها، وليجددها على عينيه وكما يشاء، ما إن انتهت السنوات العشر وجاء الرجل يطالبه بالخروج من داره حتى كانت داره كأنها العروس تقول له: ها أنا قد تهيأت لك. عباد الله أنا أسأل نفسي وأسألكم: هل من فرق بين هذا الإنسان الذي استأجر داراً إلى أجل وله دار خربة يملك أن يتركها ويملك أن يجددها، وبين واقعنا المعاش في حياتنا التي سنرحل عنها عما قريب؟ لا والله ليس هنالك من فرق.
عباد الله أنا أسأل نفسي وأسألكم: لو أن واحداً من هؤلاء الذين يستهينون بحرمات الله تعالى، ويستهينون بالعبادات وأركان الإسلام من صلاة ونسك وصدقة ونحو ذلك، أُخْبِرَ أن الموت قادم إليه بعد عشرة أيام، وصدَّقَ هذا الخبر الذي وفد إليه وهو مؤمن بالله إجمالاً، ماذا يصنع؟ ألا يقلع عن غيِّه؟ ألا يقلع عن موقفه ضد كتاب الله وضد دين الله عز وجل؟ ألا يؤوب ويتوب إلى الله تعالى ليستدرك تقصيره؟ حسناً من منا يضمن أنه سيعيش بعد عشرة أيام؟ لعلكم تفاجؤون بأن هذا الذي يقف أمامكم خطيباً قد رحل إلى الله بعد أقل من عشرة أيام، إذاً تعالوا نجدد العهد مع الله، تعالوا نجدد التوبة إلى الله، أقول هذا لمن يراني ولمن يسمعني، أيها الناس نحن عبيد لله سواء استكبرنا على الله أم أدَّيْنَا حقوق الله عز وجل، نحن راحلون إلى الله عبيداً {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً, لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:19/93-94] لماذا لا نتهيأ للرحيل؟ لماذا لا نرمم الخربة؟ لماذا لا نجدد الدار؟ حتى إذا جاء ملك الموت يطلب منا الرحيل رأينا دارنا قد تهيأت لنا، ورأينا أن الموت قد أصبح عرساً لنا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن غنموا هذه الحياة الدنيا لزراعة تلك الحياة التي نحن مقبلون إليها، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين