رثاء ووفاء - وفاء للشيخ فتحي يكن رحمه الله تعالى

 

في يوم السبت 20 جمادي الآخرة 1430هـ حملت إلينا الأنباء وفاة علم من أعلام الأمة الإسلامية وداعية من دعاتها الأفذاذ الداعية الشيخ فتحي – الذي أثرى الحركة الإسلامية بكتبة القيمة وفكره النير وتجربته الواسعة، وبهذه المناسبة الأليمة على النفوس كانت هذه الكلمات: 

أستاذنا المبارك الشيخ / فتحي يكن: أخط هذه الكلمات – ويقف القلم عاجزاً عن تسطيرها – لأُعزي نفسي، وأعزي أهلك وذويك ومحبيك، وكلَّ الذين آلمهم وأحزنهم خبر وفاتك، وأقول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك ياأستاذنا لمحزونون ولا نقول إلا مايرضي ربنا). 

فالمؤمن راضٍ بقضاء الله وقدره مهما كان المصاب لأنه على ثقة بأن هذه الدنيا دار فناء وليست دار بقاء، ولو كتب لأحد الخلد فيها لكتب لسيد ولد آدم، سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي نعاه ربه بقوله:{ إنك ميت وإنهم ميتون }

فرحمك الله تعالى أيها الداعية المبارك وأعلى منزلتك وألحقك بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. 

إن العزاء بالعالم والداعية لايوجه إلى أهل الفقيد وأرحامه فحسب، رغم أن مصابهم أكبر وأعمق من مصاب الأخرين، وإنما يوجه إلى الأمة المسلمة بشكل عام لأن المصاب به مصاب للأمة كلها ورضى الله عن الإمام علي بن أبي طالب وكرم الله وجهه الذي أكد على هذا المعنى بقوله: (العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثُلم في الإسلام ثلمة لايسدها إلا خلف منه) "أخرجه الخطيب في تاريخه "، نعم إن المصاب بفقد العالم مصاب للأمة كلها لأن العالم ينير الطريق للسالكين ويوجهم إلى طرق الخير والصلاح ويحذرهم من طرق الغواية والضلال بل ويجتهد في إزالتها والقضاء عليها، فالعالم كالشمعة تحترق لتنير الطريق لغيرها لذلك كان فضله يفوق فضل العابد المنقطع للعبادة وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) "رواه أبو الدرداء مرفوعاً عن أصحاب السنن الأربعة". 

نعم إنه القمر البدر أبو بلال الذي اشتهر بلقب الداعية حتى أصبح هذا اللقب عَلماً عليه وماذاك إلا دليل التوفيق والرضوان إن شاء الله تعالى. 

ويكفى الدعاة شرفاً أن الله تعالى امتدحهم بأجمل مدح ووصفهم بأفضل صفة فقال: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}

فإذا أُطلق اسم الداعية فهو الشيخ / فتحي يكن "رحمه الله"، وإذا سألت كيف أدعو إلى الله تعالى فما عليك إلا أن تقرأ كتاب الداعية الشيخ فتحي يكن (كيف ندعو إلى الإسلام) وإذا أردت أن تعرف المشكلات التي تواجه الدعوة والدعاة فاقرأ (مشكلات الدعوة والداعية) للشيخ أبي بلال، وإذا أردت أيها الداعية إلى الله أن تعرف المزالق الخطيرة التي يتعرض لها الدعاة في طريقهم لتحذرها فما عليك إلا أن تقرأ كتاب الداعية فتحي يكن (المتساقطون على الطريق). 

وإذا شئت أن تنتقل إلى الصحوة الإسلامية لتعرف كيف ُترشد وتوجّه حتى تواكب العصر الذي تعيشة فأقرأ كتاب (نحو صحوة إسلامية في مستوى العصر).. وهكذا. 

ثم إذا أحببت أن تخوض وتعرف خبايا العمل السياسي تجد فقيدنا قد أدلى فيه بدلوه فأصدر كتبه الثلاثة حول التجربه النيابية وهي: 

1- التجربة النيابية بين المبدأ والتطبيق. 

2- التجربة النيابية عبر الإعلام. 

3- التجربة النيابية في الميزان. 

لقد كانت شخصية فقيدنا الكبير متعددة الجوانب فهو الداعية المتفاني في خدمة دعوته، وهو رائد العمل الدعوي ومؤسسه في لبنان، وهو السياسي المحنك، وهو القائد المحبوب المألوف لدى كلِّ من عمل معه، وهو الخطيب المحنك الذي كان يفد إلى سماع خطبته – وهو في ريعان شبابه - العلماء والساسة والمثقفون فيجدون عنده ضالتهم وبغيتهم.

 

 

لقد عرفتُ الشيخ الداعية أبا بلال وأنا شاب يافع منذ مايزيد عن أربعين سنة من خلال كتبه المباركة التي كان لها أكبر الأثر في تربيتنا الدعوية كما عرفته من خلال ماكنت أسمعه عنه من الإخوة اللبنانيين الذين درسوا عندنا في المعهد العلمي الشرعي في مدينة حمص أمثال الشيخ الدكتور / محمود عبود هرموش – مدرس مادة أصول الفقة في جامعة الجنان حيث كان يحدثنى منذ ثلاثين سنة عن خطب الشيخ، وعن دماثته وعن حسن خلقه. 

كما عرفتُ الشيخ من خلال بعض الفضائيات التي كانت تبث له بعض المحاضرات وتجري معه بعض الحوارات. 

ثم عرفت الشيخ عن كثب منذ مايزيد عن سنتين حيث التقيته في بيته في مدينة طرابلس وجلست معه جلسه لاأنساها أبداً حيث لمست فيه التواضع والأناة والحكمة، وصحبته في سيارته إلى وطني الأم سوريا الحبيبة بعد غياب دام سبعاً وعشرين سنة، حيث كان له الفضل بعد توفيق الله تعالى في العودة إلى أهلي وأرحامي... فقد بذل جهده مشكوراً من غير أن يعرف شخصي، فبمجرد أن كلَّمه بعض الإخوة من أهل العلم والفضل بهذا الموضوع وإذا به يسعى سعياً حثيثاً لذلك، ويؤكد لكل مَن يلقاه بأن طلاب العلم والدعاة مكانهم في وطنهم، لقد كان هذا الأمر يشغل باله، ولطالما نصح إخوانه، وسعى في حلِّ هذا الموضوع مع المسؤولين في سوريا، وإني أسال الله تعالى أن تجد هذه البذره التي وضعها الشيخ بيده وسقاها بجاهه وحكمته وحنكته لدى المسؤولين تجاوباً فتؤتي ثمارها حتى تزول الحواجز وتعود المياه إلى مجاريها وخاصة بعد أن فك الإخوان السوريون ارتباطهم بما يسمى بـ (جبهة الخلاص)، هذه الجبهة التي كانت شؤماً على البلاد والعباد، لقد كان – رحمه الله – يؤكد للجميع على ضرورة أن يكون أبناء الوطن كلهم لحمة واحدة، وصفاً واحداً أمام الهجمة الشرسة التي يتعرض لها من أعدائه المتربصين به. 

إن المصالحة الوطنية مطلب كلِّ عاقل وأمنية كل مخلص، إننا ونحن نودع شيخنا أبابلال نتذكر الداعية الحكيم الحريص على ردم الفجوة بين كلِّ المخلصين حتى يفوت الفرصة على الأعداء.

لقد زارني الشيخ "رحمه الله" في مدينتي حمص عدة مرات خلال السنتين الأخيرتين، وكان في كلِّ مرة أجلس فيها معه أزداد له حباً وتقديراً واحتراماً، وأشعر أنني أمام شخص كبير، كبير في فكره، في إيمانه في أخلاقة، في حسن تعامله مع الآخرين ولو اختلف معهم فقد كان "رحمه الله" يتمتع بأدب الاختلاف واحترام الرأي الأخر.

كما كان "رحمه الله" يبذل جهده وجاهه ووقته وماله للآخرين دون كلل أو ملل، ودون تفريق بين شخص وآخر، فيقطع المسافات الطويلة وقد جاوز السادسة والسبعين من عمره في سبيل نشر الدعوة ولقاء أهل العلم والساسة والوقوف على مشاكل الناس، وإصلاح ذات بينهم، لقد قصده المخلصون فقدَّم لهم كل مايستطيع لقضاء حاجتهم وتفريج كربهم، وقصده الوصوليون الذين يريدون أن يكسبوا من اسمه وشهرته فما ضنَّ عليهم فقدم لهم كل مايستطيع أملاً في صلاحهم، يصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، لأنه أهل المعروف وصاحب المعروف، والكبير الذي يستوعب الجميع.

بعد هذه الحياة المليئة بالأحداث الجسام من حياة الشيخ أبي بلال، والمواقف النبيلة، والعطاء المبارك الذي عمَّ الكثيرين يأتي يوم الأحد 21جمادي الآخرة 1430هـ الموافق 14/6/2009م ليُزف هذا العَلَم المبارك عن عمر قارب السابعة والسبعين على أعناق أهل العلم والوفاء إلى رحمة الله ورضوانه، وتودعه الجموع الغفيرة من كل ِّ الأطياف معبرة عن حبها وتقديرها ووفائها للدعاة المخلصين والمفكرين النيّرين من أبناء الأمة المسلمة الذين هم كالمطر كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمتي كالمطر لايدرى أوله خير أم آخره) "رواه الطيالسي"

فرحمك الله أيها الشيخ رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وعوض المسلمين خيراً، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة إنه سميع قريب مجيب. 

وعزاؤنا فيك أنك تركت لنا إرثاً مباركاً من كتبك القيمة ورسائلك التربوية التي كانت نبراساً لكل طالب علم وداعية إلى الله تعالى، فخيرك وعطاؤك مستمر حتى بعد رحيلك فاهنأ – بإذن الله تعالى – بعد هذا العناء الذي عشته في الدنيا بروح وريحان وربًّ غير غضبان، سائلين الله تعالى أن يجمعنا بك وبالدعاة المخلصين في الفردوس الأعلى إخواناً على سرر متقابلين تحت لواء سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم إنه سميع قريب مجيب.

 

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 16/4/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين