هل تتفكك الدولة  الباكستانية على خلفية تحدي طالبان؟ - الدولة الباكستانية وطالبان
هل تتفكك الدولة الباكستانيّة على خلفية تحدّي طالبان؟
بقلم: محمد فايز فرحات
ارتبط بتصاعد العمليات العسكرية للجيش الباكستاني ضد حركة طالبان باكستان وحركة تنفيذ الشريعة المحمدية في إقليم وادي سوات حديث عن مخاوف وتحذيرات من تفكك الدولة الباكستانية. استندت تلك التحذيرات – الغربية والعربية - إلى الكثير من المعطيات، منها القياس على الحالة الأفغانية، والتي شهدت صعوداً مستمراً لحركة طالبان أفغانستان، على نحو أدى ولا زال إلى صعوبة فرض النموذج السياسي لمرحلة ما بعد طالبان، الذي بدأت عملية بنائه منذ كانون الأول 2001، وصعوبة فرض شرعية الحكومة المركزية في معظم الولايات الجنوبية.
غير أن العامل الأهم الذي استندت إليه تلك المخاوف هو تجربة اتفاق وادي سوات الذي تم توقيعه في شباط 2009 بين الحكومة المحلية في إقليم الحدود الشمالية الغربية وحركة تنفيذ الشريعة المحمدية (القريبة من طالبان) ثم إقرار الرئيس عاصف زرداري للاتفاق في 14 نيسان 2009 بعد موافقة الجمعية الوطنية الباكستانية على مشروع الاتفاق.
لقد قرأ هذا الاتفاق باعتباره تعبيراً صريحاً عن ضعف النظام الباكستاني واتجاهه إلى المهادنة مع حركة طالبان باكستان، خاصة في ضوء قدرة الحركة على تنفيذ سلسلة من العمليات ضد الجيش الباكستاني، وداخل الممرات المستخدمة من جانب قوات التحالف الدولية والقوات الأمريكية إلى داخل أفغانستان، وربما قرأته أيضاً باعتباره مقدمة لانهيار الدولة الباكستانية.
بيد أن قراءة دقيقة لاتفاق وادي سوات، ولحجم ومصادر القوة الحقيقية للحركة، ولتوازنات القوى الاجتماعية والسياسية الفعلية، تكشف كلها عن عدم دقة الفرضيات المطروحة حول احتمالات انهيار وتفكك الدولة الباكستانية، دون أن ينفي ذلك القول بأن حركة طالبان تمثل تهديداً حقيقياً للدولة الباكستانية وللمجتمع الباكستاني.
اتفاق سوات.. لن يبقى كثيراً
شكل اتفاق وادي سوات محاولة من جانب نظام زردراي لاختبار سياسة المهادنة والحوار مع الجناح المعتدل داخل حركة طالبان باكستان، في محاولة لتطبيق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفغانستان، التي تقوم على التمييز بين جناح معتدل وآخر متشدد داخل طالبان أفغانستان، في محاولة احتواء الجناح المعتدل، وعزله عن الجناح المتشدد داخل الحركة وتنظيم القاعدة. إلا أن هذه المراهنة سرعان ما ثبت خطأها وعدم دقتها من ناحية، وعدم قابليتها للتطبيق من ناحية أخرى.
أما في ما يتعلق بمضمون الاتفاق ذاته، فيلاحظ أنه انطوى على العديد من الإشكاليات التي كان من الطبيعي أن تقود إلى انهياره. أولى تلك الإشكاليات تتعلق بالنطاق الجغرافي للاتفاق، وهو اقتصاره على منطقة وادي سوات فقط, الأمر الذي كان يعني من الناحية العملية استمرار حالة «الحرب» والمواجهة بين الحركة والنظام الباكستاني خارج سوات، وهو وضع لا يمكن الحديث فيه عن اتفاق هدنة أو حوار حقيقي بين النظام والحركة.
وثانية تلك الإشكاليات تتعلق بتفسير الاتفاق، فقد نشأ خلاف عميق بين الجانبين في ما يتعلق بموجبات وبحدود التزامات الجانبين بموجب الاتفاق، خاصة في ما يتعلق بمسألتين أساسيتين، الأولى هي المعنى المقصود بتطبيق الشريعة الإسلامية، والثانية هي ما إذا كان توقيع الاتفاق يعني تخلي حركة طالبان عن سلاحها أم مجرد وقف العنف ووقف إطلاق النار، ففي الوقت الذي رأت فيه الحركة أن الاتفاق لا يعني سوى وقف إطلاق النار والعنف المتبادل دون التخلي عن السلاح، رأت الحكومة الباكستانية أن الاتفاق يفرض على الحركة التخلي عن السلاح.
والأهم من ذلك، أن السياق الذي وُقع فيه الاتفاق كان من الممكن أن يمثل مجرد مقدمة لاتفاقات مماثلة تغطي أقاليم أخرى خارج سوات. وقد بدأت مؤشرات هذا التوجه عقب توقيع اتفاق سوات، حيث بدأ قادة الحركة في التسلل إلى منطقة (بونير) استعداداً لمحاولة تكرار السيناريو ذاته، وذلك استناداً إلى أن وقف إطلاق النار مع النظام يقتصر على وادي سوات دون غيره من الأقاليم الباكستانية. وقد أضفى هذا التوجه من جانب طالبان درجة كبيرة من المصداقية لدى النظام الباكستاني على التصريحات والمخاوف الأمريكية التي تحدثت عن أن اتفاق سوات لا يشكل سوى مقدمة لمزيد من «طلبنة» باكستان.
الحسابات الخاصة لزرداري
استناداً إلى ذلك، كان من الطبيعي أن ينهار اتفاق وادي سوات، لتأخذ العلاقة بين الجانبين مساراً مختلفاً هو المسار الصدامي. غير أن عوامل أخرى مهمة تزامنت مع العوامل السابقة، عجلت بالقرار الخاص بالعدول عن اتفاق وادي سوات والعودة إلى أسلوب المواجهة العسكرية.
وتتعلق تلك العوامل بحسابات الجناح المدني في السلطة وتحديداً مؤسسة الرئاسة ممثلة في الرئيس آصف زرداري. ففي إطار المراجعات الشاملة التي بدأتها إدارة أوباما للسياسة الأمريكية في منطقة جنوبي آسيا، كان من المنطقي أن تعيد تلك الإدارة حساباتها وتقييمها للقيادتين السياسيتين الرئيسيتين في المنطقة، زرداري، وحامد كرزاي، استناداً إلى الانتقادات الشديدة الموجهة للاثنين، خاصة في ما يتعلق بقدرتهما على مواجهة التحديات الداخلية والإمساك بالتوازنات الاقليمية.
وتزامن مع وصول إدارة أوباما تصاعد الحديث عن تخلي الولايات المتحدة عن كرزاي في الانتخابات الرئاسية القادمة المقررة في آب 2009، كما تصاعد الحديث في مرحلة تالية عن فتح الولايات المتحدة قناة اتصال مباشر مع زعيم المعارضة الباكستانية نواز شريف، رئيس جناح حزب الرابطة الإسلامية الهام. وكان لتلك الإشارات تأثيرها على الرئيس زرداري، فهو أكثر من يعلم في ضوء خبرة نظام الرئيس السابق برويز مشرف عن مدى استعداد الولايات المتحدة لتحريك خيوط اللعبة السياسية من جديد لإنتاج قيادة سياسية جديدة.
وفي ضوء المعطيات والعوامل السابقة، كان من الطبيعي أن ينهار اتفاق وادي سوات، وأن تلجأ الحكومة الباكستانية إلى الاستخدام المكثف للقوة العسكرية ضد طالبان باكستان. وقد كان الاعتماد المكثف على الجيش الباكستاني يحقق مكسباً مزدوجاً بالنسبة لزرداري، الأول أن ذلك كان معناه رسالة قوية للإدارة الأمريكية الجديدة ليس فقط بالتراجع «الكامل» و«الواضح» و«النهائي» عن أي سياسة مهادنة مع طالبان.
أما المكسب الثاني، فيتعلق بتوريط الجيش الباكستاني في تلك المواجهة. اذ على الرغم من أنها قد تمثل جزءاً من وظيفة الجيش في الدفاع عن الدولة الباكستانية، إلا أن توريط زرداري للجيش في تلك المواجهة يحقق مكسبين فرعيين، فمن ناحية لا شك أن توريط الجيش في هذه المواجهة المفتوحة التي لا يمكن تحديد أفقها الزمني بشكل محدد، يعني في التحليل الأخير إبعاد الجيش عن الحياة السياسية، وتحييده، ولو مؤقتاً، في اللعبة السياسية الراهنة في باكستان.
ولا يعني ذلك بالطبع اختزال دفع الجيش إلى هذه المواجهة في المصالح والحسابات الخاصة بالجناح المدني في السلطة، ممثلاً في مؤسسة الرئاسة والحكومة الباكستانية بقيادة حزب الشعب فقط، فالجيش لديه مصالحه وحساباته الخاصة كمؤسسة، يأتي على رأسها الحفاظ على علاقة جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية كشرط رئيسي لضمان تدفق المساعدات العسكرية، واستمرار أنشطة التدريب، كشرط للحفاظ على التوازن الاستراتيجي في شبه القارة الهندية.
انهيار الدولة.. مبالغة كبيرة
ودون التقليل من خطورة التحدي الذي تمثله حركة طالبان باكستان، إلا أن مقولة اتجاه باكستان إلى الانهيار تتسم بدرجة كبيرة من المبالغة، فبالإضافة إلى خصوصية اتفاق وادي سوات، الذي لا يعدو كونه إحدى الآليات النمطية التي غالباً ما يلجأ إليها النظام الباكستاني في التعامل مع الأوضاع القبلية، يجب أن نفهم قوة طالبان باكستان الحقيقية في إطار التوازنات السياسية والاجتماعية القائمة في باكستان.
فمن ناحية، تنتمي طالبان باكستان عرقياً وقومياً إلى قومية البشتون، التي تتركز بالأساس في إقليم الحدود الشمالية الغربية، حيث تتركز أيضاً طالبان باكستان. وبشكل عام، فإن البشتون الذين يشكلون القاعدة الاجتماعية الأساسية لطالبان باكستان، لا يمثلون سوى نحو 15% من سكان باكستان، أي نحو 26 مليون نسمة من إجمالي 170 مليون نسمة، بينما يمثل البنجابيون والسنديين نحو 60% (45% للبنجابيين، 15% للسنديين) بإجمالي نحو 102 مليون نسمة.
وبالإضافة إلى الثقل الديموغرافي لهاتين القوميتين، وتمايزهما عن قومية الباشتون والتوجهات الدينية لحركة طالبان، فإنهم يسيطرون أيضاً على المناصب العليا داخل المؤسسات العسكرية والأمنية والبيروقراطية، الأمر الذي يعني وجود حائط صد قومي وإثني قوي يحول ليس فقط دون انتشار الفكر الطالباني داخل المجتمع الباكستاني، وخارج إقليم الحدود الشمالية الغربية، ولكن أيضاً دون سيطرة طالبان على مؤسسات الدولة الباكستانية، بدءاً من البيروقراطية وانتهاء بالمؤسسة العسكرية, فالسيطرة على تلك المؤسسات لا يمكن فصلها عن ساحة الصراع القومي والإثني داخل باكستان.
وليس من المفارقات في هذا الإطار ملاحظة أن القاعدة الاجتماعية للحزبين السياسيين العلمانيين الأساسيين في باكستان (حزب الشعب، وحزب الرابطة الإسلامية) توجدان في إقليمي البنجاب والسند.
ومن ناحية أخرى، فإن طالبان باكستان لا تمثل كتلة واحدة متماسكة، إذ تضم الحركة عدداً من الفصائل والأجنحة المختلفة، ومن ثم لا يمكن الحديث عن أجندة موحدة للحركة، فهناك من يرفع هدف تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة «العدل الإسلامي»، وهناك من يرفع هدف إنهاء التحالف الباكستاني الأمريكي، وهناك من يكتفي بوقف الغارات الأمريكية المباشرة داخل الأراضي الباكستانية. بكلمات أخرى، فإن إسقاط النظام الباكستاني أو إعادة بناء الدولة الباكستانية لا يشكل هدفاً أصيلاً في حد ذاته، وذلك على العكس من طالبان أفغانستان التي تسعى إلى إخراج القوات الأجنبية وإسقاط نموذج النظام السياسي الذي تم بناؤه بعد الحرب وإعادة النموذج الطالباني.
وخلاصة ذلك أن المواجهة الدائرة الآن بين الجيش وطالبان لا تعدو كونها أحد فصول أزمات الدولة الباكستانية التي لا ترتبط بحركة طالبان بقدر ما ترتبط بعدد من المشكلات الهيكلية الأخرى التي تتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة، والعلاقة بين الدين والقومية، وبطبيعة النظام الفيدرالي القائم، وبطبيعة النظام الحزبي، والنظام التعليمي، وعدم التناغم بين الارتباطات الخارجية والداخلية للنخبة السياسية الحاكمة، فضلاً عن مشكلات التمثيل السياسي للقوميات والإثنيات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين