اليوم الباسم

 

الحياة مليئة بالمتاعب والآلام ، وتسطر الأحزان عند الكثيرين مساحة كبيرة من الصحائف  ، سواء كانت هذه الأحزان مبعثها هموم عامة كرثاء لحال الأمة ، وما آلت إليه أوضاعها ، أم هموم خاصة مثل فقدان عزيز لم يعد بيننا ، قد واراه الثرى ، أو غائب حيل بيننا وبين صحبته ، أو مريض أقعده المرض ويلغ منه مبلغا لم يعد معه يستطيع أن يفرح ، ونحن نجتهد أن ندخل السرور عليه ، وإن كانت قلوبنا تنزف دما لأجله . 

 

في ظل هذه الأجواء الحزينة تمر بنا نسائم موقوتة من كل عام ، يشرع الإسلام لنا فيها أعيادا ، لها زمانها ، وآدابها ، وشعائرها ، ومعالمها ، لكى ننتزع النفس من بين الآهات ، ونشفق على الروح وسط الأنات ، لنبتسم - ولو قليلا - تغييرا لنمط الحياة الذى فرض علينا أن نعتاده ، وتجديدا للروح ، وبعثا للأمل ، ورجاء فى غد أفضل ، يحدونا قول الشاعر :

أعلل النفس بالآمال أرقبها=ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

 

نستقبل الحياة فى يوم العيد بروح أخرى ، غير التى كنا نستقبلها بها بالأمس ، ونبدأها بنفسية أخرى غير تلك التى ألفنا بدءها من قبل ، وكأن شعيرة العيد فى حياة المسلمين تفرض عليهم فرضا أن يبتسموا ، ويفرحوا ، ثم يكون عامل الزمن ، وتعاقب الأيام رحمة أخرى من الخالق بالمخلوق ؛ ليخفف عنه وقع الألم أو الفقد أو الفراق ، ويقل رويدا رويدا حتى يصبح ذكريات من الماضى ، مضت بألمها ، ولم تعد تعمل عملها فى النفس الإنسانية بنفس القدر الذى عملته يوم وقع الألم وحل بها  .

 

شعائر العيد تفرض عليك البسمة ، وتصف يومه بيوم البسمة ، وإن لم تطاوعك نفسك بالابتسام ، فتكلف البسمة مطلوب ، حتى تخرج من حال إلى حال أخرى .

تبدأ اليوم بالتكبير " الله أكبر " فيصغر فى عينك كل ما كان كبيرا ، يكدر عليك صفوك  ، فلا كبير ولا كبيرة ، عندما تكون فى معية الكبير المتعال .

 

وتذهب إلى عبادة مخصوصة هى أبرز شعائر العيد تسمى صلاة العيد ، وهى صلاة التشريق والإضاءة ، فتشرق الروح ، وتنبعث الآمال فى قلبك من جديد ، قال العلماء: سميت صلاة العيد تشريقا لإشراق الشمس وهو إضاءتها لأن ذلك وقتها ، يقال: شرقت الشمس إذا طلعت شروقا ، وأشرقت إشراقا إذا أضاءت.

 

وذكر العلماء للعيد آدابا كثيرة ، تسهم فى تغيير الحالة النفسية للإنسان ، منها : الاغتسال ، والاستياك، ولبس أحسن الثياب. ويسن أن يكون ذلك قبل الصلاة .

 

ولأن العيد يوم باسم فى حياة الأمة ، فلا ينبغى أن تتغلب أية مشاعر سلبية على البسمة ، فتغير الحالة التى أراد الشرع للمسلمين أن يكونوا عليها فى العيد ، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم بساما فى العيد وفى غيره ، على ماكان يحمله من حمل ثقيل، وهم الأمة الكبير ، حتى أجمع رواة السنة والسيرة على أنه : ما كان أحد أكثر بشرا ولا ابتساما منه صلى الله عليه وسلم . 

 

وقال الشافعية فى آداب العيد : يسن إظهار البشاشة والسرور فيه أمام الأهل والأقارب والأصدقاء، وإكثار الصدقات والتهنئة بمثل : تقبل الله منا ومنكم . وصحح مثل هذه التهنئة ابن عابدين الحنفى وقال : بأن ذلك حسن .

 

وإمعانا فى تغيير حالة المسلم فى العيد ، وتهيئة النفس للفرحة ، قال العلماء :  يستحب التطيب والتزين لغير النساء ، فإذا خرجن فلا يتطيبن ولا يتزين لخوف الافتتان بهن.

حتى قال الصاوى فى حاشيته : لا ينبغي لأحد ترك إظهار الزينة والطيب في الأعياد تقشفا مع القدرة عليه، فمن تركه رغبة عنه فهو مبتدع . وذلك لأن الله جعل ذلك اليوم فرحا وسرورا وزينة للمسلمين وورد: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ". 

 

كما يسن للمصلِّي أن يذهب ماشياً إلى المصلَّى أو المسجد في طريق، وأن يعود في طريق أخرى. كما روى البخاري عن جابر - رضي الله عنه – قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.

وفى تعليل مخالفة الطريق ، كنوع من التبشير للمسلم ، قال الصاوى فى حاشيته على الشرح الصغير : " لأجل أن يشهد له كل من الطريقين وملائكتهما ".

 

وكل المسلمين مدعوون لشهود هذه الفرحة الإسلامية الكبرى ، فهى فرحة عامة للأمة برجالها ونسائها ، حتى من لم تملك من النساء جلبابا ، فلتستعر جلبابا من أختها حتى تشهد الخير ، وفرحة المسلمين ، ويوم البسمة .

 

قال ابن حزم فى "المحلى ": " ويخرج إلى المصلى: النساء حتى الأبكار، والحيض وغير الحيض، ويعتزل الحيض المصلى، وأما الطواهر فيصلين مع الناس، ومن لا جلباب لها ، فلتستعر جلبابا ، ولتخرج" . 

 

واستدل بحديث حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت :" أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر، والأضحى : العواتق والحيض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: " لتلبسها أختها من جلبابها " .

 

ثم عقب ابن حزم على ذلك فى المحلى فقال : " لو ادعى امرؤ الإجماع على صحة خروج النساء إلى العيدين، وأنه لا يحل منعهن  لصدق ". 

 

لنجعل من العيد يوما باسما كما أريد له أن يكون فى تشريعنا ، ولنتسامى على الجراح والأحزان ، وإن كانت الهموم تعتمل فى جوانح النفس ، فبسمة اليوم تهيئ لبسمة الغد بإذن الله ، وإن غدا لناظره لقريب .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين