فضل عشر ذي الحجة - عشر ذي الحجة
عشر ذي الحجة
 
بقلم الدكتور : محمد علي الهاشمي
 
لقد كان من رحمة الله بعباده هذه المواسم الدينية المتتالية ، التي جعلها الله
لهم فرصاً يغنمون فيها الخير ، ويُقبلون على البر والتقوى ، فيتلافى المقصر تقصيره ، ويعوّض السادر اللاهي ما فاته من مكاسب الطاعة ومغانم العمل الصالح .
ومن هذه المواسم التي تهب فيها نفحات الهداية الربانية على الناس، وتتفتح أبواب الرحمة لهم، عشر ذي الحجة.
روى الأمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام " يعني عشر ذي الحجة . قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ".
فأكرم بها من أيام ! يرفع فيها العمل الصالح إلى الله ، فيكون من أحب أعمال عباده الطائعين إليه .
وحسب هذه الأيام فضلاً أنها فاقت ببركتها الجهاد في سبيل الله.
في هذه الأيام العشر المباركات يوم من أعظم الأيام في الإسلام ، هو يوم عرفة ، الذي ينتشر فيه الحجيج في أرض واحدة ، وقد وفدوا على الله من شتى بقاع الأرض ، ووقفوا بين يديه بلباس الإحرام النقي الموحد ، ملبين خاشعين ، تخنق أصواتهم الضارعة العبرات ، وتَجِفْ في صدورهم القلوب ، وتسيل من أذقانهم الدموع ، مرددين : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك .
فلا بدع أن يخصّ الله تعالى هذا اليوم العظيم بمكانة كبرى ، فيجعل صيامه من أعظم الكفارات للذنوب ، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي قتادة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة ، فقال : " يكفر السنة الماضية والباقية " .
 وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء ".
 
فيا له من يوم عظيم ! يغسل المسلمون فيه نفوسهم من حَوْب المعصية ، ويطهرون قلوبهم من كدر الخطايا وشوائب الضلال ، وتمسهم رحمة الله ، فلا تمسُّهم بعدها النار .
ولقد بلغ من فضل هذه الأيام العشر ، أن الله تبارك وتعالى أقسم بها وبفجرها وبشفعها ووترها في محكم كتابه ، فقال في مستهل سورة الفجر : ( والفجر ، وليال عشر ، والشفع والوتر ، والليل إذا يسر ، هل في ذلك قسم لذي حجر ) .
فعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : أن الفجر هو فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالي العشر ، والليالي العشر : هي عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف .
وفي تفسير الشفع والوتر قال الإمام أحمد في الحديث الذي يرويه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العشر عشر الضحى، والوتر: يوم عرفة. والشفع : يوم النحر " .
وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الوتر : يوم عرفة ، لكونه التاسع ، والشفع : يوم النحر لكونه العاشر .
وإنه لطبيعي أن تحوز عشر ذي الحجة هذا الفضل العظيم بلياليها وأيامها واويقاتها جميعاً ، لأن فيها يكون الحج ، ركن الإسلام الرابع ، ومرتكزة الوطيد .
 يقول الرسول الكريم في الحديث الصحيح: " بُني الإسلام على خمس: شهادة أن إله الله، وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".
والحج في أيامه الوضيئة المباركة ، من أفضل الأعمال الصَّالحات ، التي تؤدي إلى جنة الخلد والنعيم ، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ورسوله " ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " . قيل : ثم ماذا ؟ قال : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " .
إنها لأيام كريمة ، تحط عن المذنب الخطايا ، وتجرِّده من الآثام ، وتعيده بفضل الله ورحمته نقياً بريئاً كيوم ولدته أمه ، إن هو أقبل على الله بقلب صادق منيب ونفس طائعة مطمئنة ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " .
ولقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يلقاه الحاج الوافد إلى بيت الله من نصب ، وما يحتمله من وعثاء السفر ولأواء الغربة والزحام الشديد ، طائعاً وادعاً راضياً مُسالماً ، لا يخدش حجَّه إثم ٌولا فسوق ، ولا يجرح طاعته عدوان أو معصية ، فرأى في هذا الحج المبرور ضرباً من أفضل أنواع الجهاد ، فقال في الحديث الذي يرويه البخاري عن عائشة رضي اله عنها إذ سألته : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ فقال : " ولكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور " .
فيا أيها المسلمون في كل مكان : إذا أظلتكم أيام الحج المشرقة ، فاغتنموها بالعبادات المنبثقة من القلب ، وأكثروا فيها من العمل الصالح ، واذكروا في هذه الأيام المباركة التي يلتئم فيها شمل المسلمين في رحاب بيته الطهور ، فتقف صوفهم في مكان واحد ، وتتجه إلى قبلة واحدة ، وتهفو قلوبهم إلى هدف واحد ، وتنطلق حناجرهم بصوت واحد ، مرددة : لبيك اللهم لبيك ، أن الله خلق المسلمين أمة واحدة ، وأراد لها أن تبقى أمة واحدة ، دستورها القرآن ، وشريعتها الإسلام ، وقدوتها محمد عليه الصلاة والسلام : (إن هذه أمتكم أمة واحدة ، وأنا ربكم فاعبدون)[ الأنبياء : 92 ].
واذكروا أن هذا التجمع الذي يمثل الأمة الإسلامية على اختلاف الأجناس والأوطان في مثل هذه الأيام المباركة من كل عام ، إنما هو دعوة من الله للمسلمين أن يعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا ، ويعودوا كما أراد الله لهم إخوة متحابين متضامنين : (واعتصموا بحبل الله جميعاًٍ ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخواناً ).[ آل عمران : 103 ]
وأن هذه الوحدة التي عقد الله أواصرها بين القلوب المؤمنة ، هي أكبر منحة ربانية في وجودهم لا يستطيع أن يعقد لواءها أحد ولو أنفق ما في الأرض جميعاً ، وصدق الله العظيم : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم )[ الأنفال : 63 ]. وأن الطريق الوحيد لبلوغ هذه الوحدة هو في اتباع نهج الله القويم، ونبذ كل نهج سواه: ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ).[ الأنعام : 153 ].
ولترتفع دعواتكم أيها الإخوة المسلمون من الأعماق ضارعة خاشعة أن يحقق الله لأمة الإسلام آمالها ويغفر لها زلاتها وتقصيرها ويرد إليها عزتها وسيادتها ووحدتها الإيمانية الكبرى .
اقطعوا العهد أيها المسلمون بين يدي الله وأنتم ي أعتابه الرحيبة الطاهرة أن تكونوا منذ يومكم هذا مطيعين له في كل ما أمر به ونهى عنه، مخلصين في طاعتكم له، لا تبتغون في أعمالكم إلا وجهه، ولا ترجون إلا مرضاته.
إن عشر ذي الحجة أيام كلها بركة وخير وإحسان ، يقضيها المسلمون الأتقياء في عبادة وطاعة وتقوى وبر ، متسابقين إلى العمل الصالح ، حتى إذا شارفت على النهاية أظلهم الله بيوم عيد النحر الذي تعم بهجته المسلمين جميعاً ، فتراهم فيه يعيشون أياماً تظللها الفضيلة ، وتشيع فيها الفرحة ، ويسودها التوادّ والتكافل والشعور الأخوي في صورة راقية ما عرفتها الإنسانية إلا في هذا الدين .
ففي الوقت الذي تنغمس فيه الأمم الشاردة عن الحق في أعيادها بضروب من اللهو والمجون ، تهبط بهم إلى درك الحيوانية ، ترى المسلمين في أعيادهم مرتفعين إلى أفق الإنسانية العالي ، إخوة متحابين متكافلين ، يعبدون الله وهم في ثياب العيد يرفلون ، مُردّدين هذا الهتاف الحبيب : " الله أكبر الله أكبر ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً " .
وهكذا تنتهي الأيام العشرة من ذي الحجة ، بعد أن طهّرت نفوس المسلمين من الخطايا ، ونقّت قلوبهم من أدران الإثم ، وصفت أرواحهم من شوائب الفتن ، وسَمَت بهم إلى عز الطاعة وعلياء الفضيلة ، وجمعت شتاتهم في ساحة الحرم وأرجاء عرفات ، وأظلتهم بعيد عمت فيه الفرحة كل ناطق بالشهادتين.
أعاد الله هذه الأيام المباركة على المسلمين جميعاً، وهم يرفلون في حلل السيادة والمنعة والاعتصام بحبل الله المتين.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين