بين التكفير الديني والتكفير الوطني - ـ
بين "التكفير الديني" و"التكفير الوطني"
عماد الدين الرشيد
23/5/2009
يرى المتابع للساحة الإسلامية اليوم ازدياداً ملحوظاً للتكفير، واتساعاً لنطاقه إلى درجة تدعو إلى القلق. فمن يتصفح المنتديات الالكترونية والمواقع التفاعلية على الإنترنت يجد أنها ميادين واسعة لتبادل التكفير، وليس الأمر مقصوراً على المواقع الدينية، بل يتجاوزها إلى غيرها، فحتى المواقع السياسية تفيض بالاتهامات المتبادلة، فعلى سبيل المثال نجد أن منتدى الجزيرة مسرحاً مهماً للحرب التكفيرية المستعرة.
كما لا يتوقف الأمر أيضاً على الإنترنت، فكثيراً ما نجد حوار بعض المسلمين العاديين مملوءاً بأحكام التكفير، وحيال هذا الأمر وحتى لا يصبح ظاهرة مستعصية على الحل لابد من بيان بعض ما يتعلق بهذا المفهوم الدينيّ، صيانة له عن استعماله في غير محله، وتوضيحاً للكثير من المسلمين وغيرهم لحقيقة ما يجري حولهم.
قبل الدخول في صميم المسألة لابد من بيان أن التكفير ليس مبدءاً منتشراً بين المسلمين بحيث يتخذه عامة المسلمين سلوكاً ضد من يخالفونهم، بل من يعمد إلى ذلك هم القلة بحمد الله، ولكن إذا ما غابت أعين العلماء والمصلحين فسيصبح ظاهرة غالبة-لا قدر الله-.
إن التكفير مبدأ ديني يقوم على بيان خروج المرء عن مظلة الشرعية الدينية إلى حالة الكفر، وله أسباب قولية أو فعلية – ذكرها العلماء في مصنفاتهم - وجلها محل اتفاق بين أهل العلم.
وهذه الأسباب يسميها علماء الشريعة بأسباب الردة، والمرتد هو مَن تلبس بهذه الأسباب - القولية أو الفعلية - التي تدل على خروج المرء عن ربقة الدين، كما أن لها أثاراً دنيوية وأخرى أخروية. ولست في صدد الحديث عن ذلك؛ فقد فصّل أهل العلم قديماً وحديثاً في المسألة، ولعل كتاب زميلنا الدكتور تيسير العمر "الردة وآثارها" من الكتب التي جمعت أحكام الردة في الشريعة الإسلامية، وههنا سأتناول التكفير بوصفه سلاحاً ينزع صاحبُه عن الآخرين غطاءَ الشرعية الدينية، وأما التفاصيل الفقهية فمحلها ما ذكرت آنفاً.
كما لابد من بيان أن العلماء لا يجيزون الحكم بالردة إلا بناء على بينات قاطعة، وليس مجرد احتمالات وظنون لعظم الآثار المبنية عليه، ومن أجل هذا فإن العلماء لا يحكمون بكفر من كانت لديه شبهة في فهم الدليل الشرعي فأخطأ في فهمه على نحو يتناقض مع الدين، قال النووي: (اعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه، فمن يخفى عليه فيعرّف ذلك، فإن استمر حكم بكفره) شرح صحيح مسلم (1150).
ومن هذه الناحية فقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على من يطلقون أحكام الكفر على غيرهم فقال فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما).
وقال فيما رواه البخاري أيضاً عن ثابت بن الضحاك: (من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله).
فالمشكلة تكمن في إطلاق هذا الحكم على من لا يستحقه لمجرد أنه يخالف بالرأي، وهذا ما انتشر في صفوف العديد من الشباب اليوم، ويُخشى من تفاقمه، لذا لابد من البحث عن حلول له.
ولا يمكن الوصول إلى الحل المطلوب لظاهرة ما من غير معرفة الأسباب التي تكمن وراء تلك الظاهرة. ولا يجد من يدرس مسألة التكفير المنتشر مؤخراً سوى واحد من أسباب ثلاثة تشكل المحرك لها والدافع لانتشارها:
الأول يعود إلى استعدادات نفسية لدى هؤلاء تحرض فيهم النزوع إلى التكفير.
الثاني يعود إلى سوء فهم الدين.
الثالث يعود إلى سوء التعايش مع المجتمع والتكيف مع النظام العام.
أما الأول فواضح أنه متعلق بالظروف التربوية والنفسية التي عاش فيها أصحاب هذا التوجه، وتتحمل مسؤوليتها الجهات المعنية بتربيتهم بدءاً من الأسرة فالمدرسة؛ لأنها قد أنيط بها رعاية الأفراد.
أما الثاني فتتحمل مسؤوليته المؤسسة الدينية التي يطلب منها أن تقوم على توضيح أحكام الدين ونشر الشريعة وإقناع الناس بها، والواقع كما نرى أنها منكفئة على نفسها لا تستطيع حل مشكلاتها الداخلية، وهي مصادرة القرار من الجهات العامة، الأمر الذي حال دون أن تتشكل لها مرجعية تقوم بشأنها، فضلاً عن أن تقوم بشأن من يطلب أن ترعاهم. وليس من التجني أن يقال إن المؤسسة الدينية اليوم تسير من غير تمثيل، فالمسلمون اليوم يحيون إسلاماً بلا تمثيل.
أما الثالث فهو مسؤولية المؤسسات العامة التي أدلجت الحياة وصبغتها بلونها السياسي، فهمشت ما سواه من ألوان الحياة، وكان حظ الإسلام المزيد من الإقصاء، ولا ريب أننا لا نعني بالإسلام بناء المساجد وإقامة الصلاة، بل الإسلام "النظام" الذي يسوس الحياة بكل جوانبها، فعندما يرى الشاب المسلم أن المسجد يبنى ولا تقام وظيفته بوصفه مؤسسة تربوية أساسية، وأن إقامة الصلاة تتبع المكان، فتقام في مكان وتمنع في آخر، وأن الإسلام يحبس في أقفاص الطقوس من غير أن يستجاب له في جوانب الحياة العامة.. عندما يرى ذلك من كانت لديه مؤهلات التشدد فسينزع إلى تكفير المجتمع، وسيرى نفسه غريباً معزولاً.
وعندما يرى أن المؤسسات العامة تصادر دور المؤسسة الدينية وتحولها من مؤسسة مجتمع مدني بامتياز إلى مؤسسة من مؤسسات القطاع العام التي سرعان ما تتحول إلى أنقاض، فسيكفِّر النظام العام وأنقاض المؤسسة الدينية قبله، بل سيعدهم مرتدين ومن "زبانية الأنظمة"!!! ولن يميز بين معتدل وغير معتدل؛ لأنه فاقد للرؤية ابتداءاً، فلن يتمكن من التمييز.
إنني أرى أن التكفير حالة مَرضية لا تعالج بالقمع على ما هو الحال في عامة الدول الإسلامية؛ بل إن ذلك سيزيدها ضراوة، وسيتحول أصحابها إلى شهداء في سبيل دعوتهم المنحرفة، والتاريخ يذكرنا بالخوارج وغيرهم ممن كفروا المجتمع في صدر الإسلام، وبأشعارهم في تمجيد الاستشهاد ضد أعدائهم _ المسلمين الذين يشاركونهم شرف الانتماء إلى هذا الدين!!- كما يذكرنا بأن الحروب التي دارت بينهم وبين سيدنا علي رضي الله عنه ما زادتهم إلا ضراوة، وبثت فيهم روح الاستشهاد ضد المسلمين – للأسف - كما أن فتنتهم قد طالت سيدنا علي رضي الله عنه نفسه، فاستشهد بسيوفهم. وعلى الرغم من أن علياً رضي الله عنه كان أفضل الخلق أيام خلافته فإنه لم يتمكن من تسكين فتنتهم. وعندما ولي الخلافة عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله وحاورهم سكنت فتنتهم؛ لأمرين:
الأول أنهم أحسوا بالاندماج بالمجتمع فزالت مشكلتهم النفسية.
الثاني أنهم مشكلتهم الفكرية قد أزالها الحوار العلمي.
فالحل لهذه المشكلة القديمة المتجددة هي باستيعاب أصحاب هذا التوجه، ومحاورتهم.
من المؤسف اليوم أن معالجات هذه الظاهرة لم تكن ناجعة بما يكفي؛ لأن الجهات التي تفردت بمعالجتها قد زادت من وتيرتها من حيث تدري أو لا تدري، ليس بتجنبها الحوار وقيامها على القمع فحسب، بل لأنها كانت تمارس نوعاً آخر من التفكير، الأمر الذي يشكك في قدرتها على حل هذه المعضلة، فالتكفير نزع للشرعية عن المخالف في الرأي، وهذا ما تقوم به هذه المؤسسات أحياناً إذ تقوم بسلب الشرعية عن خصومها لمجرد أنهم يخالفونها في الرأي، فتتهمهم بالارتباط بالعدو وخيانة الوطن و..و..و..إلخ، وهذا لا ريب صورة من صور إسقاط الانتماء والشرعية الوطنية، ويمكن أن يسميه المرء "بالتكفير الوطني". وهذا يعكس الإحباط الذي يعيشه من يسلكون هذا المنهج، وضيق الأفق واحتكار الشرعية لهم والمشروعية لسلوكهم، تماماً كما يعيش من ينتهجون التكفير الديني!! وهذا يسلب عن هذه المؤسسات القدرة على حل هذه المشلكة وفاقد الشيء لا يعطيه؛ لأنه لا يمكن لمن لا يؤمن بوجود الآخر المخالف أن يتحرر من التكفير بأي صورة كان، ولاسيما أنه يرى أن المشروعية لا تستوعب معه إلا مَن يوافقونه الرأي ويدورون في فلكه.
وفي غمرة هذه الفوضى سيجد المواطن المستقل نفسه ما بين التكفير الديني والتكفير الوطني

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين