محاضرة بلا ملل - ـ
محاضرة بلا ملل

عمار يحيى الضايع


لا شَكَّ في أنَّ الأسلوبَ هو راحلةُ الفكرةِ إلى القلوب، فكمْ من أسلوبٍ عَجَزَ عن بلوغِ غاية فكرتِه، فنزلتْ في القلوب دون منزلِها، واستقرتْ في غير محلِّها، فلا أزهرت ولا أثمرت.
والأسلوب معيار مُهمٌّ يتمايز به الأدباءُ والخطباءُ والدعاةُ، فضلاً عن الأساتذة والمحاضرين؛ ولا يشفع لهؤلاءِ علمُهم أو حكمتُهم أو إخلاصُهم أو غَيرَتُهم على الدين إذا عجَز أسلوبهم عن بلوغِ قلوب المتلقِّين.
وهذا في المعلمين ظاهرٌ بَيِّن، ألا ترى الطلابَ –على صغرهم- يقارنون بين مُعلِّمَينِ، فيقولون: أحدهما عنده علمٌ لكنّه لا يستطيع إيصاله للطلاب، والآخر أسلوبُه يَسيرٌ سَهل، يُبسط لك المعلومة حتى تفهمها بسهولة دون تعقيد.
وقد أرشَدَنا الله تعالى إلى ضرورة أن يتحلى المسلم الداعية بالأسلوب المناسب، الذي ييسر وصول دعوته إلى الناس، ويُرغِّبهم فيها؛ ولخَّص السياق القرآني الكريم ذلك بسِمَتَينِ اثنتين: الحكمة، وحُسْن الموعظة، قال سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125] .
ولهذا كان على الداعية والمحاضر -وغيرهما ممن يتصدرون لخطاب الناس- أن يعتنوا بأساليب الدَّرسِ والمحاضرة، وأن يرسلوا فوائدهم على بُسُطٍ من الحكمة والمتعة واللطف، غيرِ مثقلةٍ بالضَّجَرِ والمَلالَة والصَّخَب، علَّها تنزل من القلوب منازل القبول.
وجدير بالذكر أنه لا توجد وصفة سرية محتَكَرة لجعل الدرسِ ممتعًا، بل إنَّ لكل إنسان أن يضيف من "خلطاته الخاصةِ" ما يراهُ أكثر مناسبةً لشخصيته وقدراته، وملاءَمةً لجمهوره ونوعيته؛ غير أن هناك بعضًا من المواصفات والمُحَسِّنات، يمكن –إن وُظِّفت بحكمة- أن تُضفي مزيدًا من المتعةِ على الدَّرس، فتحمل المعلومةَ والفائدةَ على بساطٍ مخملي لطيف يبلغ غايته في القلوب.
وفيما يأتي مرور سريع على بعض المزايا المهمة التي يجدر بالمحاضر أن يُلاحظها في محاضرته:


•    تنويع الأسلوب:
إنّ من جَمَال اللغة أنها تمكّنكَ من أداء المعنى بأساليب متعددة، لكلٍّ منها مزية وفائدة خاصة، والمحاضر الفَطِن ينوِّع في استخدام الأساليب اللغوية، فيتنقل بين الخبر والإنشاء، والتأكيد والتضعيف، والأمر والنهي، والاستفهام، والحوار، والشرط، والتعجّب، والتحضيض، والإنكار... وغير ذلك، فإنَّ هذا ينفي الملل ويوقظ الذهن.
وهذا التنوّع الأسلوبي جليٌّ في القرآن الكريم، ألا ترى أنّ القرآن جاء بمطالب عديدة، لكنَّ أساليب الطلب اختلفت بين آية وأخرى، فنراه –مثلاً- طلب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فاستخدمَ لذلك أسلوب الأمر المباشر، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]؛ وطلب البِرَّ بالوالدين، فاستخدمَ لذلك أسلوب النهي عن أقلِّ الأذى، فقال تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء: 23]؛ وطلبَ إرضاعَ الأمِّ وليدَها، ورزقَ الأبِ وكسوتَه أولادَه، فاستخدم لذلك أسلوب الإخبار، فقال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 233]؛ وطلب التصدّق، فاستخدم لذلك أسلوب الاستفهام، قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد: 11]. والأمثلة على هذا كثيرة جداً، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شواهد مثلها أيضًا.

•    حُسن السَّرد:
ويتمم تنويع الأسلوب اللغوي تنويعُ الأداء الصوتي بما يتناسب مع الأسلوب، من حيث العلوّ والانخفاض، والشدة والرخاوة، ومناسبته لموضوعه من فرحٍ أو حزنٍ أو مفاجأة أو مَكرٍّ أو حُبٍّ أو بُغضٍ...؛ ألا ترى أن الطرفَةَ الواحدة يرويها اثنان، فتستظرفها من أحدهما وتستقبحها من الآخر! وهكذا المحاضر الجيّد يُحسنُ السرد والرواية، فيؤدي بنبرة صوته ما لا يُفصِحُ عنه كلامه من المعاني.
ويدخل في هذا حُسن سردِ القصة، كأن يُحسنَ ترتيب أحداثها، ويركّزَ على المُهمِّ منها، ويتدرجَ بالمستمع، فلا ينتقل به من حدثٍ حتى يشوقه للذي يليه؛ ويؤخر حلَّ الحبكة حتى النهاية، دون أن يُلمِحَ إليها.

•    ليكنْ درسُـك حيّـًا:
إنَّ المحاضر الناجح يضفي على درسه الحيوية ويجنِّبُه رتابة الآلة، ويربأ بنفسه عن أن يكون جهازًا لإلقاءِ الكلام، إنما هو مخاطِبٌ لأحياء عقلاء، يتفاعلون معه بصمتهم كما يتفاعلون معه بكلامهم، يقبَلون وينكرون، ويتساءلون ويفسِّرون؛ فليتعامل معهم وهذا الأمرُ بارزٌ نُصبَ عينيه، وليأخذ منهم كما يعطيهم، فيُسهب حيثما استوقفته نظراتهم، ويلبي استغاثاتهم إذا ضجرتْ وجوههم؛ وليسمعْ منهم كما يُسمعهم، فإن تعذر عليه ذلك فليُثِر أسئلتَهم بلسانه، وليَتْلُ إجاباتِهم بلسانه أيضًا؛ ويرحم الله الشيخ الشعراوي، إذ كان يحمل العلم على أجنحة السؤال، فترى الناسَ مأسورين له، يطوف بهم في كل رَوضٍ بهيج.

•    القـصـة والمَثَـل:
ومما يضفي على الدرس الحيوية أيضًا، أن تأتيَ الأفكار في ثَوبِ القصة، فيرى المتلقون القِيمَ والأفكارَ شُخوصًا، تتحدث بلسانِهم، وتثورُ فيها عواطِفُهم، وتجولُ في أمكنة وأزمنة، فترتبط ثمرة الدرس بواقعهم، وتنزل من النفوس منزل المشاهد المحسوس.
ويُفضَّل في المحاضرة أن تكونَ القصةُ قصيرةً، أو قصيرةً جدًا، رمزيةً، وقد يكتفي المحاضر بالإلماحِ إليها دون سردها، وهذا مما يجري مجرى الأمثال.
وعلى المحاضر أن يتفطّن إلى أنْ يتجه بالقصة اتجاهًا يخدم فكرته، فيركز على الأحداثِ والشخصيات المؤثرة في الفكرة، لا أن يجعل الفكرة تبعًا للقصة، فيستنبط قيمًا وأفكارًا عشوائية ليس يربطها رباط، فيبدو كالضالِّ طريقه، يميل مع الريح حيث مالت به.

•    خير الكلام ما قلَّ ودلّ:
ولا يَحسَبَنَّ امرُؤٌ أنَّ طويلَ الكلام أدعى للإقناع والقَبول من قصيره، بل إنَّ طويل الكلام يُنسي آخرُه أولًه، كما قيل، ولهذا ابتدعت العرب المَثَل، يختصرون به الحكاية الطويلة.
ومن الإطالة المكروهة أن يطيلَ المحاضر في شرح الفكرة الواحدة، فيقول ويعيد، و"يلتُّ ويعجن"، وما هو إلا يحوم حول فكرة واحدة! يعرضها بأسلوب ثم يعود إليها بآخر، بل قد لا يغيِّر أسلوبه!! ونحن المستمعين رازحون تحت وطأة محاضرته، نُقسِم -في نفوسنا- الأيمان المغلظة أنْ قد فهمنا، ولكن لا مجيب!
وليس هذا دعوة للاختصار المُخِلِّ، بل هو دعوة إلى تنويع الأفكار واختيارها بدقة، بحيث يعرض المحاضر عددًا من الأفكار تفي بوقتِ المحاضرة، وتخدم موضوعها دون تكرار أو إطالة؛ فهذا دليل حُسن التحضير، واحترام عقول الحضور، وأمانة المحاضر.




•    بساطة العبارة، وحسن الاستشهاد:
والمحاضر المُجيد فصيحٌ لسانه، بليغة كلمته، سهلة عبارته، بسيطة مفرداته، قصيرة جُمله، فالجمل الطويلة عسيرة الهضم، يأخذ نَفَسًا بين الفكرة وأختها، حتى تستقر في العقول، ويتروى ولا يتعجل، ولا يطلق فوائده كالمدفع الرشاش، تصيب ما تصيب ويخيب أكثرها!
ويوضح أقواله بالأمثلة، ويفسِّر عبارته بالتشبيه، ويستخدم الرمز البسيط لحلِّ الأفكار المعقّدة، ويُسقط نظرياته على الواقع، فيلامس حياة الناس ومشكلاتهم، ويستشهد على كلامه بكلام غيره، من قرآن كريم، وسنة مطهرة، وأقوال العلماء والحكماء، والشعر، والمثل... وغير ذلك.
ولا بُدَّ في الختام من تحذير مهم:
الأسلوب بهارات المحاضرة، لا تكون مستساغة دونه، لكنك تنتفع بالطعام ولو لم يكن مستساغًا، أمّا الإكثار من البهار فإنه يُفسد الطعام.
ومن ينشغل بالأسلوب عن المضمون، فيلوّن محاضرته ويبهرجها دون إعداد جيد لمضمونها العلمي، من حيث انتقاء الأفكار وتحضيرها وتحقيقها، فكأنما يغري مستمعيه ببضاعة فاسدة، وهذا عينُ الغِش.
ومعلوم أنه:
لا أمتع من معلومة نافعة!


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين