الإصلاحات الإسلامية في الحج - كيف كان الحج قبل البعثة المحمدية
الإصلاحات الإسلامية في مناسك الحج وأعماله
بقلم الدكتور نزيه حماد :
لا يخفى أن الحج إلى بيت الله الحرام عبادة قديمة منذ عهد إبراهيم عليه السلام بانيه ومشيده لأول مرة على وجه البسيطة ، وأن هذه العبادة استمرت ودامت حتى جاء الإسلام فجعلها الركن الرابع من أركانه .. ولكن الشيء الهام الذي نود الكلام عنه هو أن أهل الجاهلية قد أدخلوا على هذه العبادة بتوالي العصور وكر الأيام ومر الدهور كثيراً من العادات الجاهلية والبدع والضلالات التي ماأنزل الله بها من سلطان .. كما اصطلحوا على مُحدثات كثيرة،وتواضعوا عليها منذ الزمن القديم ، حتى آل الأمر إلى انحراف الناس عن النهج الإبراهيمي الحنيف في الحج .. ثم توارثت قبائل العرب هذه المناسك مع ما فيها من بدع وحوادث وتحريفات وبُعد عن المقاصد والغايات التي أرادها الله في هذه العبادة.. وفي ذلك يقول العلامة ولي الله الدهلوي في كتابه " حجة الله البالغة " : " إن أهل الجاهلية كانوا يحجون ، وكان الحج من أصل دينهم ، ولكنهم خلطوا أعمالا ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام ، وإنما هي اختلاق منهم ، وفيها إشراك لغير الله ، كتعظيم الصنمين " أساف ونائلة " وكالإهلال " لمناه " الطاغية ، وكقولهم في التلبية : لا شريك لك إلا شريكاً هو لك ، ومن حق هذه الأعمال أن ينهي عنها.
 ويؤكد في ذلك "وقد بقي الأمر على تلك الحال إلى أن جاء الإسلام مزيلا لهذه البدع و الضلالات ومبطلا لها ، فتصدى القرآن الكريم والسنة المشرقة لكل بدعة من هذه البدع ، ولكل موقف من مواقف الجاهلية الدخيلة فاجتثه واستأصل شأفته وأبدله خيراًُ منه .
الطواف بالبيت عراة:
وأول الإصلاحات الإسلامية في مناسك الحج : أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون :" لا نطوف بثياب عصينا فيها " وكان ذلك باباً لفساد كبير ومنكر عظيم ، فنهى الإسلام عن ذلك وأبطل هذا التقليد الجاهلي .
يقول ابن عباس رضي الله عنه : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، فأنزل الله تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) فأمرهم الله بالزينة ، وهي اللباس الذي يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع .. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه : بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .
التحرج من الطواف بين الصفا والمروة :
ثم إن أهل الشرك كانوا يتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة ، فجعل الله الصفا والمروة من شعائر الله ، وفرض السعي بينهما .. وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها : أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا ، هم وغسان ، يهلون لـ " مناه " فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، وكان ذلك سنة في آبائهم ، من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا فأنزل الله تعالى في ذلك : (إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَوف بهما ) [البقرة : 158]
 وقالت السيدة عائشة : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما
الإفاضة من عرفات :
ثم إن قريشاً كانوا يميزون أنفسهم عن سائر الناس ، ويسمون أنفسهم بالحُمْس ـ أي المتحََمسون لدينهم والمتشدِدون فيه ـ وكان من مظاهر تميزهم عن باقي الناس ترفعهم عن الوقوف بعرفات مع الحجيج ، فكانوا يقفون بالمزدلفة ، ولا يخرجون منها ، حتى إذا أفاض الناس من عرفات أفاضوا من مزدلفة ، وكانوا يقولون : لا نفيض إلا من الحرم . فأبطل الإسلام هذا العرف الجاهلي ـ وأنزل الله تعالى في الحُمْس : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) [البقرة : 199 ] أي من عرفات .
 وقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة ، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ، فيقف بها ، ثم يفيض منها ، فذلك قوله عز وجل : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) .
دخول البيوت من الأبواب بعد الإحرام :
وأيضاً فان العرب في الجاهلية كانوا إذا أحرموا بالحج حرََّموا على أنفسهم دخول البيوت من أبوابها تقرباً إلى الله في ظنهم وزعمهم ، ومن أجل ذلك كانوا في حالة إحرامهم يأتون بيوتهم من ظهورها ، فأبطل الإسلام هذه العادة الجاهلية ، وأمر بدخول البيوت من أبوابها. وقد روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، ولكن البر من اتقى ، وأْتوا البيوت من أبوابها ) .[ البقرة :189 ]
وفي رواية أخرى عن البراء : أن الأنصار كانوا إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت ، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه ، فكأنه عير بذلك ، فنزلت الآية ..
 يقول العلامة ولي الله الدهلوي : " إنهم ابتدعوا قياسات فاسدة ، وهي من باب التعمق في الدين ، وفيها حرج للناس ، ومن حقها أن تنسخ وتهجر ، كقولهم : يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها ، وكانوا يتسورون من ظهورها ظناً منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام فنزلت الآية : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) [البقرة : 189] .
 ثم إن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون من مزدلفة إلى منى حتى تطلع الشمس فكانوا يرقبون الشمس وينتظرونها ، فإذا ما طلعت دفعوا من المزدلفة إلى منى ، فأبطل الإسلام هذا المنسك الجاهلي ، وشرع الإفاضة منها قبل طلوع الشمس .
 وقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع ـ وجمع اسم لمزدلفة ـ حتى تطلع الشمس ، وكانوا يقولون " أشرق ثبير كيما نغير " فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس .
ذكر الله بدلا من ذكر الآباء :
وقد كان من عادة العرب في جاهليتهم إذا ما أفاضوا من المشعر الحرام إلى منى أن يجتمعوا عند جمرة العقبة ، فيذكرون مفاخر آبائهم ، ويعدون مناقب أسلافهم ، فنهاهم الإسلام عن ذلك وأبدلهم بما هو خير منه ، وهو ذكر الله ... فقال تعالى : ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر ، بحيث يجعلونه مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد ذكراً .
 وقد أخرج البيهقي في "شعب الإيمان "عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان المشركون يجلسون في الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع ، فأنزل الله على رسوله : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ) [البقرة : 200] .
حمل زاد الحج :
وكان من اعتقاد فريق من العرب استحباب الحج من غير حمل زاد، ويعدون ذلك في سبيل الله، ويقولون: نحن المتوكلون، كيف نحج بيت ربنا ولا يطعمنا ؟! وكانوا يستجدون ويضيقون على الناس ويعتدون ، فأبطل الإسلام هذا المعتقد ، ونهاهم عن ذلك وأمرهم بالتزود ، وقد روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : كان ناس يخرجون من أهلهم ، ليس معهم أزوده ، يقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا ؟!!! فنزل قوله تعالى: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ).
التجارة في الحج :
ثم إنه كان من اعتقاد أهل الجاهلية كراهة البيوع والتجارة في موسم الحج ، وكانوا يتقونها ظناً منهم أنها تخل بإخلاص العمل لله ، ويقولون : هذه أيام ذكر الله .. وفي ذلك تحريم لما أحل الله ، فأبطل الإسلام اعتقادهم هذا ،  وأنزل الله سبحانه على نبيه : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) [البقرة :  198 ].
ذبح القرابين في الحج :
كان من تقاليد العرب في الجاهلية أنهم كانوا إذا ذبحوا القرابين لآلهتهم استقبلوا الكعبة بها ، ونضحوا عليها من دماء الذبائح ، كانوا يفعلون ذلك تقرباً إلى الله في ظنهم وزعمهم ، حتى جاء الإسلام فأبطل ذلك ونهى عنه . وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ، فينضحون بها نحو الكعبة ، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فأنزل الله تعالى قوله : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ) [الحج ]37 .
وهكذا قضى الإسلام على بدع الحج وانحرافاته التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وعاد الحج إلى أصله الإبراهيمي النقي الطاهر القائم على قواعد التوحيد ودعائم الإخلاص لله ربِّ العالمين.
المصدر : مجلة الأمة ، العدد الثاني عشر من السنة الأولى .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين