أدب الطبيب - أخلاق الطبيب
أدب الطبيب
خطبة الجمعة 6/جمادى/1430هـ
الموافق لـ 1/أيار/2009م

للشيخ ابو الهدي اليعقوبي
 
أيها الإخوة المؤمنون.. الموضوع اليوم: (أدب الطبيب) كما وعدنا، ولا شك أن الطب من أفضل الصنائع والحرف، بل إنه مما شرف الله تبارك وتعالى به بني الإنسان لحفظ الأبدان، وفي حفظ الأبدان حفظ العقول والأديان، فإن البدن وسيلة للطاعة، وحفظ البدن يعين على طاعة الله تبارك وتعالى، وفي حفظ البدن حفظ العقل، كما يقول أهل الأمثال في الطب وغيره: (العقل السليم في الجسم السليم) ولذلك جعل الإسلام دراسة الطب وممارسته والاشتغال به طاعة لله تبارك وتعالى.
وهذا أول شيء ينبغي على الطبيب والمريض أن يعلمه، فإن الطب ليس صنعة من الصنائع، يستغنى بها ويطلب بها الكفاف، أو يجمع بها المال. وإنما هو عبادة لله تبارك وتعالى تتضمن عبادات عديدة، فمن جملة ما تتضمن هذه العبادة والصناعة: نشر العلم وبثه فيما بين الناس، العلم المحتاج إليه. وفيها إغاثة الملهوف، يأتيك المريض محتاجاً لمن يعينه على التخلص مما حل به من مرض، أو التخفيف مما به من ألم، فتعينه وتغيثه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم : (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) انظروا إلى هذا المقام الذي أقام الله تبارك وتعالى فيه الطبيب! يأتيه المريض متألماً متوجعاً، يأتيه باكياً لا يدري ما حل به، فيغيثه ويعينه بما خوَّله الله تعالى إياه ووهبه إياه من علم وخبرة وتجربة ودواء، فينفس عنه ما هو فيه، (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).
أيها الإخوة المؤمنون.. تعرفون ما وصل إليه حال الطب وصنعة الطب في هذه الأيام، ومن أجل ذلك أردت أن أتحدث عن آداب الطبيب وواجبات الطبيب، وما ينبغي على الطبيب أن يعنى به. ولا يعني هذا تعميم الحكم على جميع الأطباء، فأنا أحب أن أستثني أهل الصدق، أهل الصنعة والحكمة والأمانة والوفاء، أحب أن أستثني رجالاً من الأطباء يعرفون الصنعة، يعرفون الطب، ويعرفون الأمانة، ويعرفون الصدق والإخلاص، وفيما بيننا وغاب عنا رجال من هؤلاء، وزوايا المجتمع ملأى بأمثال هؤلاء، فنحن لا نعمم الأحكام إذ ننتقد الأطباء أو نتكلم عن حال ما يجري فيما بين الناس الآن، وإنما غرضنا من خطب آداب الصنائع والحرف الإصلاح والتصحيح، قد يكون النقد وسيلة للإصلاح والتصحيح، ولكننا نحاول بإذن الله تبارك وتعالى أن يكون نقداً خفيفاً، فيه الدلالة على الخطأ والعيب، والإرشاد إلى موضع الصواب.
وقد جمعت بعد بحث والاطلاع آداب الطبيب في خمسة عشر أدباً، هي عنوانات كبرى، كل واحد منها يشتمل مواضيع واسعة. خمسة عشر أدباً ينبغي للأطباء أن يتحلوا بها. وقبل أن أبدأ أقول: موضوع أدب الطبيب موضوع لم يغب عن علم الطب قديماً إطلاقاً، وأرجو أن لا يغيب عنه في هذا العصر الحاضر، كل علم له أصول فيه وله آداب في ممارسته ومزاولته، فعلم الطب: دراسة الأمراض والأدوية وطرق العلاج، ولكن لعلم الطب آداب كتب فيها القدماء، وألفت فيها مؤلفات، وبحث فيها الأطباء من أقدم العهود، وتكلم فيها بقراط وجالينوس.. وابن سينا وابن النفيس والرازي من علماء المسلمين.
أول هذه الآداب: الإيمان بالله تبارك وتعالى والتوكل عليه
الإيمان بالله تبارك وتعالى لأن الداء إنما نزل بخلق الله تبارك وتعالى، والدواء إنما يعرف بإلهام من الله تبارك وتعالى وتأييد منه، يرافقه البحث والاطلاع، وإن كان الأقدمون يقولون: إن أول هداية الناس إلى طرق معالجة الأمراض إنما كانت وحياً من الله تبارك وتعالى للأنبياء والمرسلين، ثم كانت بعد ذلك بمراقبة الحيوان، وما يصلح الحيوان من النبات، وما يتجنبه الحيوان وما يأكله في سائر أحواله من صحة ومرض.. ثم تتطور علم الطب بعد ذلك.
التوكل على الله تبارك وتعالى عند معالجة المريض لا ينشأ إلا من إيمان قوي بالله عز وجل، وأنه خالق كل شيء، فهو خالق الداء وهو خالق الدواء، ومهما عَسُر الداء فإن له دواء، كما أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله) يتوكل على الله تبارك وتعالى وإن كانت حال المريض من الصعوبة والعسر بمكان، لأنه سبب من الأسباب، الطبيب سبب من الأسباب يلجأ إليه المريض، والمريض متوكل على الله تبارك وتعالى أيضاً، مؤمن به، واثق بتأييده ومعونته سبحانه.
أما الأدب الثاني فهو: العفة والحياء
العفة عن النظر إلى غير ما يحتاج إليه من النظر، هذا في الرجال، فلا يكشف عورة الرجل إلا إذا احتاج إلى ذلك، ولا يكشف عورة المرأة إلا إذا احتاج إلى ذلك، وبمقدار الحاجة. ومن قواعد الفقه أن (الضرورات تبيح المحظورات) ومن قواعد الفقه أيضاً أن (الضرورة تقدر بقدرها) فلا يزاد عليها، ولا تجعل الضرورة باباً للتوسع والتمتع. فينبغي للطبيب أن يعف عن أعراض الناس، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في خطبة الوداع: (إنما أموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) فحرَّم النبي عليه الصلاة والسلام الأموال والأعراض، ولا يقصد بالأعراض هنا الزنا فحسب، فالزنا حرام يعلم ذلك كل صغير وكبير، ولكنْ الاطلاعُ والجسُّ واللمس والنظر إلا عند الحاجة.. نعم يجوز للرجل أن يطبب المرأة عند الضرورة، ويجوز للمرأة أن تتطبب الرجل عند الضرورة، وقد بوَّب لذلك الإمام البخاري باباً في: مداواة الرجل للمرأة والمرأة للرجل، وكان ذلك يُعمل به أيام الحرب، كما روي في غزوة بدر وأحد أن بعض نساء المسلمين كن يداوين الجرحى ويسقين المرضى، وهذا لا مانع منه لكن بقدر الضرورة. فالورع والعفة والحياء خلق جميل، وقد (رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يعظ أخاه في الحياء، فقال: دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير).
أما الأدب الثالث فهو: حسن الخلق
ولا شك أن حسن الخلق زينة لكل إنسان، ولكن الطبيب يطالب بأبواب خاصة منه، فينبغي به أن يترفق بالمريض وأن يؤانسه بشيء من الكلام، وأن يسأله عن أحواله، وأن يقبل عليه، وإذا لمسه يلمسه برفق، وأن لا ينهره بالحديث أو الإشارة، أو يصرف وجهه عنه إذا تنفس في وجهه بغلظة وشدة، نعم للمريض آداب نعرضها في الخطب القادمة إن شاء الله تعالى. فلا ينبغي للمريض أن يتنفس في وجه الطبيب، بل ينبغي للمريض أن يصرف وجهه عن وجه الطبيب والطبيب يفحصه ويعاينه. لكن ينبغي للطبيب إذا أساء المريض أن لا يسيء هو في الرد والجواب.. أن يترفق بالمريض ترفقاً يفتح معه أبواب الأمل في الشفاء، يفتح معه أبواب الأنس والسرور بالطبيب، لأن المريض إذا لم يأنس بالطبيب لم يقنع بما يعالجه به، ولم يتلق منه ذلك.
ومن جملة هذه الأخلاق أن لا يتعالى عليه، فالمرضى أنواع.. ربما يأتيك مريض من أصحاب الملايين فتكرمه وتهش له وتبش له، ويأتيك مريض من الفقراء فتنهره وتبتعد عنه!!.. هذا لا يجوز، ينبغي أن يساوي الطبيب فيما بين الناس في الإكرام، كما يساوي القاضي فيما بين المتخاصمين. ينبغي أن يكون إقبال الطبيب على المرضى متساوياً، فلا يكرم أحداً لجاهه أو لمنصبه أو لماله، ولا يهين أحداً أو يتكبر عليه أو يتعالى عليه لفقره. وبخاصة أن معظم الناس في بلادنا في الأرياف وأطراف المدن لم يتثقف بثقافة طبية، فترى الطبيب يتعالى عليه ويتكبر عليه، التواضع خلق لا يأتي إلا بخير.
الأدب الرابع: كتمان السر
ربما يأتي المريض إلى الطبيب وقد ارتكب أمراً محظوراً حراماً، فنشأ عنه مرض وتسبب له بعلة، فلا يجوز للطبيب أن ينشر هذا الخبر فيما بين الناس، ولا أن يفشي سر هذا المريض، ولا لأهله - أعني زوجه- إذا رجع إلى البيت مساء، يقول: تعجبين يا امرأة، جاءني اليوم فلان الفلاني من الناس وبه مرض كذا وكذا، لأنه يعاشر النساء!! -مثلاً- .. هذا لا يجوز، يجب كتمان السر، سواء كان في ذلك عيب أو لم يكن في ذلك عيب، فالتشهير ونشر الأسرار ليس من أخلاق المؤمنين، وإذاعة الفاحشة فيما بين الناس ليس من أخلاق المؤمنين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المستشار مؤتمن) والطبيب مستشار، يستشيرك المريض في معرفة أحواله، فينبغي أن تكون أميناً على أسراره.
الأدب الخامس: معرفة الحلال والحرام من الأدوية
وهو وإن كان أدباً لكنه من الواجبات، بعض هذه الآداب من الفرائض والواجبات، وهذا من الفرائض، أن يعرف الطبيب الحلال والحرام من الأدوية، فلا يصف الدواء المحرم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التداوي بالمحرم، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فكما يدرس أنواع الأدوية وخصائص الأدوية وآثار الأدوية ينبغي عليه أن يدرس أحكام الأدوية، ينبغي عليه أن يدرس تلك الأحكام الشرعية، فلا يجوز مثلاً التداوي بالخمر إطلاقاً، نعم، الضرورات تبيح المحظورات، لكن عند فقد الدواء الآخر. مع أن الفقهاء اختلفوا فيما بينهم، أجاز بعضهم التداوي بالمحرم عند الحاجة، وحرَّم بعضهم التداوي بالمحرم، ولكن هذا عند الضرورة لا عند الرخاء، فإن وجد دواء آخر ينبغي عليه أن يبتدئ به، وهذا يقتضي معرفة تفاصيل الأدوية وما تتركب منه الأدوية من الناحية الشرعية.
الأدب السادس: أن يقصد وجه الله تعالى، لا جمع المال
وهذا ربما يحتاج إليه الأطباء في هذا العصر، لأن الطب -نأسف- صار عند بعض الناس وسيلة لجمع المال، صار الطب تجارة!.. الطب شرف، الطب مهنة إنسانية، هكذا يعرفونه، ونحن نقول: وظيفة دينية ربانية، وعبادة شريفة لله تبارك وتعالى.. فينبغي له أن يقصد وجه الله عز وجل، وأن يراقبه سبحانه، والطبيب عندما يطبب الناس ويداوي المرضى شأنه شأن الذي يذكر الله تبارك وتعالى ويصلي ويتلو كلامه سبحانه ويتقرب إلى الله تبارك وتعالى.. نعم، تعدد طرق التقرب إلى الله عز وجل، بعض الطرق دينية وبعض الطرق دنيوية.
ينبغي أن يقصد وجه الله تبارك وتعالى لا جمع المال، بعض الأطباء في هذه الأيام يعين لكل خمس دقائق مريضاً؛ لأنه يريد في آخر اليوم أن يجمع مائة ألف ليرة!.. فينبغي إذن أن يعاين مائة مريض، أو مائة وخمسين مريضاً، فلا يمكث المريض عنده أكثر من خمس دقائق، بعض المرضى ربما يحتاج إلى معرفة دائه إلى شرح حاله إلى فحصه بوجه دقيق.. فمن هنا تبدأ الأخطاء، ومن هنا يجني الطبيب على المريض، لأنه جعل همه جمع المال لا خدمة الناس، ولا التقرب إلى الله تبارك وتعالى.
شأن الرزق شأن آخر، قد تكفل الله تبارك وتعالى به، فينبغي أن يعطي المريض الزمن والوقت الذي يستحقه ويحتاج إليه، وينبغي أن لا يرد فقيراً، وتعرفون في هذه الأيام ربما يحتاج المريض إلى تخطيط قلب، إذا لم يكن معه مال، أول ما يسأله الطبيب: هل أنت مستعد الآن؟.. إذا قال: (أنا مستعد) ماذا تعني؟.. قد لا يعلم، قد لا يعرف.. يعني: هل معك المال؟ اذهب ادفع في الخارج، أو انتظر قليلاً في الخارج.. تقول له الموظفة: هات ثلاثة آلاف ليرة ثمن التخطيط ، إذا لم يكن معه مال، تقول له: ارجع غداً أو بعد غد.. قد يموت المريض وبه علة أو داء في قلبه لا يعرف إلا بالتخطيط والنظر فيما تكشفه الآلات، ويرده من أجل المال! لأنه ما معه مال!.. ينبغي أن يتوكل على الله تبارك وتعالى وأن يغيث الملهوف، وإن لم يكن معه مال يكفي للسداد، فالله تبارك وتعالى يسدد عن كل مريض، والله تبارك وتعالى مع كل مظلوم، والله تبارك وتعالى مع من يغيث الملهوف.
الأدب السابع: البحث والدراسة والاطلاع في اختصاصه
في الطب والأدوية.. فلا يكفي أن يتخرج الطبيب من كلية الطب، وأن يمارس الطب بضع سنوات في المستشفيات ويتدرب، ثم يأخذ شهادة مزاولة المهنة، ثم ينقطع عن القراءة والدراسة.. أهل العلم يقولون:
وأدم للعلم مذاكرة *** فحياة العلم مذاكرته
والأطباء أحوج الناس إلى الاطلاع، لأن البحث ما يزال يتصل، والاكتشافات والدراسات لا تزال تظهر كل يوم في الشرق والغرب، فينبغي له أن يطلع وأن يقرأ، وبخاصة الأبحاث باللغات الأجنبية التي لم تترجم، وتعرفون الفرق فيما بيننا وبين الغرب، لا تترجم الكتب والأبحاث إلا بعد عشر سنين أو عشرين سنة، ربما تكون المؤتمرات وسيلة لذلك، فينبغي أن ينفق من جيبه لحضور المؤتمرات ومتابعة الدراسات الحديثة، البحث والاطلاع خير وسيلة لتجديد هذا العلم. ربما بعض الأطباء ما يزال يصف الأدوية القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب، وتكشَّفَت آثارها الجانبية، وصار من الممنوع وصفُها في الدول الأجنبية، وهو ما يزال ينصح به، لأنه درَس من ثلاثين سنة أن الدواء كذا يشفي من مرض كذا.
فعلى الطبيب مواصلة الدراسة والبحث، فالطبيب الباحث المتمكن من دراسته أفضل من غيره، وقد جاء في ذلك أثر أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جُرح، فحقن الدمُ، أي تجمع الدم داخل الجلد، فدعا له رجلين من أنمار (اسم قبيلة) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكما أطب؟ أي: أيكما أعلم بالطب فقال أحدهما: أو في الطب خير يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إن الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء. فقال أحدهما: أنا أطب الرجلين. يعني أدلى بخبرته، ودل بذلك فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بمداواته فبطَّ بطنه –أي شق بطنه- واستخرج منه النصل وخاطه) فهذا فيه إشارة إلى تقدم الإنسان بالعلم والخبرة والتجربة (أيكما أطب)، وهذا لا يكون إلا بمواصلة البحث والدراسة.
فإن قصَّر الطبيب كان ضامناً، الطبيب الذي يقصر في البحث والدراسة يكون ضامناً لما أخطأ فيه وما أتلفه، وإن قتل ضمِن الدية، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية: (من طَبَّ ولم يعلم منه الطب كان ضامناً) أي: من داوى الناس ولم يكن يعرف منه ذلك، كان ضامناً، وهذا شأنه أيضاً شأن من قصَّر في معرفة أحوال المريض، ومن قصر في البحث عن الأدوية حتى وصف دواء لا يناسب المريض كان ضامناً، وبعض الأطباء في هذه الأيام يقتلون ويفرون ولا أحد يستطيع أن يقيم دعوى على طبيب، وما اجتمعتُ بأحد من الناس إلى هذا اليوم وبحثت معه شأن الأطباء وأخطاء الأطباء إلا وسمعت منه قصة عن قريب له عن أخ عن زوج أو عن حاله، وسبب ذلك: قلة التحري والبحث.. عدم الاطلاع.. الاستعجال.. طلب المال.. هذه أدواء لو تحلى الطبيب بالآداب، وابتغى وجه الله، وأتقن عمله لاكتفى، ولكفى الناس شرَّ هذه الأخطاء.
 
الأدب الثامن: أن لا يشتغل بغير صناعة الطب
يقول الله تبارك وتعالى: ] مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [.. دخلتُ بضع مرات على أحد الأطباء، وكل مرة أدخل عليه أجد شاشة الرائي أمامه وقد فتح على قناة فيها أسعار الأسهم (البورصة)، ويتصل بالهاتف ويتصل الناس به.. هو تاجر في البورصة.. هذا كيف يتنبه لأحوال الطبيب؟!.. قاطعني بضع مرات، رنَّ الهاتف، فأجاب على الهاتف للسؤال والإجابة عن أحوال الأسهم والشركات، وكل ما أخاطبه ويخاطبني أراه ينظر في شاشة الرائي يتابع أسعار الأسهم.. هذا تاجر أو طبيب؟!!.. ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، الذي يريد أن يشتغل بحرفة ما ينبغي أن يقبل عليها بالكلية، والعلماء يقولون: العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، لأن الإنسان يغفل وينسى، فينبغي أن يخصص وقته كله صباحاً ومساء لدراسة الطب ومزاولته، وأن لا يشتغل بحرفة أخرى.
الأدب التاسع: أن يعتني بنظافة جسمه ويديه وطيب رائحته، وتعقيم آلاته وسريره، وأن لا يضن بالمال من أجل ذلك
هناك من الأطباء من يضن بالمال، فلا يشتري القطع والأدوات اللازمة. هناك قمع الأذن مثلاً، عند فحص الحرارة في الأذن لابد من قمع يوضع في ميزان الحرارة الخاص في الأذن، هذا الميزان يرمى بعد ذلك، ولا يستخدم القمع نفسه بين مريض وآخر خشية انتقال المرض، العدوى بخلق الله عز وجل، وكذلك أيضاً عند فحص الفم، وكذلك أيضاً عند تمدد المريض على السرير، ينبغي أن يغير من فراش السرير الورقي ما يبتعد به عن إمكانية انتقال المرض من مريض إلى آخر، فضلاً عن أن ينتقل المرض بواسطته هو، فينبغي أن يغسل يديه بعد فحص كل مريض، حتى لا يكون هو واسطة لنقل المرض من مريض إلى مريض آخر يدخل عليه بعد ذلك.
هذه تعليمات موجودة في كتب الطب الحديثة، هذه التعليمات موجودة في المستشفيات الغربية، ولكن قل اعتناء الأطباء بها في هذه الأيام، لذلك صار التطبيب سبباً لانتقال العدوى من مريض إلى مريض آخر، يدخل المريض ثم بعد نصف ساعة يدخل مريض آخر، فينتقل المرض من المريض الأول إلى المريض الثاني، إما من السرير وإما من يد الطبيب أحياناً.
الأدب العاشر: التحري عن أحوال المريض والاعتناء بدراسة حالته، وأن لا يستعجل
يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم عن سيدنا شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) وفي حديث آخر في الصحيح: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه) أن يتقن عمله، أن يسأل المريض عن أحواله، لا يمكن معرفة سبب المرض إلا بعد محادثة المريض، ماذا أكل اليوم؟ قبل يوم؟ قبل بضعة أيام؟.. أن يعرف أحوال المريض، نظام غذائه، كيف ينام؟ أين ينام؟.
وأنا أعرف بعض القصص من بعض الأطباء الأذكياء، ممن اكتشف سبب مرض رجل عنده التهاب في العين، صار الطبيب يسأله عن أحواله بعد أن داواه، إلى أن عرف الطبيب أن الرجل ينام على ظهره، وأن الطلاء الذي في السقف ينزل في عينه في الليل، لأنه قد اهترأ، فقال له: اطل سقف بيتك! واطَّلَع على سقف بيته فرأى كلام الطبيب صدقاً، فمن معرفة أحوال المريض يمكن للطبيب أن يعينه على التداوي والشفاء، ولا يمكن معرفة المرض وسببه -على أقل تقدير- إلا بعد دراسة واطلاع.
الأدب الحادي عشر: أن يعالجه بالأسهل فالأسهل
لا أول ما يأتي المريض يشق بطنه ويقيم له العمل الجراحي!!.. النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (آخر الدواء الكي) فكذلك الشق أيضاً، ينبغي أن لا يُقدم على إقامة العملية الجراحية له إلا عند تعذُّر الأسباب الأخرى؛ لأن الشق له مخاطر أيضاً. أيها الإخوة، من كلام الأطباء قديماً.. يقولون: أول وظيفة من وظائف الطبيب حفظ الصحة الموجودة، ورد الصحة المفقودة.. هذا من كلام الأطباء قديماً.. حفظ الصحة الموجودة يعني الآن المريض يأتيك، لكن مريض في يده، مريض في رجله.. وإذا به يخرج محمولاً على حمالات!! نسأل الله السلامة.. حفظ الصحة الموجودة أن لا تضر بصحته، الذي جاءك ماشياً جاءك لا يشكو من معدته، نعم بعض الأدوية لها آثار جانبية، فينبغي أن يوازن فيما بين المصلحة والمفسدة، كموازنة المجتهد فيما بين المصالح والمفاسد.
الأدب الثاني عشر: أن يستشير غيره من أهل الاختصاص
وأن لا يترفع عن سؤال غيره إن أعجزه الداء أو أعجزه الدواء.. الاستشارة.. أن لا يتكبر.. أن يبقى طالب علم.. لأن الله تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام في الكتاب العزيز فقال: ]..وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً [ [طه،114] أن يزداد علماً بالمراجعة والسؤال لأساتذته وإخوانه، وبخاصة إن كان الأمر خارجاً عن اختصاصه.
الأدب الثالث عشر: أن لا يكلف المريض ما لا يحتاج إليه
من الصور والفحوصات والتحاليل والأدوية التي لا يطيق المريض ثمنها.. إذا كانت المعالجة تكفي بأيسر الأسباب، ينبغي أن يكتفي بأيسر الأسباب، أن لا يشق على المريض من حيث النفقة.
الأدب الرابع عشر: أن لا يجعل المريض مجال اختبار للأدوية الجديدة بغير علمه
وهذا أدب ربما لا يعرفه إلا القليل من الناس عامة، بعض الأطباء يجعلون المريض ميدان اختبار للأدوية الجديدة، هذا لا يجوز إلا بإذن من المريض، هذا يُصنع في الدول الغربية، لكن يقيمون إعلانات في الصحف، من يريد أن يتطوع لتجربة هذا الدواء، لمرض الربو أو لمرض القرحة في المعدة، فيتطوع بعض الناس، فيتقدمون، فيجرب الدواء عليهم.. أما أن تأتي شركة الأدوية للطبيب بنموذج معين، وتطلب منه النتائج، ويجرب هذا الدواء على المريض من غير أن يعلم بذلك!.. يُجعل المريض ميدان اختبار، وقد سمعنا بقصص حدثت، وعندنا أدلة على ذلك.. هذا لا يجوز إطلاقاً، إنما يجب عليه أن يصف الدواء الذي أجمع الأطباء بغلبة الظن على أنه يشفي من ذلك المرض، لا الدواء الذي ما يزال ميدان تجربة وميدان اختبار.
 
الأدب الخامس عشر: أن يبشر المريض بالشفاء وأن يهون عليه المرض
وهذا من الأمور النفسية، يدخل في باب الأخلاق، ولكننا أفردناه لأن النبي عليه الصلاة والسلام أفرده في حديث أخرجه الترمذي وابن ماجه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا دخلتم على مريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئاً، وهو يطيب نفس المريض) نفِّسوا له في الأجل، أي: افسحوا له في الأجل، أي: أعطوه أمل الحياة. ولا أريد أن أتحدث عن أثر الكلام الطيب في معالجة المرض، أنتم تعرفون ذلك، ويعرف ذلك كل واحد منا، وهو من المتواتر الذي لا يحتاج إلى دليل.. فينبغي للطبيب أن يترفق بوصف المرض للمريض وبإخباره، وبخاصة إذا كان المرض مميتاً قاتلاً، أن يترفق به، فربما يرجع المريض ميتاً قبل أن يموت، وقد ماتت نفسه ومات الأمل في الحياة من قلبه، وقد يخرج وهو على شفا الموت ولكنه بمعنويات -كما يقال الآن- عالية، فيرد الله تبارك وتعالى إليه قوته بكلام الطبيب، الكلام الطيب.
أما آخر هذه الآداب فهو أن لا يتردد الطبيب في زيارة المريض في بيته، وأن لا يتكبر عن ذلك، وأن يسارع إلى الإجابة ليلاً أو نهاراً، وأن لا يطفئ هاتفه، فإن الطبيب مسعف، الطبيب مغيث للملهوف، وقد يموت المريض، وبعض الناس - وبخاصة في الأرياف والقرى- ربما لا يعرف إلا طبيباً واحداً، فيتصل به فلا يرد الطبيب، فيموت المريض في داره. وقد لا يستطيعون حمل المريض إلى الطبيب، فينبغي أن لا يتكبر عن زيارة المريض في داره، وإذا دخل دار المريض أن يكف بصره ويغضه، وأن لا ينظر إلى الدنيا، سواء كان المريض في غنى أو في فقر، وأن لا ينظر إلا إلى المريض، وأن يجيبه وأن يترفق به، فزيارة المريض في بيته تخفف عنه وعن أهله.
هذه بعض الآداب، وهي خمس عشرة أدباً، أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وينفعكم بذلك جميعاً، وسنتحدث في الجمع القادمة إن شاء الله عن المرض الذي انتشر خبره الآن في الشرق والغرب، والذي يسمى بـ: (انفلوانزا الخنازير) وطرق الوقاية من الأوبئة والطواعين والأمراض بوجه عام، وهناك بعض المعلومات مما ربما لا يخرج في شاشات الرائي ونشرات الأخبار عن أصل انتشار هذا المرض، مما قرأناه وعرفناه باللغة الإنكليزية، فيجب أن نعرِّف الناس به وبطرق الوقاية منه. فالخطب القادمة - إن شاء الله - عن الوقاية من الأمراض المعدية ومرض: (انفلوانزا الخنازير).
نحمد الله تبارك وتعالى أن شرفنا بالإسلام، وأكرمنا بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ونسأله سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، إنه سميع قريب مجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين