جند من جنود الله يستيقظ - فيروس انفلونزا الخنازير

جند من جنود الله يستيقظ
للدكتور البوطي في الجامع الأموي

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
إن من سنن الله عز وجل في عباده أنه إذا استشرى الطغيان بالطغاة وركبوا رؤوسهم في الاستكبار على الله وعلى عباد الله واستمر بهم الأمر على هذه الحال إلى أن جاء الميقات المحدد في علم الله عز وجل لإهلاكهم أرسل إليهم من وسائل الإهلاك والدمار أحقرَ ما لا يقيم الناس له وزناً وأتفه ما لا يأبه به هؤلاء الطغاة بل الناس جميعاً، تلك هي سنة من سنن الله عز وجل، وها أنا أضعكم أمام نماذج وأمثلة من ذلك جسدها التاريخ وأحصاها وخلَّدها بيان الله عز وجل في محكم تبيانه للعبرة والعظة. أبرهة ذاك الذي قاده استكبارُه إلى مكة ليطيح ببيت الله الحرام واستاق معه جنداً من الطغاة تتقدمهم الفيلة العظيمة التي جاء بها، وصل إلى مكة وأهلكه الله عز وجل ولكن بماذا أهلكه؟! هل أرسل عليه جنداً آخَرَ أخرجه له من باطن الأرض؟ أم هل أنزل له فيلة أخرى من السماء لتتغلب على فيلته؟ لا، وإنما أرسل أليه طيوراً من جهة البحر سَدَّتْ الأفق الذي أمامه، طيور صغيرة جداً تحمل في مناقيرها وبين أظافرها حصاً صغيرة تقذف بها أبرهة وجنده ما تصيب الحصا منهم واحداً إلا فعلت فيه أشد مما تفعله الرصاصة اليوم، وعاد أبرهة مسرعاً فاراً إلى بلده ولم يصل إلى ذلك المكان إلا وقد تناثر جسمه وحاق به الهلاك، ولعلكم تعرفون أن الشعر الجاهلي خَلَّدَ هذه الحادثة في شعر أمية بن الصلت وكثيرٍ من الشعراء الآخرين، ولماذا أستشهد بالشعر الجاهلي ولا أُذَكِّرُكُمْ بقوله تعالى: ”ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول“. وها هو ذو نواس الذي تأَلَّه ودعا الناس في نجران إلى عبادته من دون الله عز وجل ولكن كثيراً من قومه أصروا على عبادة الله الواحد الديان وأنكروا ألوهيته فحفر لهم خنادق في الأسواق وملأها بالنيران الملتهبة وقذف بهؤلاء المتمردين على ألوهيته في تلك النار، ولما جاء ميقات إهلاك الله عز وجل له ما الذي كان وسيلةً لإهلاكه، لم يواجه الله عز وجل طغيانه بجيش لجب بل أرسل عليه وباءً إليه وإلى جنده ولما رأى الوباء يطوف به وبجنده اتجه إلى البحر متصوراً أن هواء البحر فيه منجاة من هذا الوباء ولكن البحر استقبله ليختنق فيه. وها هو ذا فرعون الذي استكبر وطغى واستكبر على الرسالة التي حملها إليه سيدنا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لما طال به الاستكبار بماذا عالج البيان الإلهي بل الحكمة الإلهية استكباره؟ يقول عز وجل: ”فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آياتٍ مفصلات“، لم يحتج استكبار فرعون وجنوده إلى شيء أكثر من هذا ”أرسلنا عليهم الطوفان“ قال جُلُّ المفسرين المراد بالطوفان الوباء الذي طاف به وبجنده ”والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات“ هذا هو الذي أرسله الله سبحانه وتعالى إليه. وتعالوا إلى قصة نمرود التي اجتمعت محكمته وقضت بإحراق سيدنا إبراهيم خليل الرحمن بالنار، وجريمته التي اقتضت ذلك أنه حطم الأوثان والأصنام، قضت محكمة النمرود بإحراق إبراهيم في النار ولكن محكمة الله نطقت قائلة: ”يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم“، ثم إن محكمة الله عز وجل عادت فقضت بأن يتم هلاك النمرود ببعوضة، بعوضة واحدة لم تخطئ أنفه، دخلت أنفه وتغلغلت منه إلى مخه وعشعشت هذه البعوضة في مخه فكان يعاني من جراء ذلك من مرض وبيل وكان أعز الناس عنده أولئك الذين يضربون رأسه بالنعال أو بما شابه ذلك وإن هي إلا أيام حتى قضى نحبه. تلك هي سنة الله عز وجل في عباده بالأمس وهي ذاتها سنة الله في عباده اليوم وصدق الله القائل: ”سنة الله التي خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا“، فيروس إنفلونزا الخنازير، هذا الاسم مهما ابتغى له الباحثون معنى وتحليلاً علمياً مختلفاً فلن تجدوا لهذا الاسم إلا مسمى واحداً في الحقيقة إنه جندٌ من جنود الله عز وجل يرسله في الميقات الذي يشاء على المستكبرين من عباده ليستقيظوا إلى هوياتهم عبيداً مملوكين لله عز وجل، إنه جند من جنود الله عز وجل يخترق به ترسانة القوى الوهمية التي يستكبر بها هؤلاء الذين يحشدون قوى الهلاك والدمار يُذِلُّون بها عباد الله، يستلبون بها حقوق المستضعفين وقد ظنوا أنهم استطاعوا بذلك أن يضعوا الكرة الأرضية تحت آباطهم وظنوا أنهم قادرون على أن يقودوا الناس بأزِمَّةِ العولمة التي ابتدعوها واخترعوها كما يشاؤون. إنه، هذا الفيروس، جند من جنود الله كتلك الجنود التي أهلك الله بها أبرهة والتي أهلك الله بها ذا نواس والتي أهلك الله سبحانه وتعالى بها أولئك الطغاة الآخرين. هذه الحقيقة ينبغي أن نقولها لنجتث منها العبرة ولنقطف منها الدرس الذي يحب الله عز وجل منا أن نتبينه ونعلمه. قالوا إنها حقيقة طبيعية وراحوا يشرحون ويتكلفون لبيان خلفيات هذا الذي يسمونه الفيروس، وأنا أقول أكان هذا الفيروس المتوضع في الخنازير موجوداً أم لم يكن؟ ما له كان راقداً إلى اليوم وما الذي دفعه إلى اليقظة في هذا الميقات بالذات؟ لقد علمنا أنه قبل عصور طويلة خلت استيقظ هذا الفيروس مرة وفعل ما فعل وأتلف ما أتلف وهلك ما هلك ثم عاد إلى الرقاد، ما الذي جعله يستيقظ حيث نفاجَئ ولا نعلم لذلك سبباً، وما الذي جعله يرقد رقدة الموت حتى لكأنه غير موجود؟ هذا السؤال ينبغي أن نصغي إلى الجواب العلمي عنه. إنها حقيقة، جند من جنود الله موجود يتلقى الأمر من مولاه وخالقه ليتحرك في الوقت الذي يشاء ولينفذ الأمر الذي يُوَجَّهُ إليه كما يشاء وليتلف من يلتف وليبقي من يبقي، وعندما يتلقى هذا الجندُ الأمرَ من الله بأن يعود إلى مرقده يعود إلى مرقده.
 عباد الله نحن اليوم بأمس الحاجة إلى أن نستيقظ إلى عبوديتنا، أما نحن فإنا نعجز عن الشكر اللائق لمولانا وخالقنا أن جعلنا لا نبصر الكون إلا من خلال مكونه ولا نرى الأسباب إلا ويد الله سبحانه وتعالى هي المحرك لها، نحن نعتز بإيماننا هذا، ونسأله سبحانه أن يبقي نعيم هذا الإيمان في عقولنا ووجداناً في قلوبنا إلى أن نلقاه، إلى أن نقف بين يديه، أما الآخرون فها نحن أتوجه إليهم لعل حديثي يبلغهم أو يبلغ من قد يبلغهم: يا أيها الناس الفرصة باقية لم تُطْوَ بعد، عودوا، قفوا أمام مرايا ذاتكم ليقف كل واحد منكم أمام مرآة ذاته ليتذكر أنه عبد، أنه ضعيف، ”يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلقٍ جديد“، يا أيها الناس لا تسكروا بالقوة التي أودعها الله عز وجل لديكم إلى حين، إنها قوة الله، لا تسكرنكم القابليات والإمكانيات التي متعكم الله بها إلى حين، إنكم تنفعلون بها ولكنكم لا تفعلونها، إنها غُرِسَتْ في كياناتكم كما لا تعلمون ولسوف تودعكم إلى غير رجعة كما لا تعلمون، ”إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً“. جنود الله سبحانه وتعالى كثيرة، الهواء الذي ننتعش به ونمارس عن طريقه الشهيق والزفير جند من جنود الله إن شاء جعله سبب هلاكنا، الماء الذي جعله الله أساس كل حياة ”وجعلنا من الماء كل شيء حي“ ما أسرع ما يجعله الله سبباً للهلاك، هذه الدويبة الصغيرة، البعوضة التي قال الله عز وجل عنها: ”إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها“ إذا شاء الله عز وجل أهلك بها أمة بقضها وقضيضها. ما أضعف الإنسان وما أشد ضعفه عندما ينسى ضعفه ويسكر بقوة لا علاقة له بها، قوةٍ أمتعه الله بها إلى حين. اللهم لا تحجبنا عن هوياتنا عبيداً لك، اللهم أكرمنا بذل العبودية لك، اللهم إذا رحلنا إليك اجعل من يقين عبوديتنا لك خير شافعٍ يشفع لنا واصفح عن تقصيرنا في جنبك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

 
‏الجمعة‏، 07‏ جمادى الأولى‏، 1430 الموافق ‏01‏/05‏/2009

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين