أطفالنا والمواقف الدموية - أطفالنا ومناظر غزة
أطفالنا والمواقف الدموية
عامر منير وعمار يحيى

في حرب غزة الأخيرة صار اللون الأحمر صباغ الأشياء والأفكار، فلم تكن شوارع غزَّة وحدها التي اتَّشحت بثوبِ الدم، بل شاشات التلفازُ وأثيرُ الإذاعات وأوراقُ الصحف وأحاديثُ الناس وأسمارُهم وعقولُهم، كلها صارت حمراءُ قانية، كأنما جُبِلت بالدَّم.

وهو طفل صغير، مشاهد الدماء وأصوات الأنين والغضب والدعاء تحيط به، وهو في بوتقةٍ من براءةٍ، تحجب عنه فَهْم الوحشية والعدوان؛ لكنّه يحسُّ بما يدور حوله، تدخلُ الأصواتُ والمشاهد والمشاعر بوتقته، يشعر أن الحياة ليست كما تعودها، إنها ليست على ما يرام!

ويطرح الأهلُ هنا سؤالاً: إلى أيِّ حدٍّ أبقي طفلي في بوتقته؟ هل أنسج حوله ثوبًا من الزهور أحجب به مشاهد الدماء والنيران أم أخرجه منها ليرى حقيقة الدنيا ويعرف أسوَدَها وأبيضَها؟
إنَّ الطفل، وإن كان لا يعي كلَّ ما يجري حوله وعيًا تامًا، إلا أنه يدركه بصورةٍ ما، فهو يدرك استنفار أبيه، ودعواتِ أمِّه، وغضبَ أخيه، وبكاءَ أخته.. ويدرك أنَّ هذا كلَّه سببه ما يجري، وتعرضه شاشات التلفاز، من إيذاءٍ أو قتلٍ لناسٍ يهمنا أمرُهم.

يُدرك الطفل هذا بداهةً، لذا فإن من الوهم محاولة تغطية رأسه دونه، إلا أن تَخرجَ الأسرة كلها من حالة الشعور بإخوانهم، فلا تهتمّ بما يجري ولا تبالي، وهذا لا يُتصوَّر في أسرة مسلمة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في تراحمِهم وتوادِّهم وتعاطفِهم كمَثَلِ الجسد، إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائرُ جَسَدِهِ بالسَّهرِ والحمّى) [رواه الشيخان].

فلما كان الطفل يعيش الحالةَ، كان لا بُدَّ من أن يتلقى التوجيه المناسب لها، التوجيه الذي يتناسب وعمرَه، ويغرسُ فيه قِـيَمًا تمكّنه من الحكم على ما يجري، واتخاذ موقف واتجاه منه في مستقبل حياته. وهنا يأتي دور المربي، الذي عليه أن يصوغ خطابَه إلى الطفل صياغة دقيقة، تعالج الموقف وتجيب على أسئلته، وتغرس القيم.

ويجدر بالمربي أن يراعي في خطابه الأمور الآتية، فتكون حاضرة في ذهنه على الدوام:
الرحمة ومراعاة الطفولة:

يرى بعضُ الآباء أنَّ من اللازم إعطاء الطفل جرعاتٍ مضاعفةً من المشاهد والمواقف الدموية، لتنغرس فيه قيم حبِّ المجاهدين وكراهية الأعداء وضرورة الجهاد... الخ، فيتعمّدون أن يرى أبناؤهم مشاهدَ الدماء الجارية والأشلاء الممزقة والجثث الملقاةٍ، ليبثُّوا خطابهم التربوي من خلالها.

صحيح أنَّ هذه المشاهد تصلح لبث خطاب تربوي - وكلُّ مشهد يصلح- إلا أنَّ الجرعة المقدمة للطفل منها يجب أن تكون مدروسةً بعناية فائقة، فهي تختلف من حالٍ لأخرى، ومن سنٍّ لأخرى، ومن طفل لآخر. والأصلَ في التعامل مع الأطفال الرحمةُ واللطفُ ومراعاةُ طفولتهم، لا جبرهم على مشاهدة ما يخافونه، فقد يُؤخَذُ الطفل بفظاعةِ الموقف الدموي ومَشاهِدِه، أو قد يألفها ويعتادها، فيغفل عما يقصده المربي، وتصله رسالة سلبية معاكسة غير مقصودة.

ولا يعني هذا حجب الطفل عما يحدث لإخوانه، وتغليفه بغلاف وردي، لكن الاعتدال، بحيث يرى ما يتقبله؛ فإن أشاح  بوجهه فلا تكرهه، بل افهم أنه اختار ما يمكنه تحمّله وأعرض عمّا لا يحبُّ أن يراه، وهنا يكون دور المربي الواعي بمخاطبة العواطف، وتوجيه الأفكار، وغرس القيم، وتكوين الاتجاهات.

الواقع والخيال:
قد لا يتقبل بعض الأطفال أنَّ ما يرونه في نشرات الأخبار هو حقيقة واقعة، ويظنونه ضربًا من الخيال أو "فيلمًا" مما تعرضه الشاشات، أو قد  يَعُونَ  أنه حقيقة لكنهم يرون أنفسهم بعيدين عنها، نعم هي حقيقة، لكنها حقيقة لغيرنا وليست لنا!

وهنا يأتي دور المربي، ليبن لهم أنَّه إذا غاب العدل وحلَّ الظلم فإنَّ أيَّ طفل في العالم معرَّضٌ لأن يكون مصابًا بمأساة كهذه، وأنَّ الأمر ليس بعيدًا عن أيِّ واحد منّا، فما من بُقعة في العالم إلا أصابتها البأساء والضّراء.

ومن المناسب أن يستشهد  لكلامه بأمثلةٍ من ذاكرة الشعوب، ومما مرَّ به المسلمون في الماضي (الإيذاء في مكة، وحصار شِعب أبي طالب، ومحاكم التفتيش في الأندلس...) وفي الحاضر (مجازر لبنان وسورية وسراييفو وأفغانستان...)، فإن هذا يُشعِرُ الطفل بواقعية الأمر وحقيقيته، مما يمكّن من غرس القيم فيه، ويحقق أثرها.


قيم بيضاء في صفحة سوداء:
قتامة المشاهد والمواقف الدموية يجب ألا تقودَ المربي إلى بثِّ قِيَمٍ سلبية، تبني طفلاً أسودَ الرؤية، ميّالاً للثأر، مولعًا بالعصبية، محبًّا للعنف؛ فالمربي الماهر يوجّه الطفل ليبني بهذه المشاهد المظلمة طفلاً مفعمًا بالنور.

ومن القيم المهمة التي يمكن غرسها من خلال هذه المواقف (وغيرها كثير) :
-    قيمة "الاصطفاف مع الحق": وهي بديل ومعالجة لعواطف "التعصب" الأعمى؛ فيجب أن يقرّر الطفل في صفِّ مَن هو؟ وأن سبب اصطفافه مع هذا الفريق أنه الفريق الذي لم يعتدِ بل اعتُدي عليه، وأنه فريق الله تعالى، والأحبُّ إليه، فوقوفه معه مِن وقوفه مع الحق، وليس لمجرَّدَ روابط القربى أو الوطنية أو القومية.

والاصطفاف يلزم منه: الشعور بأنَّ هؤلاء المُصابين نحن، نُصاب لمُصابهم، ونألم لألمهم، ونحزن لحزنهم، ونحبّهم، ونبغض عدوهم، وندعو لهم، ونساعدهم مساعدتَنا أنفسَنا، ونذكرهم فلا ننساهم، ونرجو النجاة والنصر لهم؛ ليتحقق فينا قوله سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71].

-    قيمة "العدل ونصرة المظلوم": وهي بديل ومعالجة لعواطف "الثـأر"؛ فالعدل قيمة سامية، يجب أن تكون من القيم المهيمنة في بناء الشخصية المسلمة، والعدل يقتضي مُقاومة الظُّلم، ونُصرة المظلوم، وكفَّ يدِ الظالم.. (أنا أحبُّ أهل غزّة لأنهم مظلومون يسعون لاسترداد حقوقهم، وأكره الصهاينة الغاصبين لأنهم ظالمون، يظلموننا ويسلبون حقوقنا).

ليصل الطفل إلى تقدير كلِّ من يُقاوم الظُّلم ويسعى لإقامة العدل وتقويم المَيْل، ويُقدر التضحية لهذه الغايةِ العظيمة، فيوطن نفسه لتكون هذه هي رسالته في الحياة، (أنا أكره الظالمين، وستكون رسالتي مقاومتهم)، فيتمثّل قول الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة: 8].

-    قِـيَم أخـرى: والقيم التي يصلح غرسها في هذه المواقف كثيرة، منها: قيمة "حبِّ الأوطان وتقدير الدفاع عنها"، فهؤلاء المجاهدون يبذلون أرواحهم رخيصةً دفاعًا عن أوطانهم، وإعلاءً لكلمة الله تعالى، وبذلك استحقوا الأجر العظيم والدرجة العالية..

وقيمة "تقدير الشهادة"، فصحيح أن الشهادة في ظاهرها موت، لكنها في حقيقتها أعلى درجة من الحياة نفسها، ومن نالها فهو أسعد منا نحن الأحياء في هذه الدنيا.

وقيمة "تكريم الإنسان"، فالأعداء باعتدائهم على الأطفال والأبرياء إنما يعتدون على البشرية كلها، ولا يعطون الإنسان حقّه من التكريم الذي أوجبه الله تعالى له.

وغير هذه من القيم التي يجدر بالمربي غرسها مراعيًا حال الطفل وبيئته.

احذر لسانك:
ومن المهم جدًّا هنا اختيار الألفاظ التي تحمِل القيم، فلا نقول: مقاتلون بل مجاهدون، ولا نقول: قتلى بل شهداء، ولا نقول: قتال بل جهاد، فهذه هي الأسماء التي استخدمها ديننا، وهي الألفاظ التي تحمل قِيَمَنا، والمربي ليس ملزمًا بلغة "الحياد" التي يتبناها الإعلام، فالحياد المزعوم وهمٌ، وجدير بالمربي الابتعاد عن الأوهام.

وقد أمر سبحانه وتعالى بالعناية بذلك، فقال: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) [البقرة: 154]، لأنّ كلمة (أحياء) تحمل من القيم ما لا تحمله (أموات)، وهي الكلمة التي تدل على حقيقة حالهم، فهم الأحياء.


فإذا لم ينتصر الخير؟
فإذا لم يكتب الله تعالى للمسلمين النصر في موقعة ما، فما دور المربي؟

الأطفال أعقل منا. نعم، فهم أقدر على تلقي حقائق الأمور من كثير من الكبار، إننا نؤمن أنَّ: (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [آل عمران: 126، الأنفال: 10]، لكن كثيرًا منا عند الهزيمة لا تكفينا هذه الإجابة! لكنها إجابة كافية للطفل، لأنها الإجابة الصحيحة.

نعم، يكفي الطفل أن تقول له: إننا لم نؤدِّ واجبنا، ولم ننصر الله حقَّ النصر، لقد قصّرنا فلم نستحقَّ النصر، والأمر دائمًا كذلك. وبذا يربط المربي الطفلَ بأسباب النصر الحقيقية، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].

السماع منه مفتاح نقاشه:
وبقيَ أن نقول: إنَّ على المربي أن يبني خطابه للطفل وفقًا لفهمه إياه، وما يلحظُ من استجابته وعواطفه، فقد لا يتكلم الطفل بلسانه، لكن تفصح عنه سلوكه وأفعاله.

فعلى المربي أن يقف من الطفل موقف المحاور المُناقش، يَسمع منه قبل أن يجيبه، ويَفهمُه قبل أن يُفهِمه، ويرى بعينيه ما لا يرى بعيني نفسه، ولا  يكفي أن يكون واعظًا خطيبًا، فيجيب على غير سؤال، ويُعالج في غير داء.

والحمد لله رب العالمين


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين