أبو مسلم الخراساني

حدث في الخامس والعشرين من شعبان 137

 

في الخامس والعشرين من شعبان من سنة 137 أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بقتل أبي مسلم الخراساني، عبد الرحمن بن مسلم، أحد القائمين بالدعوة للخلافة العباسية، وأهم من قاموا بنصرتها وتأييدها، وجاء قتل أبي مسلم بعد 8 أشهر من تولي المنصور الخلافة.

 

وتكاد حياة أبي مسلم الخراساني تكون مواكبة لمسيرة الدعوة العباسية في نجاحها بانتزاع الخلافة من الأمويين، وكما هي الحال في أخبار كثير من  كبريات الشخصيات التاريخية، فإن الروايات تتعدد وتتباين حول أسرته ونشأته، ولعل أقربها للصحة أن والده كان يملك عدة أراض قريباً من مرو، في جنوبي تركمنستان اليوم، وكان في بعض الأحيان يجلب إلى الكوفة مواشي، فاشترى منها مرة جارية، وطُلب في مستحق له على الخراج، فهرب إلى أذربيجان، فاجتاز بأراض يسكنها أمير عربي هو عيسى بن معقل العجلي، فترك الجارية عنده، فأدركته المنية هناك، وكانت الجارية قد حملت منه، وفي حدود سنة 100 وضعت الجارية وليدها أبا مسلم في رستاق عيسى العجلي، وهو جد الأمير أبي دلف العجلي المشهور بالمروءة والكرم والشجاعة.

 

ونشأ أبو مسلم في رعاية عيسى بن معقل، فلما ترعرع أرسله مع ولده إلى المكتب، فخرج أديباً لبيباً يشار إليه في صغره، ثم إن أمير العراقين خالد بن عبد الله القسري أمر بحمل عيسى بن معقل وأخيه إدريس إليه في الكوفة بسبب مستحقات عليهما لديوان الخراج، ثم أمر بسجنهما، فقام أبو مسلم برعاية أملاكهما، ولحق بهما في الكوفة، حيث نزل في بني عجل، وكان يتردد إلى السجن ويتعهد عيسى وإدريس فيه.

 

وكان دعاة العباسيين ونقباؤهم يطوفون الأمصار يلتمسون من يؤيدهم وينصرهم، ولقيت دعوتهم قبولاً وانتشاراً في خراسان ثم العراق، وهي قائمة على أن خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون من أهل بيته، وأنه بعد مقتل الحسين انتقلت الإمامة لأخيه محمد بن علي بن أبي طالب، المعروف بابن الحنفية، ويخالفهم في هذا الشيعة الإمامية فيقولون: انتقلت إلى علي بن الحسين زين العابدين، ثم بنيه واحداً بعد واحد إلى المهدي المنتظر؛ القائم بأمر الله محمد بن الحسن.

 

أما العباسيون فيقولون: إن محمد بن الحنفية أوصى بها إلى ابنه عبد الله، وأن عبد الله قصد دمشق وافداً على هشام بن عبد الملك في سنة 98، فرأى من فصاحته ورياسته وعلمه ما دفعه إلى أن يقتله بالسم، فأدركه الموت وهو راجع إلى المدينة، فعدل إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في الحُميمة، قرب الشوبك اليوم في الأردن، فأوصى إليه إذ لم يكن له عقِب، وكان في صحبته جماعة من الشيعة فسلمهم إليه وأوصاه فيهم، ويؤيد العباسيون أحقيتهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ لعبد الله بن العباس أن يكون والد ملوك المسلمين، ويزعمون أن العباس أتاه بابنه عبد الله بعد ولادته فدعا له وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ثم دفعه إلى أبيه وقال له: خذ إليك أبا الأملاك.

 

وجرى تعديل على هذه العقيدة في زمن الخليفة المهدي الذي استند على قاعدة أن أولى الذكور بالرسول من من بني هاشم هو عمه العباس بن عبد المطلب، وقال: إن الإمامة كانت للعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أولى الناس به وأقربهم إليه، ثم من بعده عبد الله بن العباس، ثم بعده علي بن عبد الله، ثم من بعده محمد بن علي، ثم من بعده إبراهيم بن محمد، ثم أبي العباس السفاح، ثم أبي جعفر المنصور، ثم المهدي، ثم مدَّها في ولد المهدي.

 

ولما صارت الخلافة عتد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، شرع في بث الدعاة سراً، وبعد وفاته سنة 126 قام بها ابنه إبراهيم الإمام، وأكثر من إرسال الدعاة إلى الأطراف، خصوصاً إلى خراسان، حيث لقيت دعوتهم إقبالاً واسع النطاق، وصارت معقد آمالهم في قيام دولتهم المرتقبة.

 

ذلك إن الدعوة العباسية أدركت أن الحجاز وأهله قليلون لا تقوم عليهم دولة، وأما شيعتهم الكثر من أهل الكوفة والبصرة فكانوا لا يثقون بهم بعد ما جرى منهم من الخذلان على أمير المؤمنين علي وابنيه الحسن والحسين، رضوان الله عليهم أجمعين،  وأما أهل الشام ومصر فكانوا مع بني أمية ظاهراً وباطناً، فلم يبق للعباسيين من يتوسمون فيه النصرة من أهل الأمصار إلا أهل خراسان، وسنورد بعد قليل نظرة العباسيين إلى جميع هؤلاء.

 

وفي نحو سنة 118 جاء الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب مع بعض من شيعة خراسان، فدخلوا على العجليين السجن مسلمين، فصادفوا أبا مسلم عندهم، فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم، فكشفوا له حقيقة أمرهم وأنهم دعاة إلى إعادة الخلافة لورثتها الشرعيين؛ أبناء عم الرسول العباس بن عبد المطلب.

 

وهرب عيسى وإدريس من السجن، ولم يعد لهم بأبي مسلم حاجة إذ كان وجوده في مكان يدل عليهم، فتحول أبو مسلم من دور بني عجل وسكن مع النقباء، ثم خرج معهم إلى مكة المكرمة، حيث التقى هناك بالإمام الجديد إبراهيم بن محمد الذي تولى الإمامة بعد وفاة أبيه، وقدم النقباء للإمام الجديد ما جمعوه من التبرعات: 20.000 دينار و200.000 درهم، وقدموا إليه العضو الجديد أبا مسلم، فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه، وقال لهم: هذا عُضْلة من العُضَل. أي داهية من الدواهي، وأقام أبو مسلم عند الإمام إبراهيم يخدمه حضراً وسفراً.

 

وكانت خراسان من أولى الولايات التي ظهرت فيها بوادر التمرد العباسي، فقد خرج فيها سنة 117 مالك بن الهيثم الخزاعي وسليمان بن كثير الخزاعي ومعهم عدة من زعماء القبائل العربية المستوطنة هناك، فأفشل التمرد أسد بن عبد الله القسري، وقبض عليهم، ولكنه أطلقهم لضعف الدولة وتفلت أمورها، فتابعوا نشاطهم، وكان للإمام العباسي 12 نقيبا في خراسان، 7 من العرب و5 من الموالي، وكان أكبر دعاة بني العباس في خراسان: أبو سلمة الخلال، حفص بن سليمان الهمداني، مولي السَّبيع، وكان أقدم في الدعوة من أبي مسلم، وأول من أشخصه إبراهيم الإمام بالكتب إلى نقباء خراسان، كان يُعرف بوزير آل محمد، وهو أول من سُمي باسم الوزير في الإسلام.

 

واحتاج إبراهيم إلى رجل يثق بكتمانه ورجاحة عقله ليكون صلة الوصل بينه وبين خراسان، فوقع اختياره على أبي مسلم الخراساني، وقال: إني قد جربت هذا الأصبهاني، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض! فأرسله إلى خراسان وجعله بمثابة الممثل الشخصي له، وأمر من هناك بالسمع والطاعة له، فكان أبو مسلم يختلف ما بين الحميمة وخراسان، ونظراً لشخصيته وكون عائلته من تلك الأصقاع، سرعان ما أصبح أبو مسلم الرجل القوي والمدير الفعلي للدعوة العباسية في خراسان، وما لبث أبو مسلم أن أعلن تمرده علانية في آواخر سنة 129 في مدينة مرو التي منها أصله.

 

ففي الخامس والعشرين من رمضان من هذه السنة، عقد أبو مسلم اللواء الذي بعثه إليه الإمام، ويدعى الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام أيضا، وتدعى السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى في سورة الحج?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ?، ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير وأتباعهم السواد، وصار شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة نارا عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا.

 

ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب أن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الأرض، ومعنى تسمية الاخرى بالظل أن الأرض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم.

 

وكان والي خراسان الأموي يومئذ نصر بن سيار الليثي يخوض حرباً دامت قرابة سنة مع الخوارج الحرورية الذين قادهم شيبان بن مسلمة السدوسي، وتغلبوا على سَرْخَس وطوس، في شمالي شرقي إيران اليوم، ولم تكن تلك سوى إحدى متاعبه، فقد كان نصر على فضله رجلاً فيه عصبية لقومه، فقدمهم على الناس، فثارت العصبية في عرب تلك الديار وتحزبوا؛ أهل اليمن من ربيعة مع أبي مسلم، وأهل نجد والحجاز من مضر مع الأمويين، فزاد أمر نصر بن سيار  ضِغثاً على إبالة، فكتب إلى الخليفة الأموي مروان بن محمد في دمشق يطلب منه العون، ولكن مروان لم يمده بما يريد فقد كان مشغولاً عنه بالخوارج الذين انتهزوا كذلك وهن الدولة الأموية، فخرجوا عليها في الجزيرة الفراتية، فكتب له الأبيات المشهورة:

 

أرى خَلَل الرماد وَميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضِرام

 

فإن النار بالزندين تُورى ... وإن الحرب أولها كلام

 

لئن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثثٌ وهام

 

أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظٌ أمية أم نيام

 

فإن كانوا لحينهم نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام

 

ونقف هنا لنتحدث عن الدعوة العباسية فنقول إن من ثمرات هذه الحركة تقدم العنصر غير العربي، وبخاصة الفرس، واحتلاله المناصب المفصلية فيها ثم في الدولة العباسية، ولذلك أسباب أهمها أن أهل البيت من علويين وعباسيين كانوا ساخطين على العرب لأنهم شهدوا ما يفعله بهم الأمويين من تنكيل وظلم وتشريد ولم ينصروهم على هؤلاء المغتصبين، بل كانوا لهم أعواناً بما كان الأمويون يبذلون لهم من العطايا السخية.

 

ومن ناحية أخرى فتح المسلمون فارس وهي أرض حضارة عريقة فخورة، وكان العرب كذلك، فيهم الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم عريقاً منذ أيام الجاهلية، وبعد الإسلام كانوا يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف، لأنهم الذين أقاموا الملك ونشروا الدين، وكانت دولة الأمويين عربية، وقليل من غير العرب من استطاع أن يصل فيها إلى المناصب العليا، فسخط الفرس من أجل ذلك على العرب وعلى الدولة الأموية، واستعان بهم الثائرون على الأمويين مرة تلو الأخرى، وعلى سبيل المثال كان الموالي أغلب جيش المختار بن أبي عبيد الذي كان أول من طلب ثأر الحسين بن علي.

 

وهكذا كان العلويون والعباسيون يلتقون مع الفرس في كراهة الأمويين، وهو أحد الأسباب التي جمعت بين التشيع والفرس منذ أمد بعيد، فلما جاءت الدعوة العباسية رآها الفرس فرصتهم لينتصفوا من الأمويين ويأخذوا مكانهم المناسب في قيادة الأمة الإسلامية، فأخلصوا لها وتفانوا في إقامتها، وكانت مشاعرهم حيالها خليطاً من الدين والعصبية الفارسية، ولذا قال البيروني عن الدولة العباسية: دولة خراسانية شرقية.

 

ويميل بعض المحللين إلى جعل حركة أبي مسلم الخراساني حركة إحياء مجوسية، وهذا غير صحيح فأبو مسلم كان فارسيا مسلماًً وأسلم بمساعيه كثير من دهاقين الفرس، ومنهم المتنبيء الفارسي به آفريد، والذي أراد بعد إسلامه إحياء الزردشتية ودعا إليها، فقتله أبو مسلم، وكان أهل خراسان يسمون الرماح التي خرجوا بها لنصرة العباسيين: كافركوب، أي مضارب الكفار، فكانوا يرون خروجهم انتصاراً للإيمان على الكفر، وقد كان من نتائج الحركة العباسية وقيام دولتها أن نال العنصر الفارسي نصيبه في الدولة، ثم تمكن فيها واختلط بالعرب ثقافة وديناً وتزاوجاً، ولذا صارت خراسان مصدر عدد لا يحصى من العلماء والأدباء الذين قامت عليهم حضارة الإسلام في تلك الحقبة الذهبية.

 

ويظهر يأس العباسيين من العرب في وصية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أول من آلت إليه قيادة الدعوة السرية من العباسيين، حين وجه دعاته إلى الأمصار، قال لهم: أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف تقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة الفراتية فحَرورية مارقة وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق نصارى، وأما أهل الشام فليسوا يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتوزعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحي وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق، والى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.

 

وقفَّى على هذه الوصية إبراهيم بن محمد بن علي حين قال لأبي مسلم الخراساني حين أمّره على خراسان: يا عبد الرحمن، إنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر فإنهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت فيه، ومن كان في أمره شبهة، ومن وقع في نفسك منه شئ؛ وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله!

 

وبهذه الفتوى الجائرة من إبراهيم الإمام لم يكن من الغريب أن يجعل أبو مسلم هدفه استئصال العرب في مناطق نفوذه، فقد كانوا هم الأمراء ويدينون بالولاء للأمويين الذين عينوهم، وكان بذلك يجتذب تأييد غير العرب بل وحتى العرب من اليمانية الذين لم يكن لهم في الحكم كبير نصيب عند الأمويين، وحاول الأمير نصر بن سيار انتشال العرب من الفرقة والتحزب، وكتب إلى علي بن الكرماني: إن الحرب كانت بيننا على الحمية، وقد كانت لبعضنا على بعض فيها بقية ترجع إلى ألفة العرب، وقد نجم بين أظهرنا من همته استئصالنا جميعا، قد بلغك ما أوقع هؤلاء القوم بنسا وطالقان ومرو الروذ وآمُل، وقلة إبقائهم على حرمة العرب، فهلم فلتجتمع أيدينا عليهم فإذا حصدناهم عاودنا ما كنا فيه، أو حكمناك فأنفذنا حكمك، ورضينا بذلك.

 

وعلم أبو مسلم بهذه المحاولة فكتب إلى ابن الكرماني يخدعه ويقول: أنا معك. وانخدع ابن الكرماني وانحاز إليه فقاتلوا نصر بن سيار، وأراد نصر أن يشق معسكر أبي مسلم فكتب إليه: إني أبايعك، وأنا أحق بك من ابن الكرماني. وزاد هذا من قوة أبي مسلم المعنوية بين الناس، وكثر جيشه، وهرب نصر بن سيار، ومات في طريقه إلى العراق في أول سنة 131، وكانت ولايته بخراسان عشر سنين. وبعث أبو مسلم جيشاً إلى سرخس استطاع هزيمة شيبان الحروري وقتله.

 

وكانت الدعوة العباسية قائمة على السرية المطلقة، ولم يكن أغلب أنصارها يعلمون من هو زعيمها وإمامها، بل كانوا حين يعطون البيعة يبايعون رجلاً من آل البيت لا يعرفون هويته، ولكن الخليفة الأموي مروان أتي في سنة 132 بكتاب من إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني يوبخه فيه حيث لم ينتهز الفرصة التي أمكنته من نصر، ويعاتبه على تأخره في القضاء عليه، فانكشف أمر الإمام إبراهيم بن محمد، وأرسل مروان من قبض عليه في أراضيه بالحُميمة، وأحضره إلى حرَان حيث قتله، وكان عمره 51 سنة، ولكن إبراهيم بن محمد كان قبل مغادرته الحميمة قد أوصى بالأمر لأخيه عبد الله، المعروف بأبي العباس السفاح، وأمر العباسيين بالمسير إلى الكوفة حيث أنزلهم أبو سلمة الخلال وكتم أمرهم.

 

ويجدر أن نذكر أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أخرج علي بن عبد الله بن العباس من دمشق وأنزله الحميمة في سنة 95، ولم يزل أولاده بها إلى أن زالت دولة بني أمية، وولد له بها نيفٌ وعشرون ولداً ذكراً، ونذكر كذلك أن السفاح لُقب بذلك لأنه في أول خطبة له في الكوفة قال: أنا السفاح المبيح، والثائر المبير.

 

وفي أول سنة 132 وثب أبو مسلم على والي نيسابور فقتله، وقعد في الديوان وسُلِّم عليه بالإمرة، وصلى وخطب ودعا لأبي العباس السفاح أول خليفة عباسي، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وصفت له خراسان، وانقطعت عنها ولاية بني أمية، ولم يمض شهر ونيف حتى ظهر أبو العباس السفاح بالكوفة وبويع بالخلافة.

 

وبأمر الإمام الذي سبق كان أبو مسلم لا يتردد في سفك الدماء حتى قيل إنه قتل ستمئة ألف شخص وقيل مليوني شخص، وأياً كان العدد فهو كارثة شديدة لأنه يشكل نسبة كبيرة من عدد السكان آنذاك، وقام بهذه المقتلة تحت شعار الشك في ولائهم، وشقهم عصا الطاعة لسلطان الرايات السوداء الذي بشر به الرسول في حديث ضعفه العلماء ورد عند الإمام أحمد مرفوعاً عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي.

 

وفي سنة 132 قتل أبو مسلم سليمانَ بن كثير، الذي كان أسبق منه في الدعوة العباسية في خراسان ورأسها، ولعل ذلك ليخلو من أي منافس على زعامته ولتبقى بيده وحده مقاليد الأمور في خراسان، وممن قتلهم كذلك أبو مسلم؛ المحدث الزاهد إبراهيم بن ميمون الصائغ المروزي، وكان أبو مسلم أيام بني أمية قد عاهده على القيام بالحق، والذب عن الحُرِم، فلما ملك أبو مسلم وبسط يده، دخل عليه إبراهيم الصائغ، فوعظه ونهاه دون خوف أو وجل، فلم يلبث أبو مسلم أن قتله في سنة 131، وبلغ خبره أبا حنيفة فبكى عليه بكاء شديداً إذ كان من مشايخه في الحديث.

 

وبسبب هذا الإمعان في القتل ثار على أبي مسلم شريك بن شيخ المهري، الذي كان من أنصاره في بخارى، ثم نقم عليه سفكه الدماء، فخرج ثائرا عليه في سنة 133، وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد! أن تسفك الدماء وأن يعمل بغير الحق. وآزره أكثر من ثلاثين ألفا، فوجه إليه أبو مسلم جيشا، فقاتله إلى أن قتل.

 

وكان السفاح قد تحرك من الكوفة إلى ناحية الموصل، فأعد الخليفة الأموي مروان بن محمد جيشاً للقضاء عليه من 100.000 رجل جمعه من القبائل العربية التي كانت في أغلبها مؤيدة للحكم الأموي، وجاء أبو مسلم على رأس جيش من خراسان لقتال لينضم إلى الجيوش العباسية التي كان يرأسها عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، والتقت هذه الجيوش مع مروان على نهر الزاب بين الموصل وإربل، وتخاذل أصحاب مروان ثم تنادو بالفرار، وانكسر عسكر مروان وهرب هو إلى الشام، ونظر إلى أصحابه مع كثرة عَددهم وقوة عُددهم ولِـما قد ظَهَرَ فيهم من الفشل، وما حل بهم من الجزع والوجل، فقال: إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة.

 

وتبعه عبد الله بن علي إلى دمشق، ونازلها وحاصرها وفتحها بالسيف، وقتل من أهلها كثيراً، وتتبع بني أمية دانيهم وقاصيهم وأسرف في قتلهم، ولم يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة، وهرب مروان بن محمد من الشام إلى مصر، فأقام عبد الله بدمشق، وأرسل جيشاً وراءه حتى أدركه في قرية بوصير عند الفيوم فقتلوه بها في 27 ذي الحجة سنة 132، واحتزوا رأسه وبعثوه إلى السفاح، فبعثه السفاح إلى أبي مسلم وأمره يطيف به في بلاد خراسان، واستقل السفاح بالخلافة، ولم يعد له من منازع، واستوزر أبا سلمة الخلال، وكان السفاح كثير التعظيم لأبي مسلم لما صنعه ودبره.

 

وكان أبو مسلم يقول: ارتديت الصبر، وآثرت الكتمان، وحالفت الأحزان والأشجان، وسامحت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي. وأنشد في ذلك:

 

أدركتُ بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا

 

ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا

 

حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحد

 

ومن رعى غنماً في أرض مَسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد

 

ولا بد أن نشير أن الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد كان صاحب رأي وتدبير ومبادرة، ولُقِبَ بالحمار لما أبداه من جَلَد في محاربة أعدائه من الخوارج والعباسيين والروم، كان يخرج من معركة إلى معركة، ولكن كثرت البثوق عليه، قيل لمروان: ما الذي أصارك إلى هذا قال: قلة مبالاتي بكتب نصر بن سيار لما استنصرني وهو بخراسان. وقيل لأبي مسلم: ما كان سبب خروج الدولة عن أبي أمية؟ فقال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقةً بهم، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم، فلم يصر العدو بالدنو صديقاً، وصار الصديق بالبعاد عدواً.

 

و في سنة 132 اغتيل أبو سلمة الخلال ولما تمض عليه 4 أشهر في الوزارة، وذلك بعد أن خرج في الليل من سمره عند أبي العباس السفاح؛ وثب عليه جماعة وخبطوه بالسيوف، وأصبح الناس يقولون: قتله الخوارج، وتناولت الشائعات مقتله، فمنها من يزعم أن السفاح اطّلَع أن الخلال يريد خلع بني العباس وأن تصير الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب، فأمر أبا مسلم بتدبير مقتله سراً، ويدللون على ذلك بأنه لم يُبْد أسفاً على مقتله، ومنها من يتهم أبا مسلم وحده بقتله ليخلو له وجه السفاح، ولعل هذا هو الأصح، فقد كان أبو سلمة صيرفياً ثرياً أنفق أموالاً كثيرةً في إقامة الدولة العباسية، وكان السفاح يأنس به لأنه كان ذا مفاكهةٍ حسنةٍ، ممتعاً في حديثه، أديباً عالماً بالسِّياسة والتدبير، ولعل مما يؤكد ذلك أن يتمنى سليمان بن المهاجر البجلي لمن يكرهه أن يلي الوزارة، فقال في مقتل الخلال:

 

إنَّ المساءة قد تسرُّ وربِّما ... كان السُّرور بما كرهت نذيرا

 

إنَّ الوزير وزير آل محمدٍ ... أودى فمن يشناك كان وزيرا

 

وفي سنة 136 استأذن أبو مسلم الخراساني أبا العباس السفاح في الحج، ولما كان هذا يعني أن يجعله أمير الحاج لمكانته وسابق يده في الدولة، أوعز أبو العباس لأخيه أبي جعفر وولي عهده أن يعلن نيته في الحج، وجعله على الحاج، ولما كانا في طريق العودة جاء الخبر من العراق أن أبا العباس السفاح، المولود سنة 104، قد توفي بالأنبار بعلة الجدري، وأن الأمير عيسى بن موسى، ابن عم السفاح والمنصور، قد أخذ البيعة للمنصور من الناس، وتلقب أبو جعفر بالمنصور، وكانت سنه آنذاك 41 سنة.

 

ولكن الأمور لم تستتب للمنصور، فقد أبى بيعته عمه عبد الله بن علي، والبالغ من العمر 33 سنة، وكان قائد الجيوش التي سارت إلى الشام فأخضعتها وأزالت ملك الأمويين عنها، ودعا إلى نفسه، وأقام شهودا بأن السفاح جعله الخليفة من بعده، وأنه على ذلك سار لحرب آخر خليفة أموي؛ مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان فهزمه واستأصله.

 

وطلب المنصور أبا مسلم الخراساني وقال له: إنما هو أنا أو أنت، فسِرْ إلى عبد الله عمي، فسار بجيوشه من الأنبار، وسار عبد الله لحربه، وخشي عبد الله أن يخونه الخراسانيون الذين في جيشه، فأمر بقتل سبعة عشر ألفا منهم! ونزل على نصيبين، في جنوبي تركيا اليوم، وأقبل أبو مسلم بجيوشه واستعمل المكيدة مع عبد الله فكتب إليه: إني لم أومر بقتالك، وإن أمير المؤمنين ولاني الشام وأنا أريدها، فتنح عن طريقي. وكان هدفه من ذلك بث القلق على الأهل والأولاد في صفوف الشاميين من جند عبد الله، والذين قالوا لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا فيقتل ويسبي؟ ولكن نعود إليها لنمنعه عنها. فقال لهم: إنه ما يريد الشام، ولئن أقمتم، ليقصدنكم. فأبوا إلا المسير إلى الشام، فارتحل عبد الله نحو الشام، فنزل أبو مسلم في معسكر عبد الله، وغوَّر ما حوله من المياه، فقال لأصحابه: ألم أقل لكم؟! ورجع فنزل في مكان عسكر أبي مسلم الذي كان به أولاً.

 

وكان المنصور قد أرسل مع أبي مسلم الحسنَ بن قحطبة وهو أحد القادة الشجعان المتمرسين بالحرب، فأرسل رسالة إلى أبي أيوب المورياني وزير المنصور يقول فيها: إني قد رأيت أبا مسلم إذ يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحكان استهزاء، فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال: نحن لأبي مسلم أشد اتهاما منا لعبد الله بن علي، إلا أنا نراعي أمراً وهو أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن علي وقد قتل منهم من قتل.

 

وجرت بين الطائفتين وقعات مختلفة على مدة خمسة أشهر، انتصر فيها أهل الشام أكثر من مرة فقد كانوا أكثر فرسانا، وأكمل عدة، وكاد جيش أبي مسلم أن ينهزم، وأبو مسلم يثبتهم ويرتجز:

 

من كان ينوي أهله فلا رجع ... فر من الموت وفي الموت وقع

 

وفي إحدى المعارك مكر أبو مسلم بخصمه، فأمر الميمنة أن تتحول إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام، فانهزموا وانهزم عبد الله بن علي، وأمَّن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحدا، واحتاز ذخائر عبد الله، وكانت خزائن عظيمة، لأنه كان قد استولى على جميع أموال بني أمية، وكتب أبو مسلم إلى المنصور بذلك، فكتب إليه المنصور: احتفظ بما في يدك، وأرسل مولاه أبا الخصيب ليحصي الأموال، ولم يخف أبو مسلم غضبه من ذلك واعتبره تخويناً له، وقال: أنكون أمناء في الدماء وخونةً في الأموال؟!

 

واستوسقت الأمور لأبي جعفر المنصور بعد هذا النصر الذي أتاه به أبو مسلم الخراساني، ولم يعد عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد يشكلان أي تهديد له، وهرب عبد الله إلى أخويه سليمان وعيسى بالبصرة فتوسطا له عند المنصور فأمنَّه، وتوفي سنة 147، سقط عليه البيت، واتُهم المنصور بتدبير ذلك.

 

وأراد المنصور التخلص من أبي مسلم الخراساني، فلم تكن بينهما مودة من قبل، وهو أمر نصح به السفاحَ عندما أرسله في سنة 133 إلى أبي مسلم في خراسان ليأخذ عليه البيعة، فرأى رأي العين قوة أبي مسلم، وسفكه للدماء، فلما رجع من عنده وقال للسفاح: لستَ بخليفة إن أبقيتَ أبا مسلم. قال: ولماذا؟ قال: ما يصنع إلا ما يريد. قال: فاسكت واكتمها. ولما تولى المنصور الحكم ما كان ليقبل أن يكون بجانبه أبو مسلم يظلله بنفوذه أو دالته، ولا يخضع له تمام الخضوع، ولذلك عزم على قتله واستشار عدة أشخاص منهم سَلَم بن قتيبة بن مسلم الباهلي فقال له: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ فقال له الآية من سورة الأنبياء: ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا?، فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذناً واعية.

 

وكان هناك جانب شخصي أجج العداوة، فقد كان أبو مسلم يستخف بالمنصور وهو أمير، وكان آخر ما نقمه عليه المنصور أنهما لما حج معاً، تصرف أبو مسلم ليطغى وجوده على المنصور، فتقدم بالإحسان إلى الوفود، وإصلاح الطريق والمياه، ليصير الذكر له.

 

ولم يكن أبو مسلم الخراساني غاقلاً عن نفور المنصور منه، وأن مآله معه هو القتل، وإلا فالسجن في أحسن الأحوال، فعاد يريد خراسان مركز قوته، ولكن المنصور احتال عليه وكتب إليه: إني قد وليتك الشام ومصر، وهما خير من خراسان، فابعث إلى مصر من شئت، وأقم أنت بالشام، لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين، إذا أراد لقاءك كنت منه قريبا.

 

وتخوف أبو مسلم من هذا التعيين والتفَّ عليه بأن قال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذاً أذهبُ إليها وأستخلفُ على الشام ومصر. وأرسل إلى المنصور رسالة تعبر عن مخاوفه جاء فيها: وقد كنا نُروى عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إراداتها نقضتُ ما أبرمتُ من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والاهانة.

 

فأرسل إليه المنصور برسالة جاء فيها: ليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الامر على ما أنت به، وقد حمل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك.

 

ثم استمال المنصور من حول أبي مسلم من الأمراء، فكتب إلى خليفة أبي مسلم على خراسان ؛ الأمير أبي داود خالد بن إبراهيم، يعده بالإمارة بعد أبي مسلم، فكتب ذلك إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله، وأهل بيت النبوة، فلا تخالفن إمامك. وأرسل أبو مسلم من يثق به من أمرائه إلى المنصور يستطلع له الأمر، فقال له المنصور: اصرفه عن وجهه، ولك إمرة بلاده. فرجع وقال: لم أر مكروها، ورأيتهم معظمين لحقك، فارجع، واعتذر.

 

ومال أبو مسلم إلى الذهاب إلى المنصور، فقال له أحد خلصائه المعارضين لذلك:

 

ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الاقوام

 

خار الله لك، احفظ عنى واحدة: إذا دخلت على المنصور فاقتله، ثم بايع من شئت فإن الناس لا يخالفونك.

 

وجاء أبو مسلم إلى المنصور في مكان يدعى بالرومية قرب المدائن، فأمر المنصور أكابر دولته فتلقوه، فلما دخل عليه، سلَّم عليه قائما،  وفي اليوم الثاني كان قد أعد له مجموعة من حرسه الثقات فقتلوه بإشارة من المنصور.

 

وهناك روايات كثيرة عن اللقاء الأخير بين أبي مسلم وبين أبي جعفر المنصور، وكيف أن المنصور رتب المنصور جماعة غير ظاهرين فإذا ضرب يداً على يد ظهروا وضربوا عنق أبي مسلم، وأنه عاتب أبا مسلم على ما بدا منه في السابق تجاه المنصور، فقال أبو مسلم: ما يقال هذا لي بعد سعيي واجتهادي وما كان مني! فقال له المنصور: يا ابن الخبيثة، إنما فعلت ذلك بجَدِّنا وحظنا، ولو كانت مكانك أَمَة سوداء لعملت عملك! ألست الكاتبَ إليَّ تبدأ بنفسك؟ قبلي ألست الكاتب تخطب عمتي آسيا وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن العباس؟! لقد ارتقيت لا أم لك مرتقىً صعباً. فأخذ أبو مسلم بيده ليقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى، فخرج إليه القوم وخبطوه بسيوفهم، وكان أبو مسلم قد قال عند أول ضربة: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، فقال: لا أبقاني الله أبداً إذاً، وأي عدو أعدى منك؟!

 

ويقال إن المنصور قال في ذلك شعراً، منه:

 

زعمت أن الدَين لا يُقتضى ... فاكْتَل بما كِلتَ أبا مجرم

 

وأشرب كؤوساً كنت تسقي بها ... أمرَّ في الحلق من العلقم

 

حتى متى تضمر بغضاً لنا ... وأنت في الناس بنا تنتمي

 

وانزاح بمقتل أبي مسلم الخراساني همٌّ ثقيل عن صدر المنصور، إذ كان أبو مسلم الرجل الأقوى في الدولة على الحقيقة، لما له من يد على العباسيين في تأسيس دولتهم وما أكسبه ذلك من رهبة ورغبة في قلوب الجنود وبخاصة أهل خراسان، وكانت تصرفاته قبل تولي المنصور الخلافة وبعدها تشير إلى استخفاف مبطن بالخليفة، وسلسلة من الحركات الهادفة لإضعاف مكانة الخليفة، ولا شك أنه كان يتمنى لو أن المنصور ترك الخلافة لسبب أو آخر، وجاء مكانه خليفة يكون أكثر طواعية له من المنصور الذي كان قوي الشخصية صلب الأرادة مستبد الرأي.

 

ويحكى أنه لما قتله أدرجه في بساط، فدخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنتَ أخذتَ من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل! فقال المنصور: وفقك الله، ها هو في البساط. فلما نظر إليه قتيلاً قال: يا أمير المؤمنين، عد هذا اليوم أول خلافتك. وأعجب العرب بجرأة أبي جعفر المنصور على قتل أبي مسلم وهو في أوج قوته ، فجعلوها من الفتكات التي يضرب بها المثل. وكان المنصور قد هم بقتل صاحب حرس أبي مسلم، وبقتل نصر بن مالك الخزاعي، فنصحه مستشار له، وقال: يا أمير المؤمنين، إنما جنده جندك، أمرتَهم بطاعته، فأطاعوه. فأعطاهما المنصور مالا جزيلا، وكتب بعهد خراسان للأميرخالد بن إبراهيم كما كان وعده.

 

وتابع المنصور بناء الدولة العباسية، وامتد عهده 22 سنة إلى حين وفاته في آخر سنة 158 في مكة المكرمة، ودفن ما بين الحجون وبئر ميمون، ومن هنا سمي حي المنصور، وكان من أفراد الدهر حزماً ورأياً ودهاءً وجبروتاً، شجاعاً مهيباً، تاركاً للهو واللعب، كامل العقل، له حظ من صلاةٍ وتدينٍ وعلم وفقه نفسٍ، تخالطه أبهة الملك بزي النساك، تقبله القلوب وتتبعه العيون، وكان مِسِّيكاً حريصاً على جمع المال، كان يلقب أبا الدوانيق لمحاسبته العمال والصناع على الدوانيق والحبات، ولما مات خلّف في بيوت الأموال مبلغ 950 مليون درهم.

 

وكان أبو مسلم الخراساني قصيرا أسمرا، جميلا، نقي البشرة، أحور العين، خافض الصوت، فصيحا بالعربية وبالفارسية، حلو المنطق، وكان راوية للشعر، عارفا بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته، وكان لا يكاد يقطب في شئ من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئبا، وكان إذا غضب لم يستفزه الغضب، واشتُهر بالصيد بالفهود، وكان أقلَ الناس طمعا: مات وليس له دار ولا عقار ولا عبد ولا أمة ولا دينار. قال المأمون، وقد ذُكِر أبو مسلم عنده: أجلُّ ملوك الأرض ثلاثة، وهم الذين قاموا بنقل الدول: الإسكندر وأردشير وأبو مسلم الخراساني.

 

وأبو مسلم الخراساني شخصية تاريخية هامة، ولكنها تكاد تكون ثانوية في الرؤية العربية للتاريخ، وبخاصة المعاصرة منها، ولعلها لم تكن كذلك في السابق لأننا نجد أن العلامة الكاتب محمد بن عمران المرزبان، المولود سنة 297 والمتوفى سنة 384، قد صنف كتاباً في أخبار أبي مسلم الخراساني، وللإمام الذهبي كتاب في سيرته أسماه: أخبار أبي مسلم الخراساني.

 

والرؤية الفارسية للتاريخ تضع أبا مسلم الخراساني في مصاف القادة الكبار والشخصيات الفارسية التاريخية ذات المكانة الأسطورية، وإلى يومنا هذا يبقى أبو مسلم الخراساني من أكبر الأبطال في الذاكرة المجتمعية الفارسية، تظهر صورته على طوابع البريد الإيرانية، وتسمى باسمه المدارس والفرق الرياضية، ولهذا مبرراته التاريخية الحقيقية، فهو المناصر الأقوى للدعوة العباسية والمؤسس العملي لخلافتها، ومن منظور سياق التاريخ الفارسي فإن أبا مسلم رد للفرس اعتبارهم ضمن الحضارة الإسلامية، وقتلُ المنصور له على هذه الصورة لم يحد من النفوذ والتأثير الفارسي في الدولة العباسية، وكان كثير من قادة أبي مسلم محل ثقة الخلفاء، فصار منهم أمراء الولايات والوزراء وكبار موظفي الدولة، ومن ناحية أخرى تأثرت الدولة العباسية تأثراً كبيراً واضحاً بالتراث الفارسي ذي التقاليد القائمة على الفخامة والبهرجة في بلاط السلطان وطبقات الحاشية ودواوين الحكومة والإدارة المالية وجباية الخراج والضرائب، وكذلك في اللباس، فكانت على النقيض من الدولة الأموية التي بقيت على البساطة العربية إلى حد كبير، واقتبست بعض التقاليد البيزنطية في إدارة دواوينها.

 

ويرى الفرس في مقتل أبي مسلم الخراساني بهذه الصورة عنواناً لجحود العباسيين لتضحياتهم وخيبة الأمل الكبيرة فيهم، وهكذا نرى أن سنباذ الفارسي المجوسي بعد مقتل أبي مسلم يثور على المنصور

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين