ونزعنا ما في صدورهم من غل - إخواناً على سرر متقابلين
ونَزَعْنا ما في صدورهم من غِلٍّ
إخواناً على سُرُر متقابلين
بقلم : حمزة البكري

تبين لنا في المقال السابق أن مجمع الشر في الغضب، ومجمع الخير في ترك الغضب، وأنه لا بد لكل واحد منا أن يضبط أقواله وأفعاله عند الغضب، فيقوى على الغضب ويتغلب عليه، أما إذا غضب ولم يملك نفسه ولم يضبط تصرفاته، فإن الغضب قد قوي عليه وتغلَّب، وفي هذه الحالة لا بدَّ أن يدعوه غضبه إلى طلب الثأر والانتقام ممن أغضبه، وربما كان غير قادر على ذلك، لقوَّة فيمن أغضبه، أو لضعف فيه، أو لغير ذلك، وعندها يحتقن الغضب في قلبه، ويكمن في باطنه، ويصير حقداً، فيمتلأ القلبُ بغضاً وكراهيةً وجفاءً لهذا الذي أغضبه ولم يستطع الانتقام منه.
فالحقد ثمرة الغضب، وعليه فإنه ينبغي عليك أن تُطهِّر نفسك من الغضب أولاً، ثم تُطهِّره من الحقد ثانياً.
والحقد وإن كان مرضاً في القلب، فإن آثاره تظهر في تصرفات صاحبه، ومن تلك الآثار أن يشمتَ الرجل بأخيه عندما يصيبه مكروه ويستهزئ به بدل أن يواسيه، وأن يهجره ويقاطعه، ويذكره في غيبته بما يكره، وهذه كلها دلائل وعلامات تدل على امتلاء القلب بالحقد والكره والبغضاء، وربما بلغ الحقد بصاحبه أن يستهزأ بمن يحقد عليه، ويؤذيه في نفسه أو أهله أو ماله، ويمنعه حقه.
وقد قال أحد الصالحين: «القلوبُ ظروفٌ: فقلبٌ مملوءٌ إيماناً، وعلامتُه: الشفقةُ على جميع المسلمين، والاهتمام بما يهمُّهم، ومعاونتهم على مصالحهم. وقلبٌ مملوءٌ نفاقاً، وعلامتُه: الحقدُ والغلُّ والغشُّ والحسد» (حلية الأولياء لأبي نعيم 10 : 378).
واسمع إلى أبي العتاهية إذ يقول:
أُخَيَّ عندي من الأيام تجربةٌ        فيما أظنُّ، وعلمٌ بارعٌ شافِ
لا تمشِ في الناس إلا رحمةً لهمُ        ولا تُعامِلْهُمُ إلا بإنصافِ
واقطعْ قُوَى كلِّ حقد أَنتَ مُضمِرُه        إن زلَّ ذو زلَّةٍ أو إن هفا هافِ
لكنك قد تسألني فتقول: ربما يقع من أحد أقاربي أو أصدقائي أو زملائي خطأ منهم أو تقصير في حقي، فتتأثَّر بذلك نفسي، فأخاف إن أظهرتُ كراهتي لما فعل أن نتخاصم ونتنازع، وإن أبقيتُ ذلك في نفسي أن ينقلب إلى حقد في قلبي، فما السبيل إلى التخلص من ذلك؟ فأقول لك كمـا قال بعضُ الحكماء قديماً: «ظاهرُ العتاب خيرٌ من مكنون الحقد» (إحياء علوم الدين للإمام حجة الإسلام الغزالي 2 : 178)، لكن عليك أن تعاتبه بأسلوب جميل، وخطاب لطيف، وإلا وقع ما تخشاه من الفُرقة والتنازع، وهذا العتابُ يُصفِّي القلوب مما قد يعلق بها من أسباب الحقد وبواعثه.
وإذا أردتَ أن تُطهِّر قلبك من الحقد: فاحرص على أن تُكثر من مصافحة مَن تُسلِّم عليه، وعلى تبادل الهدايا بينكما، وكلُّ ذلك ـ أعني: السلام والمصافحة والتهادي ـ من سنة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فقد روى مسلم في «الصحيح» (54) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبْتُم، أفشُوا السلام بينكم»، وروى الإمام مالك رضي الله عنه في كتابه «الموطأ» 2 : 908 عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تصافحوا يذهب الغِلُّ ـ أي: الحقد والعداوة ـ ، وتهادُوا تحابُّوا وتذهب الشَّحْناء» أي: البغضاء.
ولعظيم خطر الحقد جعل الله سبحانه وتعالى البراءةَ منه سبباً في دخول الجنة، كما في قصة الرجل الذي أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابه عنه أنه من أهل الجنة، فتبعه عبدُ الله بنُ عمرو بن العاص إلى بيته وقال له: «إني خاصمت أبي، فحلفتُ أن لا أدخل عليه البيتَ ثلاثةَ أيام»، وطلب منه أن يبيتَ عنده تلك المدة، فأجابه إلى طلبه، فلما بات عنده تلك الليالي الثلاث، لم يره يقوم في الليل للصلاة حتى يقوم لصلاة الفجر، فتعجَّب عبد الله: بأي شيء استحق هذا الرجل أن يخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنه أنه من أهل الجنة، فلما مضت الليالي الثلاث قال له عبد الله: «إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجران، لكني سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يذكر أنك من أهل الجنة، فأردتُ أن أرى عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل عملاًَ كثيراً»، فقال الرجل: «ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه»، فقال عبد الله: «هذه التي بَلَغَتْ بك، وهي التي لا نُطيق» (رواه أحمد في «مسنده» 3 : 166). فهذا الرجل يُصدرُ عفواً عاماً عن جميع الناس في كل ليلة قبل أن ينام، فاستحق أن يعفو عنه ربه سبحانه وتعالى، فهل أنت قادر على إصدار مثل ذلك العفو؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين