غربة - قصة مؤثرة
غربة
بقلم :سحر البان

جلس أحمد متوتراً أمام ابن أخته وهو يسمع عن رغبته في الزواج من زميلته الألمانية، يخبره عمّا تتصف به من حسنات: عقلها،... جمالها، والأدهى من هذا كله، يخبره أنّه سينهج نهجه في الزواج  من غير عربية.

مرّت على أحمد بعد هذا الخبر ليلة لم يعرف فيها طعم النوم، وهو يرى ابن أخته يتّخذ منه مثلاً أعلى وقدوة، وما إن بزغ النور حتى قام إلى ابن أخته، الذي أتى للدراسة في هذا البلد الأوروبي، بعد موافقة أهله  وترحيبهم لأنّه سيكون في بيت خاله وتحت رعايته.

استدعاه إلى مكتبه وأحكم إغلاق الباب فتعجّب الشاب، لكنّه أخفى استغرابه.
فترة من الصمت سادت بينهما، كان الخال فيها متوتّراً لا يعرف من أين يبدأ، وبعد أن استجمع أحمد بقايا شجاعته، قرّر البدء بالكلام... بلع ريقه، ثم نظر في عينيّ ابن أخته وقال:
اسمع يا بني، وانتبه جيداً إلى القصة التي أريدك أن تعيَها بعقلك قبل قلبك.

في يوم من الأيام، كان هناك شاب مجتهد حصل على منحة دراسية في بلد أعجمي... لم يهتم وقتها لبكاء أمّه وتوسّلاتها، ولا لوصايا والده، كانت بلاد الأعاجم تتراءى له أمام مخيلته كعروس في أبهى حلّة.
وصل إلى البلد المنشود؛ بلد كل ما فيه غريب عليه: النظام، الناس، واللغة، ولكن ما إن انخرط في الدراسة حتى اندمج مع هذا البلد ومع أهله.

ما كان يتعبه فيه فتياته الكاسيات العاريات، ذوات الجمال الأخاذ، وكان يتعبه تحصنه وتمسكه بدينه وابتعاده عن الوقوع في هوّة الحرام، خاصّة بعد أن شاهد الكثير من أصحابه المسلمين يتهاوَوْن في مكائد الشيطان فيبيعون دينهم بعرَض من الدنيا.

وصار يرتاد مسجداً قريباً من داره يقضي فيه شطراً من وقته يهرب به من رغبات النفس ووساوس الشيطان.

فتعرّف هناك على إمام المسجد الآسيوي، وصارت بينهما علاقة أخوة في الله، ولم يشعر هذا الشاب إلا وقد تزوج من قريبة هذا الإمام، بعد أن نصحه بأن الزواج هو الحل الأفضل له لا سيما وأنه ما زال في سنته الجامعية الأولى، فإن تمكّن الآن من النجاة بنفسه من براثن الفتنة؛  فهل سيتمكن غداً؟؟
كانت الفتاة طيبة تعمل في سلك التدريس، وافق عليها وفرح بها أيما فرح، وأرسل إلى أهله يخبرهم... وما كان يتصوّر ردّة فعل الأهل حينما عرفوا، أرسل والده يطالبه بالعودة الفورية إلى الوطن وإكمال الدراسة فيه، وأرسلت الأم تعرض عليه من تعرف من فتيات الأقرباء والأصدقاء... واقترن بها رغم رفض أهله وإصرارهم على ألاّ يتزوج بغربية، فقد كان يرى في كلامهم تخلّفاً ورجعية..

سنوات أعقبت زواجه وهو يعتقد نفسه من أسعد السعداء، ولِمَ لا؟؟ فقد كان ناجحاً في دراسته، ولديه زوجة جميلة تشبع رغبات الجسد وتساعده بعملها في تحمّل تكاليف الحياة، ورزقه الله بولديْن، فرح بهما فرحاً شديداً رغم أن وقته ما كان يسمح له أن يكون معهما،  فأوكل أمر تربيتهما لزوجته ولوالدتها أثناء غياب الزوجة في العمل، وكان يوطّن النّفس أنه لا بد سيأتي اليوم الذي يتفرّغ فيه لزوجته وللأولاد فيعلمهم اللغة العربيّة التي يجهلونها، ويهجرون الإنكليزية فلا يستعملونها إلا خارج البيت... لكنه كان حلماً  - يا بنيّ - لم ير النور.

مرّت السنوات، ونال شهادة الدكتوراه وبعدها شهادة خِبرة، وبعد عشر سنوات من الغربة قرر العودة إلى بلده...

قرار العودة كلّفه وقتاً طويلاً  أقنع فيه ولديْه وزوجته التي كانت رافضة أن تترك بلدها وأهلها وعملها، وفي آخر المطاف وافقوا وانتقلوا جميعاً إلى الوطن مع فرحته الكبيرة.

أثناء رحلة العودة لم يتوقف عن الحديث عن ذكرياته مع إخوته وأصحابه، وعن أمه كيف كانت الحضن الدافئ الذي يضم بين حناياه العطف والحنان، عن سهراتهم العائلية في الشتاء حول الموقد، وعن قصص والده الواقعية ذات العِبَر...

وما إن حطّت الطائرة على أرض الوطن حتى انهمر الدمع من عينيه شلالاً، لم يعد يتحمّل وقوف المسافرين وانتظار الباب أن يفتح... ها هو قد عاد إلى أرض الآباء والأجداد، أرض ولد فيها ونشأ، بلد ضمّ الأحباب وأحلى الذكريات...

ما أصعب سنوات الغربة وما أقساها، كيف استطاع أن يبتعد عن بلده؟؟ عن أهله وأصحابه؟؟
وفي صالة الاستقبال وجد حشداً كبيراً في استقباله:أفراد العائلة كلهم, والأصدقاء.. وأكثر ما أثّر فيه وقوف والده على عكازين وقد فعلت السنون به فعلها...

استقبالهم الرائع كان له وقع في القلب.
بقي بعد ذلك أياماً وهو متلهف لمعرفة أخبار الجميع في البلد... كان يمشي في الشوارع غير مصدِّق أنه عاد إليها... كل شيء تغيّر.. إلا أهله لم يتغيّروا، فقد بقيت أمه الحضن الذي يضم أفراد العائلة، وبقي الأب في هيبته وعنفوانه.. وبقيت لهفة الإخوة والأخوات على بعضهم البعض.. كم خسر كثيراً عندما سافر وتغرّب...لكن ولله الحمد قد عاد..ليصحح الوضع.

لكن زوجته وولديه لم يتقبّلوا حياتهم الجديدة.. وكيف سيتقبلونها بعد أن كانوا في عالم مختلف تمام الاختلاف عما هم فيه الآن؟ كما أن أهله لم يستطيعوا تقبّل زوجته غير العربية وتصرفاتها الغربية.

وبسبب بحثه عن عمل كان يضطر ولأول مرة منذ زواجه أن يصرف وقتاً طويلاً في بيته مع عائلته التي ما كان يعرف عنها الكثير، وصار يصطدم بتصرفات زوجته التي تختلف عن تقاليده وتقاليد مجتمعه، كما انتبه إلى أن ولديه تشربا تقاليد أمهما وعاداتها ولم يأخذا منه أي شيء، وهذا أمر طبيعي يا ولدي، فهما لم يكونا يريانه إلا سويعات جدَّ قليلة في اليوم، وبدأ يقارن بين زوجته ومشاعرها المقتضبة وبين زوجات إخوته وأصدقائه ومشاعرهن الملتهبة على أزواجهن وأولادهن، بدأ ينظر إليها كيف تطالبه بالمساواة في كل صغيرة وكبيرة، وكيف أن زوجات الآخرين شمعات تذوب لتضيء لأحبائهن طريق الحياة.

بعد سنة من كل هذا، يا بُني، ورغم أنه وجد عملاً جيداً يُعتبر من أفضل الأعمال في الوطن، فضّل الهروب ثانية على المواجهة، وقرر العودة إلى البلد الذي أتى منه.

اتخذ هذا القرار بعد صراع مع النفس عنيف، وتحت ضغط من الزوجة والولدين شديد.
كتب على نفسه البُعد مجدداً عن الأهل والوطن، والعيش في بلاد المادة والآلات.. آه يا ولدي ما أصعب على الرجل أن يجد نفسه محشوراً في الزاوية كما صاحبنا هذا... وليتك تتصور الألم الذي قاساه وهو يودع عائلته من جديد، يودعهم هذه المرة وهو على يقين أنه لن يعود إليهم إلا للزيارة، وليتك تتصور الشعور الذي شعر به والطائرة تحط على أرض الغربة ثانية.. كان يشعر أنه يذهب إلى السجن المؤبد بقدميه.

والآن... له عشرون سنة في هذا البلد، لا يزور بلده إلا زيارات متقطعة، ويعيش، يا بُني، في بيت لا حياة فيه، بيت خاوٍ ناضب من أي مشاعر، حتى الزوجة فقد عافته بعد أن كبر وصارت معه كمثل أخته، لا...لا، بل كشريكة في السكن لا غير، وولداه.. آه من ولديه، أحدهما تزوج من قريبة أمه وسافر إلى مقاطعة ثانية فلا يراه إلا مرة كل سنة أو سنتين، والثاني هجر البيت وسكن وحده مقَلِّداً الشعب الذي عاش بينهم.

عرفت  يا ولدي عمن أتكلم، نعم أنا أتكلم عن نفسي، لا تستغرب، فما تراه من مظاهر تَوافق ما هي إلا غلاف... لواقع كله تعاسة ومرارة وآلام.. أنا ضيّعت يا ولدي حياتي حين فكّرت بزوجة ليست من مجتمع مسلم، رغم أنني اخترتها مسلمة، فكيف بك وأنت تختار كافرة؟ تختلف عنك في العقيدة واللغة والعادات والبيئة والبلد، وكذلك في المفاهيم والتصورات؟، يا بُني عِ ما قلته لك.. وإياك أن تنظر إلى الزمن القريب، بل إلى البعيد، انظر إلى حياتك معها إن تزوجتها بعد عشر سنوات أو عشرين.. الرجل منا يا ولدي بعد سنوات من الزواج لا يريد فقط الجميلة المثيرة.. بل يريد قلباً وروحاً وعقلاً.. وهذا لن تجده في بنات الغرب إلا فيما ندر.. هن آلات يا بُني، اسألني أنا عنهن، لقد عشت حياتهن وخَبِرتهن, إياك أن تقع فيما وقعتُ فيه وتعلّم من تجربتي واستفد، ولا تنس يا بُني المثل القائل: «زِوان بلادك ولا قمح الغريب
منبر الداعيات»

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين