الحياة الدينية والحياة المدنية - حياة الدينية
الحياةُ الدينيةُ والحياةُ المدنيةُ

( من خطب الشيخ: أحمد عز الدين البيانوني – رحمه الله تعالى - )

الحمدُ للهِ كما ينبغيْ لجلالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِهِ ، أحمدُهُ سبحانَهُ وتعالى وأشكرُهُ ، وأسألُهُ منْ جزيلِ فضلِهِ وجميلِ إحسانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ ، الجامعِ في شريعتِهِ بينَ خيريِ الدنيا والآخرةِ ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ والتابعينَ ، بحارِ الفضلِ الزاخرةِ .

وبعدُ أيُّها المسلمونَ : يخيَّلُ لبعضِ الناسِ أنَّ الحياةَ الدينيةَ تنافي الحياةَ المدنيةَ ، حتى زعموا أنَّ الأممَ التي تأخذُ بالدينِ لا يرجى لها تقدمٌ في ميادينِ العمرانِ ، ولو قلبوا صحائفَ التاريخِ لعلموا أنَّ الإسلامَ أحيا أمماً كان الجمودُ قد أناخَ عليها بكلكلهِ ، وأسسَ دولةً لا تغربُ عنْ ممالكِها الشمسُ ، وكانَ سبباً في إحياءِ هذهِ الأممِ الأجنبيةِ ، وإيصالِها إلى ما وصلتْ إليهِ اليومُ ، منْ العلومِ والصنائعِ التي مزجتْها بمدنيَّتها الزائفةِ ، فالدينُ الذي حوّلَ الأممَ الجامدةَ الهامدةَ إلى أممٍ حيةٍ راقيةٍ ، رفعتْ لواءَ خلافةِ اللهِ في الأرضِ ، أجيالاً متعاقبةً ، لا يعقلُ أنْ ينقلبَ إلى دينٍ يكونُ سبباً لجمودِ الأممِ ، وتجريدِها منْ أسبابِ الحياةِ وعواملِ الرقيِّ ، إنَّ هؤلاءِ يعرفونَ هذا ، ولكنَّهمْ يتخيلونَ أنَّ الأمورَ قدْ حالتْ ، فما كانَ يصلحُ أساساً للمجتمعاتِ في الزمانِ الغابرِ ، لا يصلحُ أنْ يكونَ أساساً لها في العصرِ الحاضرِ ، هذهِ شبهةٌ يدلونَ بها إلى الناسِ ، فيتلقاها ضعفاءُ الإيمانِ بالقبولِ ، باعتبارِ أنها ترميِ إلى سرٍّ منْ أسرارِ علمِ الاجتماعِ ، وهيَ في الحقيقةِ لا ترمي إلى شيءٍ غيرِ دعوةٍ صريحةٍ إلى التحللِ منْ تكاليفِ الأخلاقِ ، والتكالبِ على الأخذِ بجميعِ آفاتِ المدنيةِ وأدوائِها بغيرِ حسابٍ .

لقدْ سبقتْ منْ هؤلاءِ دعوةٌ إلى ضرورةِ اختلاطِ الجنسينِ ، وإلى وجوبِ عملِ المرأةِ خارجَ بيتِها ، مخدوعينَ في دعوتِهمْ هذهِ بما عليهِ النساءُ في الأممِ المتمدنةِ ، فافتتنَ بهذِهِ الدعوةِ الحمقاءِ ، جميعُ مَنْ لا بصرَ لهمْ بالأمورِ ، واطَّرحوا كلَّ ما عورضتْ بهِ هذهِ الدعوةُ منْ طريقِ العلمِ والأخلاقِ ، فلمْ يمضِ على هذا القولِ مدةٌ منْ الزمنِ ، حتى وقعتْ الأممُ الأجنبيةُ في شرِّ هذهِ الأزمةِ العامةِ ، فنظرُ عقلاؤهمْ ، فإذا العاملُ الوحيدُ الذي أدى إلى شيوعِ البِطالةِ إنَّما هوَ أنَّ النساءَ قدْ هجرنَ بيوتِهنَ ، واشتغلنَ بأشغالِ الرجالِ ، ورأوا أنَّ ضررَ ذلكَ لمْ يقفْ عندَ حدِّ البِطالةِ ، ولكنْ تعداها إلى نظامِ الأسرِ ، وتربيةِ الأطفالِ ، وانتشرتْ العزوبةُ إلى حدٍّ مُريعٍ ، وفسدتْ بذلكَ الأخلاقُ فساداً ليسَ منْ السهلِ إصلاحُهُ ، فأخذَ قادةُ تلكَ الأممِ يعملونَ على ردِّ الأمورِ إلى نصابِها الطبيعيِّ ، بكفِّ يدِ المرأةِ عنْ العملِ الخارجيِّ ، وردِّها إلى مملكتِها الطبيعيةِ ، وهيَ الأسرةُ ... وهيهاتَ أنْ يتمَّ لهمْ ّلكْ إلا في أجيالٍ ، يكابدونَ في أثنائِها منْ الشدائدِ ما يعجزُ الإنسانُ عنْ بيانِهِ .

فماذا جنى الأغرارُ عندَنا ـ الذينَ اتبعوا هؤلاءِ الإباحيينَ ـ منْ آثارِ دعوتِهمْ إلى وجوبِ اختلاطِ الرجالِ بالنساءِ ، وإلى عملِ هؤلاءِ خارجَ بيوتِهنَّ ـ غيرَ ما نشاهدُهُ منْ فسادِ الأخلاقِ ، وانحطاطِ النفوسِ ، وتفاقمِ الشهواتِ وانتشارِ العزوبةِ ؟

ولا يزالونَ ساعينَ وراءَ هذهِ المطامعِ الدنيئةِ ، فيدعونَ إلى وجوبِ الأخذِ بكلِّ جديدٍ ، دونَ التقيدِ بالمبادئِ الأوليةِ للأخلاقِ ، كأنَّهمْ يريدونَ أنْ نأخذَ بجميعِ أدواءِ المدنيةِ وشرورِها .

يتوهمُ بعضُ الناسِ أنَّ الحياةَ الصالحةَ تنافي متعَ المدنيةِ الصحيحةِ ، وتجعلُ الأممَ كجماعاتٍ منْ المتبتلةِ ، لا يتسعُ لهمْ الوقتُ لغيرِ القيامِ بالواجباتِ الدينيةِ ... وهذا لا يصحُّ مطلقاً أن يُوصَمَ بِهِ الإسلامُ بعدَ قولِهِ تعالى : [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] {الأعراف:32}
الإسلامُ لم ٍ يحرِّمْ على إنسانٍ متعةًَ منْ متعِ الحياةِ الصالحةِ ، بلْ أباحَها بشرطِ أنْ لا تدفعَ بهِ إلى عالمِ الحيوانيةِ ، فهوَ يحرمُ الخمرَ والمقامرةَ ، ومنْها هذا اليانصيبُ الشائعُ منْ غيرِ نكيرٍ ، يحرمُ البغاءَ والتهتكَ وكلَّ ما ينافي كرامةَ الإنسانيةِ ، ويحطُّ منْ قيمتِها ، وهيَ صفاتٌ قررَ العلمُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ أنها آفاتٌ يجبُ تجنُّبُها ، ؛ لما يبتني على شيوعِها منَ العللِ الاجتماعيةِ الخطيرةِ .

فإذا كانَ منْ الناسِ مَنْ يزعمُ أنَّ الحياةَ لا تكونُ هنيئةً سعيدةً إلا إذا أبيحتْ فيها هذِهِ المحظوراتُ ، فقدْ أخطؤوا خطأً كبيراً ، وضلوا ضلالاً بعيداً .

فإنَّ الذي يرى أنَّ هناءتَهُ لا تتحققُ إلا إذا أبيحَ لهُ أنْ يتعاطى السوائلَ السامةَ المضللةَ للعقلِ ، وأنْ يلقيَ بمالهِ جزافاً في اللعبِ بالورقِ وفي اليانصيبِ ، وأنْ يتركَ ما أُحِلَّ لهُ ، منْ الزوجيةِ الطاهرةِ ، ويجري وراءَ الساقطاتِ في الشوارعِ والأزقةِ ، وأنْ ينتهكَ حرماتِ الآدابِ ، ويغريَ فاسداتِ الأخلاقِ على انتهاكِها ، وأنْ يأتيَ كلَّ ما بدا لهُ محلولَ الرسنِ ، لا يبالي أحفظَ كرامةَ الإنسانيةِ أمْ أهانَها !...
أقولُ إنَّ الذي لا يرى لهُ هناءةً إلا في هذهِ المقاذرِ المنكرةِ ، فهوَ ضالٌّ عنْ طريقِ الهناءةِ الصحيحةِ ، التي لا يشوبُها كدَرٌ مما يتمتعُ بهِ المؤمنونَ المتدينونَ ، وينعمونَ فيهِ .

إنَّ لصفاتِ الكمالِ الساميةِ لذاتٌ يشعرُ بها المحافظونَ عليها ، وينظرونَ على أهلِ الإباحةِ نظرَهمْ إلى المحرمينَ منْ مباهجِ الحياةِ ونعيمِها .

فاتقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ ، ولا يغرنَّكم أنَّ للإباحيةِ دولةً في أرقى أممِ الأرضِ اليومِ ، ولا تغفلوا عنْ أنَّها السببُ المباشرُ لكلِ ما فيهِ هذهِ الأممُ من أزماتٍ اقتصاديةٍ ، وعللٍ اجتماعيةٍ ، عجزتْ مدنيتُها أنْ منْها إلى حلِّ حاسمٍ ، فمنْ كانَ ضارباً مثلاً فليضربْهُ بالسليمِ المعافى ، لا بالمريضِ الذي يتطلبُ العلاجَ فلا يجدُهُ ، فهوَ يعيشُ في جحيمٍ منَ الحياةِ ، ولعذابُ الآخرةِ أشدُّ .

قالَ اللهُ تعالى :  [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}
أقولُ هذا ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ .

الخطبةُ الثانيةُ

الحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتديَ لولا أنْ هدانا اللهُ ، أحمدُهُ وأشكرُهُ ، وأسألُهُ الهدى والتقى ، ومنَ العملِ ما يرضاهُ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ ، البشيرِ النذيرِ ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ والتابعينَ ، المتمسكينَ بشرعِهِ المنيرِ .

أما بعدُ عبادَ اللهِ : قالَ اللهُ تعالى : [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ] {الأنعام:153}

وقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا ، قَالَ : فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ ، فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا ). رواه البخاري في كتاب الرقاق 6002 ، ومسلم في كتاب الفضائل 4235 ، من حديث أبي هريرة  رضي الله عنه.

عَنْ اَلْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ : ( صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ).  رواه وأبو داود في كتاب السنة 3991 ، والترمذي في كتاب العلم 2600 .

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ ، وتمسكوا بأهدابِ دينِكمْ وإياكمْ والتقليدَ الأعمى ، ونوِّروا بصائرَكم بذكرِ ربِّكمْ عزَّ وجلَّ ، والصلاةِ على نبيِّكمْ صلى الله عليه وسلم ، قالَ اللهُ تعالى : [إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {الأحزاب:56}

 اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ ، الرؤوفِ بأمتِهِ ، الرحيمِ بها ، الحريصِ عليها صلى الله عليه وسلم.

وارضَ اللهمَّ عن ساداتِنا الخلفاءِ الراشدينَ ، الهادينَ المهديينَ ، وجميعِ الصحابةِ والتابعينَ ، وعنْ الأئمةِ الأعلامِ ، ذادةِ الدينِ ، وحماةِ الإسلامِ ، ومنْ تبعَهمْ إلى يومِ الدينِ ، وعنَّا معَهم يا ربَّ العالمينَ .
اللهمَّ أيدْ الإسلامَ والمسلمينَ .


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين