ساعة الغضب وساعة الرضا

لا تسعد البلاد إلا بإقامة العدل بين العباد، ولا يسود العدل إلا بأن تَخفقَ ألويتُه فوق هام الأخلاق والآداب, وقد ضمّت آية كريمة من قِصار الآيات مكارم الأخلاق، قال فيها الأمينُ جبريل عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وسلم لما نزلت: «أَتَيْتُكَ بِمَكَارِمِ الأَخْلاق» وقرأ قول الله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَن الجَاهِلِين}! الأعراف - 199.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم ويشرّع، ويَعِظ ويَنْصح، وَيَأْمر ويَنْهى، ويُصدر الأحكام، ويفصل في مسائل النّزاع والخصام. وكان في كل أقواله وأحواله لا يَحيد عن الحق، ولا يميل عن العدل، فلا يُداري ولا يُحابي، ولا يجور ولا يُغالي.

حدّث عبد الله بن عمرو قال: «كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش (أي الصحابة من قريش) وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكتُ عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيهِ فقال: أُكتُبْ فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقّ» (أخرجه أبو داود).

ربما تذرّع المتثاقلون عن لزوم العدل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الظلم والزَّلل، ولكن لا جَرَم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلَغ في سيرته وأخلاقه، وفي صفاته ومناقبه، المقام الأسمى والمنزلة الأعلى، التي لا يُجارَى فيها ولا يُبارى، وأن كل خصلة من خصال الخير قد أحلّ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم في أعلاها، وخصّه بذُروة سَنامها، وأنه من المُحال أن يبلغ أحد من البشر ما بلغه من المقال والفعال، ولكنه صلى الله عليه وسلم القُدوة العُظمى والأُسوة العليا، وقد أُمرالمؤمنون أن يَقْتدوا به، وأن يهتدوا بهديه، وأن ينهلوا من نبعه، ويرشُفوا من دِيَمه!

إن الله تعالى دعا المؤمنين أن يكونوا قوّامين بالقسط شُهداءَ لله ولو على أنفسهم أو الوالدَيْنِ والأَقربين، وأمرهم أن يكونوا قوّامين لله شهداء بالقسط، وأن لا يَحْملهم شَنَآنُ قوم وعداوتُهم على مجانبة العدل، والسّقوط في وِهَاد الجَوْر.

إن الفساد قد عَمّ وطَمّ حتى استطار شرُّه، واستبحر ضُرّه، وأصبحنا في ظلمات من المفاسد بعضُها فوق بعض, ونتج من ظهور الفساد فواتُ العدل وفشوّ الظلم. إن مما يدفع الإنسانَ إلى الظلم في الأحكام تحكُّمُ شهوة الغضب في نفسه ومزاجه، فإذا غَضب أَبغض، وإذا أبغض غاب بعض عقله، وتوارى ثُلُثا رُشْده!

قال الحكماء: ثلاثةٌ لا يُعْرَفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يُعرَف الجَوادُ إلا في العُسرة، والشجاع إلا في الحرب، والحليم إلا في الغضب، والشاعر يقول:

ليست الأَحلامُ في حال الرّضا =إنما الأحلامُ في حال الغَضبْ

فإذا ادّعى أحدٌ الحِلمَ، أَغْضبْهُ لِتختبرَه وتَعرفَه. كما ورد في القَصص أن أحد الناس أُرسل ليستفزّ معن بنَ زائدة المشهور بالحِلم والصبر، فأساء معه الأدب، وأغلظ له في الكلام، فلم يزدد معن إلا حِلماً، فكان آخر كلام المختبِر يقول معترفاً له بفضله ونقاء معدنه:

سألتُ الله أن يُبقيك ذُخراً =فما لكَ في البَرِيَّةِ من نَظيرِ

لقد سقطت طباع الأنام في حَمْأَة الغضب، فَصارَ منهم من تستخفّه التوافه فَيَسْتَحمقُ على عَجل، ويَشْتطّ الغضب بأصحابه إلى حد التّفاهة والسّفاهة، واقتراف السيّئات وفعل المنكرات!

وما ضرّنا شيء مثل إصدار الأقضية والأحكام في ساعات الغضب والإغلاق، فما بين الرّضا والغضب كما بين البَحْرين اللَّذين يفصل بينهما بَرْزخ لا يَبْغيان: الأول عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، والآخَر مِلح أُجاج, وما بين الأحكام الصادرة في زمن الرّضا وفي زمن الغضب، كما بين الحقّ والباطل، وبين الحلال والحرام!

للمرء الغَضوب في كل مسألة رأيان وحُكمان وقضاءان، تتباين بين ساعة الرّضا وساعة الغضب، في الأولى عينُ رضا تهدي إلى عدل وتسامح وإنصاف، وفي الثانية عينُ سُخط تهدي إلى ظلم وانتقام وإجحاف.

فإياكم والعجلةَ عند الغضب فإن في العجلة النّدامة في النفس، والملامة من الناس، والعقوبات عند الله، فإن الله عزيز ذو انتقام.

فلا تغترّ بكثرة الأصحاب و الأحباب «ففي حالة السُّخْطِ لا في الرِّضا، يبين المحبُّ مِنَ المُبْغِض.

مجلة الامان العدد (346).

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها اليوم 9/3/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين