ما بعد معركة الفرقان في غزة - نصر من الله وفتح قريب
بسم الله الرحمن الرحيم
ما بعد معركة الفرقان في غزة
1429- 1430هـ الموافق 2008 – 2009م
نصر من الله وفتح قريب
بقلم الدكتور / محمد ياسر المسدي
لقد مضت أيام الحرب والدماء والبالغ عددها ثلاثة وعشرون يوماً في قطاع غزة، والتي أحسسناها سنوات طويلة ثقيلة عشنا لحظاتها ساعة بساعة ، أقضَّت مضجع كلِّ من كان في قلبه ذرة من إيمان أو ومضة من خير ، أتت على الأخضر واليابس، على الطفل والشيخ ، على المرأة والرجل على حدٍّ سواء ،  فكانت همجية بكلِّ ما في هذه الكلمة من معنى ، آثارها أبلغ من أيِّ وصف ، ولقد نقلت الفضائيات أحداثها لحظة بلحظة ، فلم تَخْفَ أحداثها على أحد.
رغم كلِّ ما حصل كانت بشائر النصر تلوح في الأفق مبشِّرة بأن النصر مع الصبر ، وبأن مع العسر يسرا ، وبأن الفرج يأتي من قبل الضيق. وصدق الله العظيم إذ يقول :[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة:214} .نعم إنَّ النصر من عند الله، وإنه قريب.
لقد كنا نرى بشائر النصر في ثبات المجاهدين وتضحياتهم، وفي صبر الشعب وتحمُّله الآلام التي تنُوء بحملها الجبال الراسيات ، دون ضَجَر أو ملل ، لقد راهن الأعداء والمخذِلون والخائنون على تحمُّل الشعب وصبره ، وحاولوا إثارته على قادته بكل الوسائل ، ولكن بفضل الله تعالى وتوفيقه باءت كل المحاولات بالفشل وبقيت اللحمة قوية متينة بين الشعب والمقاومة والقيادة حتى آخر لحظة من المعركة.
أما وقد وضعت هذه الحرب الشرسة أوزارها ، والتي لم يطلبها المجاهدون، ولا أحدٌ من قادة غزة وأهلها ، ولكن شاء الله أن تقع هذه المعركة ويتحقق فيها قول الله تعالى :[كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216} .
والله لقد كنت أتأمل كلمات القائد المؤمن الرئيس إسماعيل هنية في أول أيام المعركة وهو يوجه خطابه إلى أهالي غزة خاصة وإلى المسلمين والأحرار في العالم عامة، ويسمي هذه المعركة (معركة الفرقان)، ويتحدث بلهجة المؤمن الواثق بنصر الله مؤكداً أنَّ الوضع في غزة خاصة وفلسطين عامة سيكون مختلفاً عما هو عليه قبل المعركة ، وها هي المعركة قد انتهت بفضل الله تعالى بنصر مؤزر للفئة المؤمنة التي سطرت بجهادها وثباتها أعظم ملحمة في العصر الحديث ، وبهزيمة منكرة للجيش الصهيوني الذي يملك أقوى ترسانة عسكرية ( برية وبحرية وجوية) في الشرق الأوسط ، وما ذلك إلا بتوفيق الله ومدده :[فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الأنفال:17} .
ومقياس النصر والهزيمة ليس بأعداد القتلى والجرحى، وكمية الهدم والدمار وإهلاك الحرث،
ولكن المقياس يكون بالحفاظ على أخلاقيات الحرب، والثبات على المبادئ ، وحسن إدارة المعركة ، والصمود حتى آخر لحظة ، طبعاً هذه ليست المعركة الأخيرة ، ولكنها بداية المبشِّرات ، ونحن نعلم بأنه لما عقد الرسول صلى الله عليه وسلم صلح الحديبة مع مشركي مكة ، رغم الشروط المجحفة حسب الظاهر بحق المسلمين إلا أن الله تعالى بشَّر المسلمين أثناء عودتهم إلى المدينة بالفتح ، حيث نزلت سورة الفتح مبشِّرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالفتح والنصر القريب :[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] {الفتح:1} .
وإننا نلمح عوامل الفتح والنصر في هذه المعركة بإذن الله تعالى.
 وقبل أن ألخص للإخوة القراء أهم الخسائر التي حصدتها الإدارة السياسية والعسكرية في الدولة العبرية، وأهم الإنجازات وعوامل النصر التي تحققت بفضل الله تعالى للمقاومة الإسلامية في هذه المعركة الفاصلة، لابد من الحديث عن الأهداف التي وضعها العدو الغاشم لتحقيقها قبل دخول المعركة .
 1ـ إنهاء حكم حماس وقتل قادتها وفرض واقع جديد في قطاع غزة قبل انتهاء حكم ( بوش وزمرته) واستلام الحكومة الجديدة.
2 ـ القضاء على القوة الصاروخية الموجودة لدى فصائل المقاومة الإسلامية في غزة واجتثاثها من جذورها .
3ـ إطلاق الجندي اليهودي جلعاد شاليط المعتقل لدى حماس .
هذه الأهداف المعلنة ، أما غير المعلنة، فكان من أهمها حرص قادة الحرب ( أولمرت وباراك وليفني ) على كسب المعركة الانتخابية التي موعدها 10/2/2009، وذلك من خلال تحقيق الأهداف المذكورة وتقديمها قرابين للشعب الإسرائيلي .
لقد أجمعت التقارير الإسرائيلية على أنَّ الخطة العسكرية الإسرائيلية بنيت على تقدير أن تستسلم غزة خلال فترة تتراوح ما بين 3ـ 10 أيام كحدٍّ اقصى، ويمكن بعدها فرض واقع جديد قبل أن تمارس الادارة الأمريكية الجديدة مهامها .
ـ أجمع العسكريون والمراقبون والمحللون على أن دولة الكيان الصهيوني خرجت بهزيمة نكراء ساحقة لم تحقق شيئاً من أهدافها على الإطلاق سوى القتل والتدمير العشوائي ، وحرق البشر بالفوسفور والمواد المحرمة دولياً ، وأذكر فيما يلي أهم الخسائر التي مُنيَ بها الجيش الإسرائيلي والقيادة السياسية في هذه المعركة :
1 ـ انكشف الوجه القبيح لحكام دولة إسرائيل حتى إن عدداً من مفكري اليهود وساستهم انقلبوا علي حكامهم ووجَّهوا لهم النقد والشتم على تصرفاتهم الرعناء. وعلى سبيل المثال :
وجَّه الأكاديمي الأستاذ : (أندري نوشي) الأستاذ في جامعة نيس في فرنسا، وهو من أصل يهودي رسالة إلى سفير تل أبيب في باريس قال فيها :
   إنني أكتب لكم باعتباري فرنسي يهودي المنشأ : إنكم تتصرفون تماماً كما تصرف هتلر في أوروبا ، وإنني شخصياً سوف أحاربكم بكل ما أملك من قوة، وختم رسالته قائلاً : بئساً لإسرائيل، ولينزلنَّ إلهكم على قادتها النقمة التي يستحقونها، وإني كيهودي من قدماء الحرب العالمية الثانية فإني أخجل عنكم ، لعنكم ربكم إلى أبد الآبدين ، أتمنى أن تلقوا جزاءكم .
2 ـ انكشف الوجه القبيح لحلفاء دولة إسرائيل من الدول الكبرى وعملائهم من الخونة والمرتزقة، وفي ذلك يقول المحلل الأمريكي (أنتوني كوبسمان):
«إن حكومة تل أبيب ألحقت أضراراً بالغة بوضع الولايات المتحدة في المنطقة وبأي أمل للسلام ، كما أضرَّت بالأنظمة والأصوات العربية المعتدلة» . ( الجزيرة نقلاً عن رويترز ) .
ـ خسرت دولة إسرائيل صورتها الأخلاقية عالمياً، ووقعت في ارتباك وقلق أقضَّ مضاجع قادتها وجنودها حيث تلاحقهم الحملات الإعلامية والقضائية من الأحرار والمنصفين في العالم، ولا أدل على ذلك من الاجتماع الذي عقد لمجلس وزرائهم بتاريخ 25/1/2009 وتكليف وزير العدل بالبحث مع كبار الخبراء القانونيين للتوصُّل إلى إجابات عن الأسئلة المحتملة بخصوص ارتكابهم جرائم حرب في غزة .
 ومن أهم الإجراءات  التي اتخذتها الهيئة العسكرية: طمس معالم صورة القادة العسكريين المنشورة في الصحف المحلية والأجنبية خشية التعرف عليهم خلال سفرهم خارج البلاد كما نٌصح الضباط أصحاب الرتب الرفيعة بالتروي قبل اتخاذ أي قرار بالسفر إلى الخارج.
وتحت هذا العنوان نستطيع كتابة الكثير، ولكن أكتفي بضرب بعض الأمثلة وخاصة من غير المسلمين، بل ربما ممن هو محسوب على إسرائيل وأمريكا، مثل الأمين العام للأمم المتحدة ( بان كي مون ) فقد زار غزة بنفسه وقال : إن الحرب التي حدثت هي علامة الفشل السياسي الجماعي، وطالب بتحقيق شامل لما وصفه بـ (الهجمات الشنيعة) على المدارس التي تديرها المنظمة الدولية .
كما كشف الطبيب البرفسور (ماوس غيلبرت) جراح العظام النرويجي في مقابلة مع قناه الجزيرة يوم الأحد 25/1/2009 الذي أمضى في غزة 11 يوماً من أيام العدوان على غزة، ولقد شاهدته وهو يتحدَّث عن المآسي والأهوال التي عايشها وقد غلبته العبرة أكثر من مرة، وأكد أن إسرائيل استخدمت في حربها على غزة أسلحة جديدة وغير تقليدية مشيراً إلى أن الإصابات التي أحدثتها تفرض على الأطباء بتر الأعضاء المصابة.
 وقال أيضاً : إن إسرائيل خرقت وتخرق القوانين الإنسانية ، وإن غزة كانت كلها هدفاً عسكرياً ولم يكن فيها مكان آمن، وختم حديثه بكلمات وجهها لأهالي غزة تخجل من كان قلبه ذرة من إيمان أو نخوة لعروبته وأمته ، فقال :
انتم لستم وحدكم ونحن معكم ، وعليكم ألا تستسلموا فإن شعوب العالم الحرّ تتأمل في صبركم، ويستمدون من قوتكم، فإن استسلمتم فإن الشعوب ستستسلم ، ثم ختم قائلاً : على الشعب في غزة أن يعرف أن هناك أكثر من مليون نرويجي يدعمنا في تحركنا هنا ، اتصل بي رئيس الوزراء ووزير الخارجية ونحن في غزة ، كما شكر حماس على صبرها وثباتها واهتمام قادتها بشعبهم .
وقال أيضاً : إن ما حدث في غزة سنة 2009سيكتبه العالم بصفحات من دم، وسيذكر فيه التاريخ إحدى أكبر الفضائح الإنسانية ، لا نستطيع أن نجلس ونتفرج على شعب يعاقب بسبب اختياره الديمقراطي!!!
هذا بالإضافة إلى أن مئات الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان، جنَّدت نفسها لرفع دعاوى قضائية ضد مجرمي تل أبيب ، نعم وما ذلك إلا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته». وحال الدولة العبرية اليوم كما يقال في المثل العامي : (فُتِحَ عليها عشٌّ من الزنانير) .
4 ـ  فشل الجيش الإسرائيلي فشلاً عسكرياً ذريعاً في هذه المعركة ولم يحقق أي هدف من أهدافه سوى القتل والتدمير . وفي بيان لكتائب الأقصى يؤكد أن عدد القتلى من الجنود والضباط الصهاينة لا يقل عن 80 شخصاً وجرح المئات وتدمير 47 دبابة وجرافة وناقلة بشكل جزئي أو كلي ، بالإضافة إلى ما أحدثته صواريخ المقاومة من أضرار ورعب لدى الشعب اليهودي حيث إن ما يقارب من مليون شخص منهم كانوا يعيشون خلال فترة الحرب في الملاجئ خوفاً من صواريخ المقاومة ـ العبثية كما يدعون ـ ولقد كان الجيش الإسرائيلي يكتم خسائره بدليل أنه منع عشرات الصحفيين الأجانب من الدخول إلى غزة .
ـ إن الأسطورة التي كان يتحدث عنها الجيش الإسرائيلي بأنه الجيش الذي لا يُهزم ، تلاشت ، علماً أنه الجيش الأول في منطقة الشرق الأوسط والخامس على المستوى العالمي بكل أسلحته والرابع بطيرانه ، وقد حشد في هذه المعركة عشرات الآلاف من قواته واستدعى الاحتياط .
ـ لم يستطع الجيش أن يتقدم سوى مئات الأمتار خلال المعركة البرية التي استمرت قرابة أسبوعين.
ـ إن الضربات التي كان يوجهها الجيش إلى غزة كانت عشوائية تدل على الجبن والخور ، ولا يخفى على المتابع لأحداث المجزرة أنها مختلفة تماماً عن المجازر السابقة، وذلك أن ضربتهم في هذه المرة كانت ضربة العميان، وذلك أن جيش العملاء الذي اصطادت به سابقاً قادة المجاهدين أمثال : أحمد ياسين ، والرنتيسي ، وصلاح شحادة ، وضربت به أهدافاً محددة ، قد فقدته في هذه الحرب، ولعل المقاومة الإسلامية في غزة قد نظفت غزة من هذه القاذورات التي كانت أخطر على المجاهدين من جيش الاحتلال ، لذا نرى أن إسرائيل في هذه المرة عجزت إلى حدٍّ كبير عن استخدام طابور الخسة والنذالة الذي كانت تستخدمه أيام شارون وعباس ودحلان ..
ـ كلُّ المعلومات الحديثة تشير إلى أنَّ الجيش الإسرائيلي اليوم أصبح يعيش حالة من التفكك والجبن .
 وقد ظهر حديثاً كتاب بعنوان : (ثغرات في جدار الجيش الإسرائيلي) أصدره مركز الزيتونه للدراسات في بيروت للمؤلف عدنان أبو عامر ومن أهم ما ذكره المؤلف في هذا الكتاب :
لقد بات الجيش الصهيوني يعاني من جمود وتخلف الذهنية العسكرية ، ومن تراجع عدد الجنود وساعات الخدمة ، كما أن استمرار المواجهة بين الجيش والمقاومة لعقود أدى إلى حالة إحباط لدى الإسرائيليين .
كما عرض الكاتب أقوال 15 شخصية سياسية وصحفية بارزة            في إسرائيل أجمعت على فشل الجيش في القضاء على المقاومة لأنها عقيدة كامنة في وجدان الشعب الفلسطيني وليست مجرد بُنية مادية تدمَّر   عسكرياً .
كما تناول الحديث عما يحدق بالجيش الصهيوني من أخطار داخلية أبرزها تحوله إلى شرطة قمع تمارس أبشع السلوكيات لقمع الانتفاضة والتنكيل بالمدنيين.
وفي النهاية انتقل إلى الحديث عن مظاهر التفكك في الجيش ، من ذلك: سرقة السلاح وإهمال المركبات ، وفقدان الثقة بين القادة والجنود وزيادة حالات التمرد والأمراض النفسية ، وارتفاع نسبة التهرب من الخدمة الإلزامية إلى 25% . (عن مجلة المجتمع عدد 1834 13محرم 1430هـ ) .
ويؤيد هذا ما ذكره الناطق باسم كتائب القسام عن الرعب لدى الجيش الإسرائيلي حيث أن الجنود الإسرائيليين كانوا يستعملون الحفاضات ( بامبرز) خوفاً من الخروج من الدبابات حتى لا يصيدهم سلاح المقاومة .
ـ لما عجز الجيش عن تحقيق أهدافه عسكرياً لجأ إلى استخدام الحرب النفسية مع الشعب في غزة لمحاولة الإيقاع بينه وبين قادته والمقاومة من ذلك :
ـ اختراق فضائية الأقصى، وبث مواد دعائية ضد قيادات حماس تتهمهم بالجبن والاختفاء عن الأنظار أثناء القصف ، وبث صورة مرسومة مزعومة لأحد مقاتلي حماس وهو يرتجف من الخوف، ثم يفر هارباً من المعركة.
ـ بث مواد إذاعية تتهم حركة المقاومة بأنها إرهابية لا يعنيها مصلحة الشعب الفلسطيني، وأنها أداة في يد إيران.
ـ توزيع عشرات الآلاف من المنشورات باللغة العربية تدعو إلى عدم التعاون مع حماس، وأنه لولا حماس لكان قطاع غزة يرفل بالازدهار الاقتصادي .
كلُّ ذلك بفضل الله تعالى لم يؤثر ولم يفت في عضد الشعب، بل زاده لُحمةً مع قادته، ومما يدل على هذه اللحمة القوية خروج عشرات الآلاف من المشيعْين في جنازة القائد البطل الشهيد سعيد صيام ـ رحمه الله تعالى ـ أيام الحرب وتحت القصف دون خوف أو وجل .
5 ـ هذه المعركة  تعتبر أول معركة خلال ستين سنة يهزم فيها الجيش الإسرائيلي، وإن مقارنة يسيرة بين ما حصل خلال حرب الأيام الستة من يونيو ( حزيران ) 1967، التي اشتركت فيها الجيوش العربية مصر وسوريا والأردن بالإضافة إلى مساندات من دول عربية أخرى، وكانت النتيجة أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وغزة والنسبة المتبقية للعرب من فلسطين بحدود 23% بالإضافة إلى سيناء التي تبلغ مساحتها  61كلم مربع، والتي هي أكبر من مساحة فلسطين كلها،  وكذلك احتلت مرتفعات الجولان التي كانت تقول عنها إسرائيل: الجولان أخطر علينا من مصر ، وهي أخطر موقع استراتيجي يهدد إسرائيل .
والآن خلال ثلاثة وعشرين يوماً لم يستطع الجيش الإسرائيلي أن يتقدم سوى مئات الأمتار،  وكانت النهاية أن تمَّ إعلان الفشل الذريع على لسان رئيس حكومة إسرائيل بإيقاف القتال من طرف واحد ، وطارت وزيرة الخارجية (ليفني) إلى أمريكا لتوقُّع هناك اتفاقية مضحكة هزيلة سخيفة مضمونها: (منع تهريب السلاح إلى غزة) لقد تلاشت كلُّ الأهداف التي تحدثوا عنها وانحصرت مطالبهم بعد كلِّ هذه المعارك بمطلب هزيل، ويصعب تحقيقه على كل الدول الكبرى مجتمعة بإذن الله تعالى :[سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] {القمر:45} .
وأما الحديث عن الإنجازات التي حققتها حركات المقاومة الإسلامية متمثلة في حماس وبقية الفصائل المجاهدة معها يمكن إجمالها فيما يلي :
1 ـ لقد تلقت المقاومة الإسلامية الضربة الأولى في المعركة بصبر وثبات، وهذا عنوان النصر وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) .
2 ـ اضطلاع حكومة غزة بكافة مهامها خلال فترة الحرب الطويلة بكافة قطاعاتها دون كلل أو ملل ، ودون حصول أي خلل أمني في القطاع ، وربما كان هذا من الأمور التي راهن عليه العدو وعملاؤه في سقوط المقاومة ، فالقطاع الصحي كان يعمل دون كلل أو ملل ، والإغاثي ، والأمني ، والدفاع المدني ، حتى إنه في أيام الحرب تمَّ دفع الرواتب إلى الموظفين والعاملين.
 لقد أثبتت هذه الحكومة الشرعية والتي سموها زوراً ( الحكومة المقالة) أهليتها وصدقها في تعاملها مع شعبها، تعيش هي وإياهم جنباً إلى جنب، وهذا من أهم عوامل النصر بإذن الله تعالى .
3 ـ إن صبر الشعب مع قادته وثباته في أرضه ، وعدم تفكيره في النزوح إلى مصر كما يحصل لأيِّ شعب آخر ، بل إن كثيراً من العوائل عادت إلى غزة أثناء المعركة ، دليل واضح على صلابة هذا الشعب وقوة إيمانه وثقته بأن النصر قادم بإذن الله تعالى .
4 ـ ثبات المجاهدين في المعركة حتى آخر لحظة ومنعهم جيش العدو من أن يحقق أي هدف من أهدافه مع قلة خسائرهم البشرية، والتي لا تزيد على 48 شهيداً من كتائب القسام ، بالإضافة إلى أعداد يسيرة من بقية الفصائل المقاومة ، وحده يعتبر نصراً مؤزراً لهذه المقاومة الباسلة .
5 ـ استمرار المقاومة في إطلاق الصواريخ حتى آخر المعركة وإعلانها أن القوة الصاروخية لم تتأثر بفضل الله تعالى، بل إنها في تطور وازدياد ، ثم إعلانها في نهاية المعركة أن إيقاف الصواريخ جاء بقرار مستقل من طرفها وليس ضغطاً من العدو أو نجاحاً لحربه الخاسرة ، أليس هذا نصراً وخاصة أن الصواريخ هي الهاجس الرئيس الذي أقضَّ مضاجع دولة الكيان الصهيوني .
6 ـ اعتراف عدد من السياسيين الإسرائيلين وغيرهم بقوة حماس وفوزها في المعركة ومن ذلك :
     - اعتراف السياسي الإسرائيلي ( أفيغدور ليبرمان) رئيس حزب بيتنا بأن العملية العسكرية جعلت من حماس لاعباً مهماً في المنطقة ، وأن الأمر قد يستغرق بعض الوقت فقط قبل أن تنهار حكومة رام الله في أيديها ، كما أكد بأن حماس لن تستمر على ضعفها إنما ستكون أفضل من حزب الله في غضون عام، وسيكون لديها مئات الصواريخ القادرة على الوصول إلى وسط تل أبيب واستهداف مقر الحكومة .
كما قال رئيس كتلة الليكود بالكنيست (جدعون ساعر) في تصريح للقناة الحكومية : إن الحرب لم تحقق هدفاً استراتيجياً، وإن حماس ما تزال بالسلطة، مبدياً تخوفه من تعاظم قوتها مستقبلاً ، وأكد أن الحكومة فشلت في ترجمة ما حققه الجيش ميدانياً ، ( نقلاً عن الجزيرة نت ) .
  ـ لقد كان من أهداف الحرب القضاء على حماس والتخلص منها ، ولأمر يريده الله تعالى وإيذاناًَ منه سبحانه بأن النصر قادم لا محالة بإذنه ـ انقلب السحر على الساحر، وأصبح المسلمون وغيرهم في كل مكان يؤيدون حماس في جهادها ، ويقرون لها بالفضل، ويعتبروها الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه.
 ومما يؤكد ذلك ماذكره مراسل صحيفة (وول ستريت جورنال الأمريكية) في غزة، والتي هي من أوسع الصحف الأمريكية انتشاراً وقوة : إن إسرائيل وبحربها المدمرة على قطاع غزة حوَّلت سكان القطاع جميعاً إلى أنصار لحركة حماس، ناقلاً آراء العديد من المواطنين إن منهم من كان مؤِّيداً لحركة فتح .
ومن هؤلاء: أحمد السلطان الذي قال لمراسل الصحيفة (تشالز ليفنسون) بالحرف الواحد : حماس هي جيشنا الآن، والمدافع الوحيد عن الشعب الفلسطيني .وأضاف السلطان وهو يقف بين ركام منزله المدمر في حي التوام في غزة : لقد شاهدتهم وهم يقاتلون ، ورأيت شجاعتهم وتضحياتهم وهذا ما جعلني أُغيِّر موقفي منهم ، ويشير المراسل إلى أن السلطان وقبل عام ونصف العام فقط من الآن واجه حماس خلال انقلابها في غزة وتوليها السيطرة على القطاع بصفته عضواً بأجهزة أمن السلطة التابعة للرئيس عباس في غزة .
أما الآن ـ كما يقول ليفنسون نقلاً عن السلطان ـ : أصبح الأخير يصف الأجهزة الأمنية التي كان واحداً من أعضائها سابقاً بالحمير ! . وأن حماس التي كانت عدوته فيما مضى باتت المدافع الحقيقي عن الشعب الفلسطيني.
ويرى مراسل الصحيفة الأمريكية أنه ورغم الدمار الواسع الذي تعرض له قطاع غزة ، خرجت حماس بفوز سياسي هام من هذه الحرب شبيه بما حصل عليه حزب الله اللبناني أعقاب الحرب الإسرائيلية عليه صيف 2006 . (نقلاً عن الجزيرة نت 20/1/2009).
    7 ـ إن من بركات المقاومة التي حصلت في غزة أن وحَّدت شعوب الأمة الإسلامية، وجعلتها تتعاطف مع القضية الفلسطينية بشكل عام، ومع المقاومة الإسلامية بشكل خاص ، كما أن وقوف أحرار العالم وبعض الساسة بشكل واضح وصريح له وزن كبير في ميزان السياسة ، وأذكر على سبيل المثال تصريحات رئيس وزراء تركيا (رجب الطيب أردوغان) التي أعلنها صريحة واضحة دون خوف أو خجل ـ أسأل الله أن يحميه من كيد الكائدين ـ ولعل من أبرز كلماته التي وجهها إلى قادة العدو (ليفني وباراك) : "إن ما تقومان به ليس دعاية انتخابية إنما هو بقعة سوداء في تاريخ الإنسانية ، وإن التاريخ سيحاسبكما " . 
وقال موجهاً كلماته لأهالي غزة : "إن أجدادي العثمانيين حموا أجدادكم، ومن واجبي وأنا زعيم لأحفاد العثمانيين وليس لدولة عادية ، أن اقول لكم هذا القول".
 لله درَّك أيها البطل المغوار ، يا من صدعت بكلمة الحق يوم قلَّ الرجال وما أشبه هذا الكلام بكلام الخليفة المؤمن السلطان عبد الحميد ـ رحمه الله تعالى ـ حين أعلنها صريحة لمن طلبوا منه أن يسمح بهجرة اليهود إلى فلسطين لقاء تبرع مالي يهودي ضخم : "إنني لا أستطيع التخلِّي عن شبر واحد من فلسطين، لأنها ليست ملك يميني بل ملك شعبي ، لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورَّواها بدمه".
8 – إن من توفيق الله تعالى ومدده في هذه المعركة للمقاومة أن تتبنى عدد من الفنوات الفضائية أحداث غزة فتلغي كلَّ برامجها وتنقل الحدث بصورة واضحة وجلية للعيان لحظة بلحظة على مدار الأيام الثلاثة والعشرين دون توقف وأخص بالذكر قناة الجزيرة ومراسليها الأبطال مما كان له أعظم دور إعلامي وتوعوي في إثارة الرأي العام العالمي وتحريك الملايين في العالم ليقفوا إلى جانب القضية الفلسطينية ويناصروها وما ذلك إلا من بشائر الخير في هذه المعركة .
9 ـ إن ثبات حماس أمام الضغوط الكبيرة التي تمارس عليها لتقبل الشروط الإسرائيلية لتهدئةٍ طويلة الأمد ، وعدم تنازلها عن مطالبها دليل قوي على النصر بإذن الله تعالى ، وبأنه مهما حاول الأعداء واتهموا حماس بأنها منظمة إرهابية فلن يستطيعوا أن يتجاوزوها ، فهم رغم أنوفهم يحاورونها عن طريق الوسطاء ، وسيأتي اليوم الذي سيتوسطون للجلوس معها، وسيأتي بعده ـ بإذن الله تعالى ـ اليوم الذي سيكون زوال الاحتلال على يديها إن شاء الله تعالى .
10 ـ لقد أحيت هذه المقاومة في الأمة المسلمة فريضة الجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام ، بعد أن شوَّه اليهود وأذنابهم مفهومه ، وأصبحت هذه الفريضة الآن بعد الدرس العملي الذي قدمته المقاومة في فلسطين ، حقيقة لا مراء فيها، والتاريخ أكبر شاهد على أن التحرير لن يتم بغير ذلك. وصدق الله تعالى إذ يقول : [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ] {التوبة:14}  .
وفي الختام أقول ما قال الشاعر :
        جزى الله الشدائد كلَّ خير    عرفتُ بها عدوي من صديقي
لقد سدت ملحمة غزة الباب على كلِّ السماسرة الذين كانوا يزايدون على فلسطين خلال ستين عاماً ، وما استهداف إسرائيل لغزة التي انطلقت منها المقاومة الإسلامية الناصعة إلا لوأد المشروع الإسلامي الذي يوقنون بأنه وحده هو الذي سيقلب موازين القوى، ويرد الحق إلى أصحابه ، أما غير ذلك من شعارات ورايات تحت أي مسمى لن تخيف اليهود، ولن يحسبوا لها حساباً .
فأملنا بالله تعالى كبير أن لا تذهب هذه الدماء هدراً ، كما ذهب غيرها في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا وجنين .

أملنا أن تُضخ هذه الدماء في وريد الأمة الإسلامية، فتبعث فيها روح الجهاد والعزة والكرامة.
وأنتم يا أهل غزة الصامدة الصابرة يبدو أن الله تعالى كتب عليكم أن تكون حياة الأمة وصحوتها من غفلتها على أشلاء أجسادكم الطاهرة، فهنيئاً لكم فشهداؤكم في الجنة، وقتلى أعدائكم في النار، فأنتم بوابة الخير والحرية والنصر ، والله معكم ولن يَتِرَكم أعمالكم
:[ وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {المنافقون:8} .

[نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ] {الصَّف:13}

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين