التاجر الورع

كان كثيرٌ من العلماء والصالحين يشتغل بالتجارة ويعدُّها من أفضل طرق الكسب، ولم يمنعهم اشتغالهم بها عن طلب العلم ومتابعة الدراسة والبحث ولم تكن أمور البيع والشراء آنئذٍ معقدةً ولا صعبةً كما هي في أيامنا هذه ، لأن التاجر الصادق الأمين ينصحك في البيع فيطمئن قلبك إليه وتشعر بالراحة واليسر في معاملته ، وما أحوجنا في زماننا هذا إلى أمثال هؤلاء من التجار الذين يسهلون لنا أمور الشراء ويريحوننا من متاعبه ومصاعبه.

قرأت في ترجمة يونس بن عبد الجليل، وهو من كبار العلماء في عصره أنه كان صاحب متجرٍ لبيع الأقمشة والثياب، وكانت عنده أثوابُ مختلفة الأجناس متفاوتة الأثمان بعضها بمئتي درهم، وبعضها بأربعمئةٍ وبعضها بأكثر من ذلك، وحدث يوماً أنه ذهب إلى المسجد وترك ابن أخيه في الدكان فجاء زبونٌ يريد شراء ثوب فعرض عليه الأثواب فاختار منها ثوباً قيمته مئتا درهم أعجبه واستحسنه واستلم منه البائع أربعمئة درهم بدلاً من مئتين، ورجع يونس من المسجد والتقى بالمشتري، وسأله عن الثمن الذي دفعه فأخبره به، فأفهمه يونس أن ثمن الثوب مئتان فقط فقال المشتري : إنني دفعت الثمن راضياً مختاراً لأن الثوب في بلدنا يساوي خمسمئة وليس لي اعتراضٌ ولا أعتقد أني مغبون بالسعر، وكان من الممكن أن يتركه البائع لأنه دفع الثمن راضياً مطمئناً، ولكن يونس لم يتركه بل رجع به إلى الدكان وقال له : إن النصح في الدين والأمانة في الربح خيرٌ من الدنيا وما فيها، وأعاد اليه مئتي درهم وزجر ابن أخيه وقال له : أما تتقي الله في بيعك تربح ضعف الثمن؟ فأجابه : إن المشتري دفع الثمن برضاه واختياره فأجابه قائلاً: إذا رضي المشتري فإننا لا نرضى لغيرنا إلا بما نرضاه لأنفسنا.

ولا شك أن هذا الموقف هو النهاية في الورع، ومَثَلٌ رائع للإخلاص في البيع الخالي عن الظلم، وتذكرنا هذه القصة بالإمام أبي حنيفة النعمان الذي كان تاجر أقمشةٍ، وكان له شريكٌ اسمه حفصٌ فباع شريكه لأحد الزبائن ثوباً فيه عيب ولم يخبره بعيبه ولم ينقص له الثمن، بل استوفى منه الثمن كاملاً، فلما علم أبو حنيفة بذلك، راح يبحث عن المشتري ويفتش عنه، وساعده شريكه في البحث والتفتيش فلم يقفا له على أثرٍ ولم يعثرا عليه، فعندئذٍ رفض أبو حنيفة أن يقبل ثمن الثوب ولم يضمه إلى ماله بل تصدق به كله وفسخ الشركة مع شريكه احتياطاً لدينه.

فهل نرى مثل هؤلاء التجار في زماننا هذا؟

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها اليوم 2/3/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين