ثقافة الانهزاميين عند الاختيار الفاضح - خطبة جامع العادلية بحلب

ثقافة الانهزاميين عند الاختيار الفاضح


خطبة الجمعة في جامع العادلية في حلب بتاريخ 16/1/2009 للشيخ محمود أبو الهدى الحسيني


هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ أمتنا أيها الإخوة الأحبة، تفرز نوعين كل منهما يدّعي الانتماء إلى الأمة، لكنّ الاختبارات تُنتِج تمييزًا، لم يكن هذا التمييز ليظهر من غير المحنة والاختبار.
وقد قلت البارحة لبعض أحبتنا إن شعار هذه المرحلة: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[الأنفال: 6]
أمام الاختبار الذي تعيشه أمتنا في هذه المرحلة، تجد نوعًا بدأت الصحوة تدب فيه، وبدأت الروح تنفخ في همّته، وبدأ استعداده الجهادي يُظهر حالةً من الإقدام، والنية.
يحدث نفسه، يتساءل كيف لي أن أظهر سلوكًا يتناسب مع النية وما أرتجيه من الإقدام.
هذا النوع لم ينحصر في الحكام ولا في الشعوب، تمامًا كما هو النوع الآخر الخائف المذبذب المنهزم في داخله قبل أن يكون منهزمًا في ظاهره، لا ينحصر أيضًا في الحكّام ولا في الشعوب، لا ينحصر في القادة ولا في الأتباع إنما يعم الجميع.
وحين حكى القرآن الكريم  في يوم من الأيام نموذجًا في مرحلة من المراحل الزمنية، يوم التقى طالوت بجالوت،  فكان طالوت يمثل صنف الإقدام والجهاد والطاعة والامتثال لأمر الله، رأيت في جيشه وفيمن ينتمي إليه هذين النوعين.
أما النوع الانهزامي المذبذب فكان شعاره كما حكى القرآن: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]
لا تكافؤ في العَدد، لا تكافؤ في العُدد، فكيف نلقي بأنفسنا في مواجهة لا تكافؤ فيها!!!
أما الذين ثبتوا وصحّت نيتهم وتعلقوا بالله لا بغيره، فإنهم نبّهوا إلى السُنّة الكونية التي يظهرها الله سبحانه وتعالى عند وجود الفئة الصادقة بقولهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
وكان شعارهم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [البقرة: 250].
ولم يكن هذا منحصرًا في حقبة زمنية كما ذكرت، والمثال الأظهر والأقرب في أمتنا ما حكاه القرآن الكريم في قصة الأحزاب، حينما حوصر أهل الإيمان، وكان بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعدما حفروا الخندق، وتآمر اليهود مع الأحزاب، فكان العملاء في الداخل، وكان العدو في الخارج... وكانت رمزًا باقيًا في هذه الأمة.
 نتذكره و ونحن نرى غزة الشهيدة بشعبها المقدام بقادتها الذين لم يبيعوا أنفسهم لشيطان، ولم يرتضوا أن يكونوا من الخونة والعملاء بل ثبتوا في مقارعة ذلك المحتل، ومواجهة هذا المجرم المعتدي، مع أنهم في مواجهة لا تكافؤ فيها أبدًا، البحر من ورائهم، وفي البحر عدو يستعمل بارجاته، وأمامهم يحاصرهم سلاح متطور، أمدّه اليمين الذي ما هو إلا من أصحاب الشمال في البيت الأبيض الأمريكي، سلاح متطور على المستوى العالمي، صُنع في بلد الطغيان والجبروت، الذي يتسلّط على الناس.
ويُقصفون بالطائرات المدمرة التي تستعمل ما أجمع العالم على حظره وتحريمه في كل الحروب.
ومع هذا ما بقي إلا جزء يسير من المحيط الذي يحيط بهم ينفتح على بلد مسلم عربي لكنه لا ينفتح، لأن الذين يديرون ذلك البلد قد باعوا كل ضمائرهم وتعاونوا مع العدو الذي يمزّق الأطفال أشلاءً ويبقر بطون الحوامل، ويجعل الشيوخ والعجزة قطعًا ومزقًا.
المساحة الصغيرة التي كان يمكن للأمة أن تستخدمها في مواجهة ذلك العدو من الجهة المصرية، مع غليان هذا الشعب المسلم، ورفضه ما يفعل حكامه، لكنها المحاصرة التامة.
إذًا نحن أمام نموذج حاضر تعيشه الأمة الإسلامية، نموذجه الأقرب الذي حكى القرآن عنه وفصَّل فيه وبين معادلاته كان نموذج الأحزاب، في سورة سمّاها الله تعالى سورة الأحزاب: وفيها قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}
لكأنّ القرآن يحكي عنما يعيشه إخواننا في عزّة:  {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}
تظنون أن الله تبارك وتعالى لا يؤيد الفئة الثابتة الصادقة المؤمنة المرابطة المجاهدة. {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا}الأحزاب: 10].
فلا يمكن لمن يدّعي الإيمان ويدّعي التمسك بالمبدأ أن يظهر صدقه وثباته وإقدامه وجهاده من غير زلزال.
فالدعاوي رخيصة، والذين يسلكون طريق الدعاوي ما أكثرهم، فيأتي الزلزال ليظهر فيه الذين يحرصون على الشهادة،  الذين يقدمون الآخرة على الدنيا، الذين لا يتاجرون بالقضايا والمبادئ، الذين لا يكذبون على أنفسهم وعلى الناس، الذين يتحدثون اليوم  بالقضية الفلسطينية خارج ساحة الجهاد والمقاومة، هم أهل المليارات الذين أودعوا أموالهم في البنوك العالمية، الذين صافحوا أعداء الله من المجرمين أبناء صهيون.. الذين يتاجرن بالقضية الفلسطينية اليوم ويبتعدون عن ساحة الجهاد سيرهم الذاتية معروفة معلومة،ومن ورائهم من يتاجر بالقضية من خارج دائرة الشعب الفلسطيني، فسيرهم الذاتية معلومة أيضًا، فلم يكن في يوم من الأيام سلوكهم معبرًا عن تمسك بمبدأ بمقدار ما كان معبرًا عن تحللهم من المبادئ.
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}  ينشرون ذلك بين الناس من أجل أن يهزوا يقين الناس بالله، المنافق الذي أعلن في ظاهره إسلامه، وأبطن في باطنه الكفر بالإسلام، والكفر بوعد الله، والكفر بتأييد الله لعباده...
يقولون كما يحكي القرآن تثبيطًا لهذه الأمة وإبعادًا لها عن ثوابتها {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}[الأحزاب:12]،
يريدون صرف الأمة عن وعد الله، والله سبحانه وتعالى كتب {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]
فحينما توجد الفئة الثابتة الصادقة المؤمنة الملتزمة الصابرة المصابرة المرابطة يؤيدها الله، وإلا كيف نستطيع أن نفسر أن جيشًا كبيرًا  في التقيين الحربي هو من أعتى الجيوش في المنطقة يتراجع ويهزم أمام فئة لا تملك إلا الأسلحة اليدوية.
أي معادلة منطقية يمكن أن تفسّر تراجع الجيش الجبان الذي لا يتعامل مع هذا الشعب الصامد إلا من خلال الطائرات عن بُعد.
لكنّه حينما يقترب يهزم.
 ولماذا تستغربون؟
الذي يحب الشهادة دائمًا ينتصر على الذي يحب الحياة.
أَحِبوا الشهادة تنتصرون, أَحِبوا الحياة تُهزمون..
فلما أحبّ المجاهدون الشهادة انتصروا, صدّوا هذا العدوان المُجرِم..
والآن يستغيث الكيان المجرم المعتدي, ويريد أن يخرج بأيِّ حل, لكنه يصطدم بالجبال الثابتة, التي تقدّم قياداتها للشهادة, لا تختبئ القيادات خلف الجنود, إنما تتقدّم في المقدمة, فهذا هو الريَّان منذ أيام, وهذا هو سعيد صيام, والركب مستمر, من قبله كان أحمد ياسين والرنتيسي وغيرهم..
إنهم يتسابقون إلى الجهاد, يتسابقون إلى الشهادة, يتسابقون إلى الجنة..
ما الذي يفعله الذين يتاجرون بالقضية, الذين يتحدّثون عن شرعيات..؟
أي شرعيات هذه التي يتحدّثون عنها, وهل بقي في عالم الفوضى هذه الشرعيات!!
هل بقي فيما يُسمى بالشرعية الدولية أي شرعية, بعدما أن أصدر مجلس الأمن, الذي هو أعلى سلطة دولية, قرارًا مُلزِمًا, فلم يلتفت إليه هذا الكيان..
ووقف العالم, أستمع إلى المحللين الذين يتحدّثون من خارج الأمة, لاسيما الموظفون الدوليون, فأرى عبارة: نحن على قلق.. نحن في قلق لأن هذا الكيان لم يُنفِّذ القرارات.. نحن في قلق لأن الأونروا التي تقدّم المواد الغذائية والأدوية تُقصف..
لأن الأموال التي تُجمع في بلادنا وتتسلمها الأونروا تُجمّع من أجل أن تُطلِق عليها تلك الدولة المُعتدية, التي ينبغي أن تُزال من الخارطة, تُطلِق عليها الصواريخ.
مئات الملايين تُجمع في الأمة, في المحافظات, ثم تُجمع بعد ذلك وتنهال الصواريخ على مُجمّع الأدوية..
هل هو تواطؤ دولي, من أجل أن تُجمع أموالنا ثم تُحرق بتنسيق..
أنا لم أعد أصدِّق هذا الكذب..
يقول: عندي قلق..!!
وما ينفعنا قلقك أيها الموظف الدولي..
إنها قضية تواطؤ.
لا نريد تبرع لأنوروا سنتبرع لحماس, وإنني عندما أسمع أن الجهات الرسمية أدركت ذلك, وفسحت الفرصة للتبرع المباشر لحماس، فإنني أعتبر ذلك موقفًا إيجابيًا ينبغي أن نعيه، لأن الأدوية التي تسلمتها الأونروا والمواد الغذائية أحرقتها بالتواطؤ.
من الذي يضمن لك أن هذا لم يكن بتنسيق من أجل أن تُحرق أموالنا, حتى لا يستفيد إخواننا في غزة من الطحين, ولا من الأدوية.
لكن عندما تُسلِّم الأموال لحماس, فأنت تضمن وصولها للمقاومة, للمجاهدين...
مئات الملايين صُرِفت ثم أُحرقت..
إذًا نحن في حالة مُزرية, يسخر فيها أعداؤنا منا, تُمتص أموالنا ثم تُحرق, والإعلام يُصوِّر القضية على أنها قضية قد حصل من خلالها اعتداء صهيوني على الأونروا.. لا.. لم يحصل, لأن الذين يقومون على رعاية هذه المنظمات الدولية لم تبقَ لهم شرعية, لأنهم كاذبون, لأنهم يلتفون على الناس, فحين تكون القضية مُتعلِقة بسورية أو العراق أو أي دولة مسلمة, عند ذلك يصيح العالم كله شرعية دولية, وعندما يكون الأمر مُتعلِّقًا بالكيان الصهيوني, يقولون نحن في قلق!!
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}
يقولون: أين وعد الله الذي وعدكم إياه..
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} هاهنا يأتي التثبيط العملي, يأتي المثبطون من الداخل يقولون: لا إقامة لكم, فاخرجوا عن صفوف الجهاد, فارجعوا إلى بيوتكم.
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ..} لا إقامة لكم مع النبي صلى الله عليه وسلم مع المجاهدين {..فَارْجِعُوا} ارجعوا إلى بيوتكم.
إنني أحمد الله سبحانه وتعالى أن الذين يتحدّثون عن الإرهاب, سوف يخجلون وإن لم يخجلوا سنخجلهم قهرًا عنهم..
أي إرهاب..! مكافحة الإرهاب, إن كانت تعني مكافحة الجهاد في سبيل الله, من أجل محو هذا الكيان المجرم المعتدي, فإننا سنكافح من يُكافح.
ولكن إذا كانت مكافحة الإرهاب تعني أن نكافح جميعاً هذا الكيان الصهيوني, فما أحلى مكافحة الإرهاب, عندما نكافح هذا الكيان المجرم.
لنا عدو واحد, ينبغي على المذبذبين أن يتوبوا إلى الله ويُوجّهوا بنادقهم إليه.
وينبغي على كل حر مؤمن يقظ شهم أن يفهم من هو عدوه.
أحمد الله أن هذه اللعبة التي اصطنعها ذلك المجرم الذي تنتهي ولايته الآن, مكافحة الإرهاب.. مكافحة الإرهاب... حتى صار الذي يُدافِع عن عرضه إرهابيًا, وصار الذي يُدافِع عن أرضه إرهابيًا, وصار الذي يُصلّي لله تعالى إرهابيًا, وصار الذي يُطلق لحيته متأسيًا برسول الله إرهابيًا, باختصار صار المسلم إرهابيًا, أما اليهودي فإنه مظهر السلام, فإنه مظهر الابتسامة..
لقد سقطت هذه الأكذوبة التي تعبوا طويلاً, أكثر من مائة عام, من أجل يُرسِّخوها في الأذهان..
يا أمة الإسلام كفى ذُلاً.. كفى أن تكوني أسيرة خديعة..
إلى متى ؟ علينا أن نصحو..
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ..} هاهنا يأتي الصدى, الفريق الأول يقول: ارجعوا إلى بيوتكم, واتركوا صفوف الجهاد, فينفعل بعضهم, ويستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من صفوف الجهاد.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} بيوتنا غير مُحصَّنة ونخاف, المدينة تركناها وجئنا لنرابط على حدودها, فجاء التثبيط الأول قوليًا, وجاء التثبيط الثاني سلوكيًّا وعمليًا.
وفضح الله سبحانه وتعالى الفريقين, وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا}
إنهم أهل الفرار من الجهاد.
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا..}
لو أن هؤلاء الذين يزعمون أنهم لن يقاتلوا, لو رأوا أن مصالحهم ستتأثر وهم عُبّاد المصالح, {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لاتَوْهَا} وفي قراءة لآتوها, والفتنة الدفاع والقتال من أجل غير إعلاء كلمة الله, يُقاتل حميّة, يُقاتل من أجل مصلحته, يُقاتل من أجل ماله, يُقاتل من أجل منصبه.. {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} ستجد أن الجيوش تحركت, الجيوش تتحرك من أجل كل شيء إلا من أجل إعلاء كلمة الله, إلا من أجل الدفاع عن الصادقين الذين يثبتون أمام هذه العدو المجرم.
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لاتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا}
ما كانوا يمكثون في بيوتهم, كنت تراهم مرابطين, كنت تراهم في حالة الاستنفار,... لكن القضية عندما تكون دفاعًا عن دين الله, تجد الانهزاميين وقد فضحهم هذا الاختبار.
أيها الإخوة الأحبة: عندما لا نصحو في هذه المرحلة بإعلان الانتماء الصريح إلى دين الله, ما أنزل الله هذه القرآن من أجل أن يُتلى ويوضع على الرفوف, بل أنزل هذا القرآن ليكون مُوجِّهًا لهذا الإنسان, وما نزال في مستنقع الضياع, والبحث عن الانتماءات التي لا مصداقية فيها, لا مصداقية فيها..
كنت قلت لهم في أحد المجالس العلمية: الدورة بين الموت والإحياء في الحضارات في الأمم في المدن في القرى.. مائة عام, أشار إلى هذا قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 295] من أجل يرى أن مائة عام تكفي من أجل يبدأ التغيير.
وكنت أتساءل: نحن الآن في عام ألفين وتسعة, ما الذي حصل في عام ألف وتسعمائة وتسعة؟
الذي حصل هو: رفض السلطان الولي العثماني عبد الحميد لبيع فلسطين لليهود, فعُزِل واعتلى سدّة الحكم الاتحاد والترقي, الذين رتّب لهم أبناء صهيون.
وهو التاريخ الفعلي لانتهاء الخلافة, بقطع النظر عن الصور الشكلية التي كانت بعد السلطان عبد الحميد.
إذًا نحن بعد مائة عام من رفض بيع فلسطين, هاهي فلسطين بعد أن بيعت, وتآمر المتآمرون عليها, تُعيد من جديد هذه الأمة, فتُنفخ فيها الروح من جديد.
نفخ الروح من جديد لا يعني الولادة, ألا ترون أن الجنين تُنفخ الروح فيه وهو في بطن أمه, بعد أربعة أشهر تُنفخ فيه الروح, لكن ينتظر خمسة أشهر ثم يخرج, على تفاوت, هناك من الأجنة يخرج بعد شهرين من نفخ الروح, وهناك من يخرج بعد ثلاثة أشهر, وهناك من يخرج بعد خمسة أشهر..
لكن نفخ الروح لا يعني الولادة المباشرة..
هذا العام يشهد نفخ الروح من جديد, فافهموا ذلك..يا إخوتي
ثم نسمع من أرض الخلافة العثمانية وفي الوسط العلماني من يخرج ليقول: أنا وريث الدولة العثمانية.
حيّا الله موقف تركيا، وأخزى الله مواقف الخونة الذين يتآمرن على شعوبهم وقضايا شعوبهم المصيرية.
حيّا الله هذا البلد المسلم الذي تحركت الدماء في شرايينه، وجاءت ألوف السيارات من أجل أن تقوم بمظاهرة على الشريط الحدودي لتقول: نحن شعب يرفض أن يكون مع المجرم في سلام.
ووقف مئات الأطباء من تركيا على الحدود، في مصر ليقول: افتحوا لنا حتى نصل إلى المستشفيات.
إذًا هذا القرآن الذي كان شعار الأمة منذ مئة، ينبغي أن نصحو بعد مئة عام ولا نخجل عندما نقول: القرآن إمامنا.
الأمر الثاني: وبعد هذه الصحوة الفكرية لابد من صحوة سلوكية، وهذه الصحوة السلوكية من خلال تبني السلوك الإسلامي المستقيم، الذي يأبى الانحراف، فقد سئمنا من الذين يعلنون الشعارات ثم يتناقضون مع شعاراتهم. الجهاد، رتب الله سبحانه وتعالى له مقدمات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}هي المقدمة الأولى.
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} حين تكون العلاقات بين المؤمنين ناظمة للسلوك، فلا يتكبر المسلم على المسلم إنما يكون الصف متماسكًا.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يرون أن ما هم فيه هو عين الخير، وأن ما فيه غيرهم هو عين الضلال، والانحراف والتيه والضياع.
{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة: 54]
 فإذا هيأت نفسك للجهاد ستكون يومًا من الأيام في صفوف، وإذا توهمت أنك تقدر على الجهاد كما يقدر هؤلاء
 الثابتون المرابطون المصابرون الصابرون فأنت واهم ستفر.
أنا أنصحك أنت ما مررت بالاختبار، عندما ينقص طعامك تصيح، عندما تنقص التدفئة تصيح، غزة بلا كهرباء، بلا ماء، بلا طعام، أيام بدون طعام،الأطفال بدون ماء، هل تثق أنك تصبر على هذا؟
إنك لن تصبر على هذا حين يأتي العدو إليك وسيأتي، فالملاحم التي ستكون في هذه البلاد أخبر عنها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سكتون في هذه البلاد ملاحم، وسيأتي أعداء الله إلينا، مهما توهم المتوهمون أنهم بعيدون عن ساحة المعركة فإن ساحة المعركة ستنتقل إليهم، لكن عندها سيفرون.
إذا لابد أن تهيئ قلبك بمقدمات الجهاد.
{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فإذا صدقت بالتعلق بالله وكان التعلق بالله تبارك وتعالى رأس مالك ثم تحول سلوكك الخلقي بعد ذلك مع المسلمين إلى نموذج إسلامي رائد ثم صارت العزة بانتمائك واضحة دون أن تلتفت إلى الأسباب، وعباد المصالح.
عندها ستكون في مرحلة: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} لكن إذا لم تمر بهذه المقدمات ستهزم من اللحظة الأولى.
لا تتوهموا أن نصر المقاومين على هذا الجيش المدجج كان بـ RBG وصواريخ GRAD.
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} فما طلب منّا ما يزيد على استطاعتنا، لكن نحن ننتصر بما في قلوبنا، قبل أن ننتصر بما في أيدينا، فإن كان ليدنا التعلق بالله الذي هو أولوية، والخلق والانتماء والاعتزاز بالانتماء عند ذلك ننتصر.
يا شباب اسألوا أنفسكم هذا السؤال: أين أنتم من هذه الثلاث؟
فإذا وجدتم أن هذه الثلاثة قد تحققت فيكم فعند ذلك ستكونون مهيئين للجهاد.
ردنا اللهم إلى دينك ردًا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه.
قول وهذا القول وأستغفر الله .
الخطبة الثانية
 تذكروا دائمًا قوله تعالى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] تذكروا هذه الآية.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} لن يترككم إن كنتم من أهل الإيمان، سوف يدخلكم في الاختبار، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} إذًا كنتم من أهل الإيمان عناية الله سوف تدخلكم في الاختبار، محبة الله لكم سوف تدخلكم في الاختبار، وإن كنتم تحرصون على الدنيا فلابد أن تتذكروا قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً} [الأحزاب: 16]
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} لا فائدة هذا الفرار لن يطول سيأتي أجلك وتنتقل عن هذه الدار.
إذًا الاختبار قادم وحين تهرب من الاختبار لن ينفعك الفرار من الموت، {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً} حتى يأتي أجللك وبعد ذلك تخسر الدنيا والآخرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين