وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر - العالم عبد الغفار الدروبي

أقيم ليلة أمس الثلاثاء 24/1/1430الموافق 20/1/2009  في منزل الشيخ الوجيه الفاضل يوسف بشناق اجتماع عامر لقراءة ختمة على روح فضيلة الشيخ عبد الغفار الدروبي  ، وقد حضره عدد كبير من العلماء وتلاميذ الشيخ ومحبيه ، وقد تليت عدة ختمات على روحه ، وألقى حفيده الشيخ عبد الغفار بن فيصل كلمة عن جده ومآثره، ثم ألقى الأستاذ الشيخ جمال سيروان كلمة رائعة عن فضل العلماء وأثر الشيخ وفضله، ثم تكلم الشيخ أبو النور قره علي كلمة خطابية مؤثرة عن منهج الشيخ وأهمية متابعة المنهج وتوارثه.
ثم ألقى فضيلة الشيخ ممدوح جنيد كلمة مختصرة عن صلته بالشيخ وأخلاقه الرفيعة العالية .
ثم ختم المجلس بالدعاء ، والعشاء ، وقد تكرَّم الأخ الدكتور ياسر مسدي بكتابة هذه الكلمة في رثاء الشيخ أحببنا أن نقدمها للقراء الكرام:


وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر


بقلم الدكتور : ياسر مسدي


في صبيحة خير يوم طلعت فيه الشمس ، يوم الجمعة الموافق التاسع عشر من شهر الله المحرم 1430هـ ، اغتسل الشيخ عبد الغفار وتوضأ وصلى ما كتب الله له من صلاة الضحى ، وجلس ينتظر الذهاب إلى صلاة الجمعة وهو على أحسن حال من الطهر والذكر وتلاوة القرآن ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا بهذه الروح الطيبة المباركة تلبي أمر ربها في موعدها المحتوم تخرج من الجسد الطيب حميدةً مبشَّرة ـ بإذن الله تعالى ـ برَوْح وريحان وربٍّ غير غضبان، ويسري هذا الخبر خلال لحظات إلى أهله وإخوانه وطلابه ومحبيه فيعزِّي الجميع بعضهم بعضاً لأن المصاب بفقد العالم مصاب الجميع، وخاصة في زمن قلَّ فيه العلماء الربانيون الزاهدون في الدنيا الراغبون بما عند الله من نعيم مقيم.
إن المصاب بفقد العلماء مصاب كبير ، وخاصة في هذه الأيام العصيبة التي يعيشها المسلمون ، ورحم الله الإمام علي رضي الله عنه إذ يقول: "إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه "، أورده الغزالي في الإحياء وعزاه العراقي إلى الخطيب في "تاريخه" كما أثر عن الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ قوله :" يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء "كما روي مرفوعاً عن أبي الدرداء وأنس ، ولعل الحسن سمع منه .
نعم العلماء هم المشاعل يضيئوا الطريق للناس ، ويُعرِّفوهم السنة من البدعة.
نعم العلماء العاملون المخلصون هم القادة، وهم الهداة ، وهم الأدلة على الخير تُقْتفى آثارهم وترمق أفعالهم.
ولقد منَّ الله عليَّ أن عشتُ فترة من الزمن أستظل بظلِّ الثلة المباركة من علماء حمص في المعهد العلمي الشرعي، إذ كنت مشرفاً على الطلاب في المعهد حيث كان والدي ـ رحمه الله تعالى ـ مديراً للمعهد يشاركه في التدريس السادة العلماء أمثال : الشيخ وصفي المسدي حفظه الله ورعاه، والشيخ عبد الغفار الدروبي ، والشيخ أحمد الكعكة، والشيخ محمد جندل الرفاعي رحمهم الله رحمة واسعة ، هذا بالإضافة إلى بقية العلماء الآخرين من خارج المعهد أمثال الشيخ : أبوالسعود عبد السلام ، والشيخ محمود جنيد ، والشيخ عبد العزيز عيون السود ، رحمهم الله جميعاً ، وكذلك الشيخ محمد علي مشعل حفظه الله تعالى ، والحديث عن خصال ومآثر كلِّ واحد ممن ذكرتُ يحتاج إلى سجلات يضيق الوقت عن تسجيلها الآن ، ولكن لابد لي من أن أسجل في هذه العجالة ـ وقد طلب إليَّ الأخ الشيخ مجد جزاه الله خيراً أن أكتب كلمة رثاء وتعريف بشيخنا الشيخ عبد الغفار الدروبي رحمه الله تعالى بعض ما يجول في خاطري من مواقف نبيلة وذكريات عطرة لمستها لدى الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ ، رغم أني لست ممن لازم الشيخ فترة طويلة غير أني لم أنقطع عن الصلة به سواء في حمص أم في أرض المهجر .
كنت ـ منذ نعومة أظفاري ـ إذا نظرت إلى الشيخ شعرت بأني أمام عالم رباني من بقية السلف الصالح ، يعلمك بلسان حاله قبل أن يعلمك بلسان مقاله، أتمثل في سمته ونظراته قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أيُّ جلسائنا خير؟ فقال : "مَنْ ذكَّركم بالله رؤيته ، وزاد في علمكم منطقُه ، وذكَّركم بالآخرة عمله" ، رواه عبد بن حميد وأبو يعلى في مسنديهما. وفي هذا المقام يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه صيد الخاطر:
كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لاقتباس علمه ، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته.
لقد عرفت الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ إماماً ومدرساً ومربياً وداعية في مسجد جورة الشياح ( الذي أطلق عليه فيما بعد مسجد الدعوة ) نظراً للجهود الدعوية المباركة التي كانت تقام فيه ، وخطيباً للجمعة في مسجد علاء الدين الحسامي .
كانت دروسه متواصلة بعد الفجر وبعد العصر وبعد المغرب ، بالإضافة إلى الدروس المتنقلة بعد العشاء .
لقد كان الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ يعطي الشباب الناشئ من وقته، من علمه ، من أخلاقه ، من أسلوبه الدعوي الفذ ، يرعاهم كما ترعى الأم الحنون أولادها.
هذا بالإضافة إلى تدريسه في المعهد الشرعي ما يقارب من عشرين سنة، حيث كان يفرض شخصيته على الطلاب ، من خلال الهيبة التي حباه الله بها ، وما عُرف عنه ـ رحمه الله تعالى ـ أنه ضرب طالباً أو وبخه بكلمات نابية ، بل إن مما أذكر في هذا المجال أنه ضرب طالباً مرة ضرباً خفيفاً ، ولما ذهب إلى بيته أخذ يحاسب نفسه ، وشعر ـ رحمه الله تعالى ـ كأنه اقترف ذنباً ، فما كان منه إلا أن جاء إلى القسم الداخلي للطلاب، وسأل عن الطالب، وطلب منه العفو والسماح.
لقد غلب على الشيخ اهتمامه بالجانب الدعوي والتربوي رغم أنه المقرئ المتقن والفقيه الحاذق ، وبالإضافة إلى اهتمام الشيخ بالدعوة في مدينة حمص ، فقد كان يهتم بالدعوة في القرى اهتماماً كبيراً ، حيث إن الدعوة في القرى في تلك الأيام كانت ضعيفة جداً. ولقد كان الشيخ في هذا الجانب يواصل مشوار والده العالم الزاهد الورع الشيخ عبد الفتاح الدروبي الذي لم يكتف بالدعوة في قرى حمص ، فقد كان لقرى شمال لبنان (منطقة الضنية) ، نصيب من ذلك ، وله ولوالده رحمهما الله بصمات في الدعوة والتربية هناك.
وكثيراً ما كان الشيخ يأخذ طلابه معه إلى القرى يوماً في الأسبوع أو  الشهر على حسب البرنامج، وفي هذه الرحلات الدعوية كان الشيخ يدرب طلابه على آداب السفر ، وآداب الصحبة والخشونة في المعيشة ، حيث كانوا ينزلون في مسجد القرية التي يذهبون إليها كما كان يدربهم على أصول الدعوة والصبر على طريقها الطويل .
لقد أمضى الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ حياته تعلماً وتعليماً لأصول الدين ، وقراءة وإقراءً للقرآن الكريم ، صابراً على كلِّ ما اعترض طريقه من مشاق وآلام. كان يعيش آلام أمته ففي أحداث 1980التي حدثت في سوريا فقد الشيخ كثيراً من طلابه واثنين من أبنائه وأحد أصهاره فصبر واحتسب، وكان مثالاً للصبر والرضى ، رغم أن الشيخ لم يكن يحب المجابهة مع الحكام ، ولكنه كان يوجِّه طلابه إلى الحكمة والاعتدال بهدوء فلا يشتد مع مَن خالف رأيه، بل يأخذه بالحلم والروية ، ويلتمس له عذراً .
وأذكر يوم أن كتب الله علينا الهجرة من بلدنا وقدمنا السعودية، وقدم الشيخ بعدنا بقليل فالتقينا به على مأدبة عشاء ، وكانت الأحداث في سورية ما زالت جديدة ومستمرة ، فبعد أن صلينا العشاء ، جلسنا نتحدث فيما بيننا بأمور كثيرة بعيداً عن الواقع الأليم ، الذي هاجرنا من أجله. كلُّ هذا والشيخ مستغرق في صلاته، فلما انتهى التفت إلينا متحدثاً ناصحاً  مذكراً لنا بأن لا ننسى محنتنا وأن نجدد الصلة بالله تعالى، وذكر لنا قصة مفيدة ومعبرة ،  بهذا الخصوص وهذه القصة ذكرها ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى في سورة الأحقاف : [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ] {الأحقاف:24ـ25}  . وأنقل هذه القصة كما رواها ابن كثير في "تفسيره" :
لما أصاب قوم عاد القحط والجدب بعثوا وفداً يقال له (قيل ) فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، فلما مضى خرج إلى جبال مهرة ، فقال  (أي الوفد): اللهم إنك تعلم لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه ، فمرت سحابتان سوداوتان، فنودي منهما اختر ؟ فأومأ إلى سحابة سوداء، فنودي منها رماداً رنداً ( أي : كثيراَ دقيقاَ جداً ) لا تبق من عاد أحداً فما أرسل عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في الخاتم حتى هلكوا ، فصارت مثلاً ، وكانوا إذا أرسلوا وفداً قالوا له : (لا تكن كوافد عاد).
رحم الله شيخنا على هذه الموعظة التي مضى عليها ما يقارب من ثلاثين سنة ، وما زلت أذكرها ، وقد فتحت علينا الدنيا ، فنسي الكثير منا دعوته ، ونسي أحبته وعلماءه ، وأقول شهادة ألقى الله تعالى بها بأن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ لم تفتنه الدينا ولم تُغيِّر من حاله فإذا نظرت إلى وجهه تشعر أنه يحمل هموم المسلمين وآلامهم ويتابع أخبارهم ويتابع طلابه وأحبابه ، وينصحهم ويوجههم ، ففي يوم وفاته صلى الصبح إماماً بالمسجد وقنت بالمصلين ودعا لأهل غزة أن يفرج كربتهم ، نعم هكذا ينبغي أن يكون أهل العلم .
يعيشون مع الناس يحملون همومهم وآلامهم ، ويتفقدون أحوالهم لأن مسؤولية العالم كبيرة جداً .
ويكفي أن نفهم مهمة العالم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "العلماء ورثة الأنبياء" ومهما كتبت عن شيخنا فلن أوفِّي نزراً يسيراً من حقه ، وقد آثرت الحديث عن الجانب الدعوي والتربوي في حياة الشيخ لأترك المجال لطلابه ومحبيه ، أن يستوعبوا بقية الجوانب الأخرى .
اللهم اؤْجرنا في مصيبتنا بفقدنا للشيخ وعوضنا خيراً منها، وبارك في عقبه وتلامذته ، واجعلهم خير خلف لخير سلف ، وارحم الشيخ واجعله في عليين مع النبيين والشهداء والصالحين، واحشرنا يا ربي في زمرتهم ، إنك سميع مجيب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين