أم وكفن - قصة قصيرة

بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الذين قضوا شهداء لنحيا حياة الكرماء , إلى كل المجاهدات المرابطات الباسلات , إلى كل من قدموا الأرواح رخيصة في سبيل ( حي على الفلاح )


أم وكفن

بقلم: فارس سلمون


 هناك في وسط القرية الجميلة كان يقبع بيت صغير متهالك , أتعبه الفقر , وأثقلته الهموم , وصدعت جدرانه الأحزان , وأضعفت أركانه الوحدة  , ولكن ذلك كله لم يكن ليمنع الجمال من حوله , حيث الجدولُ ينساب رقراقاً كأنه الفضة , وأشجار الزيتون يفوح عبير أزاهيرها , وشجر التين يظلل المكان كما الغيمة في كبد السماء , كانت العصافير تحلق في جو الفضاء مزقزقة , والبلابل تتراقص على الأغصان مغردة , والورود ترصع البساط العشبي الأخضر كالياقوت في التاج .
 هناك حيث تفوح رائحة التنانير صباحَ مساءَ لتفوح معها رائحة الأمل والرجاء من بيت أم جهاد , رائحة الأمل في أن يكبر ولدها جهاد الذي ربته كأحسن ما تربي أم ولدها , ورائحة الرجاء في أن يغير وحيدها حياتها من البؤس والشقاء إلى الراحة والرخاء .
 أم جهاد تيكم المرأة التي طالت يد الغدر زوجها يوم حاصر اليهود الصهاينة قريتهم , فقتلوا من قتلوا , وأسروا من أسروا , وصوبوا بنادقهم الغاشمة إلى شباب القرية لتخرج الرصاصة مسرعة باحثة عن هدفها لتستقر في رأس زوجها نضال , فتعصف بحياته , وتقطف زهرة شبابه , وتقضي على مستقبل زوجه أم جهاد التي خلفها وراءه حاملاً بولدها جهاد .
 وتوالت الأيام كأنها السنون , وتعاقبت السنينُ كأنها القرون , وشب الفتى وشبت معه الحياة , وعادت بشبابه الروح إلى الأم البائسة المسكينة , وكبر معه الأمل في أن يثأر الولد لمقتل أبيه وذويه.
وأفضت الأم إلى الولد بسر مقتل أبيه , وأخذت تزيد جرعة الكراهية والحقد في نفس شبلها وقلبه على اليهود الأشرار ... وجعلت تترصد الفرصة لتنتقم لمقتل زوجها الشهيد نضال , ودقت ساعة الانتقام , وتسارعت عقاربها التي ما كان لتتحرك منذ عشرين سنة إلا على استحياء ..
 علمت الأم الحنون من بعض المجاهدين في القرية أن شرذمة من أبناء القردة والخنازير ستجتمع في إحدى صالات الأفراح , فتتبعت الخبر لتتعرف الزمان والمكان . وبدأت تهيئ نفسية ولدها وتمهد للحدث الجلل الذي كانت تخطط له وتنتظره منذ عشرين سنة .
 كانت تلكم الأم العظيمة تنظر إلى ولدها في كل لحظة وهو يثب أمامها كأنه الليث الضروس نظرةَ وداع , والألم يعتصر قلبها , والأمل يشد من عزمها . فاليوم هو يوم تنفيذ العملية , طلبت الأم من جهاد أن يغتسل ويلبس أحسن حلله وأجملها , وبعد قليل مثَلَ جهاد بين يدي أمه كما أمرت على أحسن ما يكون الشباب , أخرجت طيبها فطيبت وجهه وكفيه وركبتيه وقدميه كأنه الحنوط , وسرَّحت شعره بيدها , ثم شدت على خصره الحزام بيمينها , وجبذته بقوة إلى صدرها , شمته , ضمته , عانقته , ولكنها لم تظهر ضعفاً , ولم ترق دمعاً , ثم قالت له : انطلق بنيَّ على بركة الله فلا ألقاك إلا في الجنة . قبَّل جهاد يديها ورأسها , وطلب منها الدعاء , ومضى لا يلتفت وراءه خشية أن يرى عيني أمه فيضعف , وراح إلى هدفه لا يأبه بالموت الذي يتربص به ..
 مضت السويعات ـ والأم تنتظر الخبر ـ كأنها الأعوام في طولها , وفجأة دوَّى الانفجار , وذاعت الأخبار بأن جهاداً قد قتل خمسة من يهود وجرح منهم الكثير , وقلب الفرح إلى أحزان , ومضى إلى ربه شهيداً يزف إلى الجنان , وقتئذٍ انفرجت أساريرها , وانطلقت زغاريدها , ودعت ربها أن يتقبله في الشهداء ...  
صاغت الأشعارُ لحنًا فجرته الانتفاضه
لا تقل : مات الصغيرُ إنه سرُّ الولاده
شعبنا المغوار ماضٍ ليس تثنيه إراده
بوركتْ أمٌّ تقدمْ كلَّ طفلٍ للشهاده

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين