عائد من غزة - ــ
هذا مقال كتبه الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي منذ خمسين عاماً تقريباً في وصف زيارته لغزة ، فأحببنا نشره في ركن الماضي المجيد، لأنه وإن كان من الماضي القريب الأليم يذكرنا بمعاناة أهل غزة وصبرهم الطويل ، ومعاناتهم المستمرة والتي تتجدد هذه الأيام مع خذلان جيرانهم لهم واكتفائهم بكلمات الشجب على استحياء من أسيادهم .
عائد من غزة
بقلم: أحمد الشرباصي
دعاني المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، كي أكون عضواً ضمن وفد الأدباء الذي سافر إلى قطاع غزة في أوائل نوفمبر 1960 للوقوف على حالة اللاجئين العرب، بقصد القيام بدور إيجابي في تعبئة الشعور العالمي، وتقديم صورة حية لقضية اللاجئين من خلال الأدب والفن، كما تلقيت قرار مشيخة الأزهر لقيامي بهذا الواجب. وعلى الرغم من أنني زرت القطاع صيف سنة 1954 وكتبت عنه تقريراً نشرته بعنوان: رحلة غزة، لم يسعني التخلف عن هذا الواجب الذي يؤدي له الإنسان حقاً للعقيدة وحقاً للوطن.
وغزة بلد عربي إسلامي، له ذكريات تاريخية معطرة بالمجد والفخار، ففي غزة دفن هاشم جد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهاشم رئيس مكة على عهده، وهو المشرف يومئذ على الحرم، وهو الذي نظم لقومه رحلتي الشتاء والصيف، وهاشم هو الذي آوى اللاجئين وأعان المشردين وأطعم الجائعين، وقد سمي بهاشم لأنه كان يهشم الثريد لقومه أيام القحط والجدب، وفي غزة نزل عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج في التجارة إلى الشام، بل يرجح بعض المؤرخين أن النبي نفسه نزل بها في أثناء رحلته.
وغزة هي التي عاش فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردحاً من الزمن، يعمل ويتاجر، ويعلِّم العرب كيف يغلبون أعداءهم في الاقتصاد حتى لا يستعبدوهم اقتصادياً فسياسياً، فكان يقول لهم: لا يغلبنكم الروم في التجارة فإنها ثلث الإمارة، وكذلك مر عمر بغزة بعد فتح القدس سنة 638 م فتفيد جيش المسلمين فيها، كما زارها سنة 639م، باحثاً عن أنجع الوسائل لاتقاء خطر المجاعة التي كانت تتهددها.
وغزة هي البلد الذي ولد فيه الإمام الشافعي سنة مائة وخمسين، والشافعي هو الرجل الأبي الثائر على الذل والضيم، فكان يقول: لو علمت أن شرب الماء البارد يثلم مروءتي ما شربته، ويقول: الفتوة حُلي الأحرار، ويقول لرجل سأله أن ينصحه: إن الله تعالى خلقك حراً فكن حراً كما خلقك ربك.
والشافعي هو الذي صور حنينه الطاغي إلى غزة حين بَعُد عنها، فقال:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة         وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها    كحلت به من شدة الشوق أجفاني
وفي غزة دفنت آسيا بنت الشافعي وخادمه الشيخ عطية.
وغزة هي التي مرَّ عليها المسيح مع أمه الطاهرة البتول، واستراحا هناك تحت شجرة من أشجار الجميز، وغزة كانت محط الرحال في رحلة العرب إلى الشام في الصيف، وهي إحدى الرحلتين اللتين امتن الله بهما على قريش حيث قال: [[لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4) ]. {قريش}..
وغزة مدينة قديمة جداً، واسمها يفيد معنى الكنز والخزينة، وقيل: إنها سميت غزة، لشدة أهلها في الغزو والحروب.
وروى أنها أنشئت قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، ومن ألقابها التاريخية: غزة المقدسة، وغزة المستقلة، وغزة المضيئة، وغزة العظيمة، المدينة العظيمة، الخ.
وفي القرنين الثاني والثالث الميلادي كانت ممتازة في تعليم الفلسفة والبلاغة، وكان الفرس يستعيرون أساتذتهم من مدارسها، وخرّجت معاهدها كثيراً من الفلاسفة والعلماء، وفي القرنين الخامس والسادس كان فيها مدرسة كبيرة للخطابة تشبه سوق عكاظ ، ولغزة تقويم خاص يسمى: التقويم الغزي،وقد دخلها المسلمون في السنة الثالثة عشر، ومنذ ذلك الحين وهي عربية مسلمة.
وغزَّة بعد هذا هي الجزء الحر الباقي من فلسطين،وهي المفتاح بين آسيا وأفريقيا، وهي نقطة البدء وقاعدة الارتكاز في استخلاص المغصوب من أرض الوطن العربي، ولذلك كله لم يكن عجيباً ولا غريباً أن يعنى المسئولون بغزة، وأن يسعوا إليها دارسين ومحصنين.
ومما يطمئن القلب أننا وجدنا أن الروح المعنوية ما زالت قوية، وأن الإيمان بعودة فلسطين ما زال يعمر الأفئدة ويسيطر على العقول، وأن العزم على ذلك واضح ظاهر، يبدو في الكلام وفي الأمل، وفي الهتاف الذي يرددونه ويؤكدونه: إننا عائدون، إننا عائدون..
وقد شغلني هذا جداً وأرضاني، وذلك لأنني تحدثت في تقرير عن الرحلة الأولى لغزة كثيراً في موضوع الروح المعنوية، وتمنيت بقاءها متألقة متأججة، وقد قلت يومها: والحق أننا لمسنا في هذه الرحلة أن الأمل لا يزال قوياً في استعادة فلسطين، وأن الروح المعنوية، بين أبناء فلسطين لا تزال عالية مشرفة،على الرغم مما نالهم من الأذى والبلاء، فهذا مثلاً لاجئ فلسطين يتعاقد مع لاجئ آخر على أن يشتري أرضه الموجودة هناك فيما يسمى إسرائيل، تحت أيدي الصهيونيين... يتعاقد معه على شراء هذه الأرض  المغصوبة، لأنه يؤمن بأنه راجع إليها يوماً من الأيام، وأن هذا الرجوع لن يطول عليه المدى.
وهناك من يتحاكمون ويقترعون على من تكون له الأسبقية في شراء هذه القطعة من الأرض الموجودة في حمى يافا أو المجدل أو تل أبيب. وهذا لون من الثقة عجيب.
وهناك من يولد له بنتان، فلا يختار لهما اسمين من أسماء الرقة والحضارة، بل يسمي الأولى يافا، والأخرى المجدل، وإنما اختار الوالد اللاجئ المشرد هذه التسمية لابنتيه، ليرث الأبناء عن الآباء روح الذكرى القومية، وعاطفة الثأر المقدسة لهذا الوطن السليب المغصوب.
وفي المؤتمر الذي شهدناه في غزة في ضحى اليوم الثاني من نوفمبر 1960، بمناسبة ذكرى وعد بلفور المشئوم، خرجت غزة كلها عن بكرة أبيها، برجالها ونسائها، وفتيانها وفتياتها، وأطفالها الذكور والإناث، ووقفوا في ساحة الجندي المجهول ساعتين، تحت قطرات المطر وفي مهب الرياح، يستعيدون قضية فلسطين، ويؤكدون العزم على استردادها، ويتلمسون الوسيلة العملية لذلك الاسترداد، بقلق ملحوظ ولهفة زائدة، وهذا بشير خير، لأن الشعب المؤمن إذا أراد كانت إرادته من إرادة الله، ويسر الله له الأسباب من قريب لتحقيق ما يريد:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة     فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي        ولابد للقيد أن ينكسر
ولقد ذهبنا إلى الحدود الموهومة المصطنعة بين قطاع غزة والأرض المحتلة من فلسطين، وفي هذه الأرض شاهدنا بلدة المجدل، ودير سنيد، وغيرهما من قرى فلسطين المغتصبة على مدى البصر، ورأينا العصابة المحتلة تسرح وتمرح في أرض ليست لها، وليست منها، فقد أقبلت العصابة حثالات ذات أشكال وألوان من شتى بقاع الأرض، لتتخذ من أرض العروبة والإسلام وطناً لهم، بينما أصحاب هذه الأرض الشرعيون يهيمون في الآفاق على وجوههم بلا وطن ولا سكن:
أحرام على بلابله الدوح     حلال للطير من كل جنس
وكنا نريد الاقتراب لنشهد التراب المغصوب من قريب، ولنملأ أعيننا جيداً من ديارنا التي سلبوها بليل الخيانة والغدر، ولكن ضابط البوليس الدولي جاء ومعه جنوده، فأساء الخطاب وأمر بأن نرجع إلى الخلف خمسين متراً، وكان غير مهذَّب في لفظه وإشارته، حتى فكر بعضنا في الاصطدام به شفوياً، ولكن الباقين فضلوا أن يمرَّ الموقف بسلام، حتى لا يساء استغلاله،وتأخرنا ثم اعتلينا ربوة، وأخذنا نتطلَّع إلى الأرض المنهوبة في غيظ وألم، وكان معنا لاجئ فلسطيني كنيته أبو عزيز وهو الأستاذ السيد أبو شرخ، وكان من قبل رئيساً لبلدية المجدل يوم كانت المجدل بأيدي أهليها، ولكن إجرام اليهود أخرجه من وطنه ووظيفته وبيته وبيارته ـ حديقته ومزرعته ـ وبينما نحن نتطلع في صمت ورهبة، ونستعرض فصول المأساة: كيف بدأت؟ وكيف يمكن الخلاص منها؟ مد الرجل يداً معروقة ترتجف أصابعها، وأشار نحو المجدل وقال بصوت متهدج تخنقه العبرة: وقال: أترون ذلك البيت الأبيض الكبير ؟ إنه بيتي ! أترون هذه البيارة الممتدة المخضرة  إنها بيارتي!! ومادت الذكرى بالرجل فهاجت نفسه، وارتعش جسمه، وانفجر باكياً وهو يقول: هذه داري، إنها تدعوني... هذه بيارتي، إنها تبتسم لي وتدعوني... كيف يحال بيني وبين أملاكي ؟ كيف يخرجونني من وطني وداري ؟ وانفجرتُ مع الرجل في البكاء وشاركنا غيرنا، وكانت لحظة من لحظات الذكرى الأليمة الموجعة التي تعصر الفؤاد عصراً، وتهصر الكيان هصراً، وتزلزل الإنسان قسراً:
وقالوا: قد جننت فقلت: كلا     وربي ما جننت ولا انتشيت
ولكني ظلمت فكدت أبكي        من الظلم المبين وقد بكيت
فإنَّ الماء ماء أبي وجدي        وبئري ذو حفرت وذو طويت
وعاد الرجل يقول والدموع تبلل كلماته وتغذوها باللوعة والأسى: إنني أرتاد هذا المكان كلما استطعت لأرى داري ومزرعتي، ولأجدد العهد على أننا عائدون،وأنا أصحب ولدي معي في هذا الارتياد، لأقول له في كل مرة: هذه دار أبيك يا بني، وهي دارك. وهذه مزرعة والدي يا بني، وهي مزرعتك، فلا تنسهما يا ولدي، وأعد نفسك وعاهد ربك على استردادهما مع وطنك السليب فلسطين، بساعدك وسواعد أمثالك من شباب العروبة والإسلام...
وهل لي أن أتحدث عن اللاجئين هؤلاء الأشقَّاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وأسلمهم الكيد الاستعماري والبغي اليهودي والغدر الأشعبي للريح تعبث بهم، والجوع يطغي عليهم، والمرض يفتك فيهم، فهم يفجِّرون الحزن والأسى في أقسى القلوب وأغلظ الأكباد.
فلنذكر جيداً أن الاستعمار الخسيس، حينما صنع إسرائيل في قلب الوطن الكبير، قد أراد أن تكون شوكة خبيثة في جَنْب العرب والمسلمين، وأن تكون قاعدة له تنبعث منها أفاعيه حينما يستطيع، ولن يقر بجانب في هذا الوطن الكبير قرار ما دامت هذه الشوكة المسمومة هناك، فلنذكر فلسطين، ولنذكر أبناءها المشردين، ولنذكر أنفسنا نحن، فإننا سنظل في هم مقعد مقيم إذا لم تعد فلسطين، ولنملأ صدورنا بالإيمان واليقين، والله معنا ما دمنا مؤمنين واثقين:[ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:40} . وتحيا فلسطين عربية حرة، وإننا إليها لعائدون.....
مجلة (لواء الإسلام ) العدد العاشر من السنة الرابعة عشرة
(1380هـ =1960م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين