أمة تتآمر على شرف غزة - أمة تتآمر

أمة تتآمر على شرف غزة


سليمان أبو عيسى


المشهد من الداخل: دماءٌ طاهرة بريئة تسقي شوارع طالما ظمئ أهلُها من حصار جائر.. بيوتٌ مهدمة فوق سكان استسلموا للموت بعدما أوهنهم جوعُ الحصار، أرواحٌ تفيض إلى بارئها وهي تشكو إليه صمتَ القريب قبل جور العدو، صراخُ أطفالٍ ما بين ألم الجراح وفِقدان الأهل وخوف الموت، نحيب.. عويل.. أزيز طائرات، انفجارات مدوية، حرائق مشتعلة.. طفل يبحث عن أهله.. طفلة تبحث عن بيتها.. وثالث يبحث عن كسرة خبز..
هذه المشاهد المتلاحقة تخترق الحدودَ لتصطدم بالمشهد الخارجي، وهو الصمت العربي والعالمي المهين؛ فتكشف سوأته.. وكلما ازداد المشهدُ في الداخل اضطرابًا، والمحرقة اشتعالاً.. ازداد صمتُنا خزيًا ومهانةً وذلاً.. كالنعامة التي تدفن رأسَها في التراب عندما يشتد الخطب وتظن أنها بهذا الفعل في أمان.
إن ما تشهده غزة الآن من حرب شعواء وإبادة جماعية أمرٌ فاق كلَّ الحدود التي يتصورها العقلُ في عالم الإجرام؛ تقتل القوات الإسرائيلية العشرات في اليوم الواحد!! حرب إبادة لا تُميز، وكأن أصحاب الأخدود يطلون برأسهم من جديد، ربما الزمان والمكان يختلفان، لكن العناصر واحدة: فئة الطغاة، والفئة الضعيفة المقهورة، والأخدود أو المحرقة، النتيجة واحدة وإن اختلفت المسميات؛ قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 4-7].
وإسرائيل تلعب على وتر الصمت العالمي بأن تستدر عطف العالم؛ فتعلن للعالم عن محرقة أكبر كأنها تقول لهم: "تذكروا ما حدث لنا من محرقة على أيدي النازيين، وأنتم تهاونتم في حقنا، فدعونا نفعل ما نشاء".. تمامًا كالابن المتظاهر بالمرض لكي يستدر عطف والديه.
لن أخوض في الكلام عن أكذوبة المحرقة فليس مجالها الآن.. لكنها استُغِلَّت إعلاميًّا لإسكات العالم برغم أنه لا يحتاج إلى إسكات، فكل ما يفعله الطفل المدلل (إسرائيل) مقبول، ومسموح له باللعب بكل شيء، حتى أرواح الأبرياء..
لكن ما عذر العرب في سكوتهم؟! هل هو الحفاظ على مصالحهم؟! أم أن الأمر لم يعد يعنيهم في شيء؟!
وجدتني أنشد مع أمل دنقل:
"... فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ: "اخرسْ.."
فخرستُ.. وعميت.. وأْتَممتُ بالخصيان!
ظللتُ في عبيد (عبس) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها..
أردُّ نوقها..
أنام في حظائر النسيان".
بدأ الحصار الشامل لغزة ولم يقابل إلا بالصمت المطبق، فاستحال عدوانًا دمويًّا شاملاً، وحرب إبادة عمياء لا تميز.
أين ذهب الضميرُ الإنساني للهيئات والمؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان؟!! لماذا هذا الصمت إزاء هذه المجازر البشعة!! وما الأسبابُ الحقيقية وراء تلك المجازر؟ هل هو الخلاف السياسي بين حماس وفتح؟ أو هو الضغط على الفلسطينيين لإثبات أن حكومة حماس لم تأت إلا بالدمار؟ أو لأنها إسرائيل؛ الدولة الوحيدة التي عجزت الأمم المتحدة عن إجبارها على تطبيق القرارات الدولية؟
ولا يمكن تفسيرُ الصمت العربي والعالمي إزاء هذه الانتهاكات، فالسكوت على هذه الجرائم هو الجريمة الكبرى، ومن يخرجون عن صمتهم ويتكلمون –وليتهم ما تكلموا- يلقون باللوم على القتيل لأنه استفز القاتل؛ فيحاكمون أهل غزة وحماس؛ أهل غزة بحجة أن عليهم تحمل مسؤولية اختيارهم لحماس، وحماس لأنها –في زعمهم- سبب هذه الأزمة، وعليها أن تُقَدِّم التنازلات المطلوبة لتنعم وينعم الفلسطينيون معها بالعيش الآمن، ويرون أن الأمر ينتهي إذا اعترفت حماس بإسرائيل وتخلت عن مبدأ المقاومة وتنازلت عن وعن و.. و...
ذكرني هذا بالفصل التاريخي الذي كتبه الكاتب النمساوي "ستيفان زفايغ" بعنوان "أمة تتآمر على شرف امرأة"؛ روى فيه قصة الكونتيسة البولندية الحسناء (ماري فاليسكا) التي رآها نابليون في حفلة وهو في طريقه إلى غزو روسيا.
وكان كل نبلاء بولندا يحاولون انتزاع وعد من نابليون بأن يمنح بولندا استقلالها في حالة انتصاره... وعرفوا أن نابليون قد جن غراما بالكونتيسة الحسناء (ماري فاليسكا).. وأنه يريدها لكنها امتنعت عليه..
وتوالى الأمراء والنبلاء عليها لإقناعها بأن تسلم نفسها لنابليون وأن تضحي من أجل بولندا .. حتى رضيت بذلك وهي دامية العينين..
وقد أحبها نابليون بعد ذلك وأحبته، ومنحته ابنه الوحيد، وكانت آخر من ودعه على الشاطئ وهو ذاهب إلى منفاه في جزيرة القديسة هيلانة.
هذه القصة تذكرتها وأنا أرى العالم كله -بما فيه العرب- يتآمر على عفاف غزة!!.
ويتوافق هذا مع الإعلان عن تقديم مساعدات أمريكية كبيرة للسلطة الفلسطينية وكأنهم يقولون: كونوا معنا تنالوا أموالاً بلا حدود مثل هؤلاء، هي صفقة رخيصة لبيع دماء الشهداء، وما بقي من كرامة.
ويتحمل بعض المسؤولين الفلسطينيين مسؤولية مباشرة عن تلك الأحداث، فتصريحات عباس أن القاعدة موجودة في غزة هي دعوة صريحة لإسرائيل بالتدخل.. واستعانة باليهود ضد إخوانهم.. ظانين أن المكان سيخلو لهم آمنين..
أيها المساكين، هل لليهود عهد؟!
الاستعانة بالكافرين ضد المسلمين أمر يضرب بجذوره في التاريخ؛ فقد قام الناصر لدين الله بطلب العون من جنكيز خان يحرضه على الخروج إلى خوارزم شاه؛ من أجل أن تنكسر شوكتة ويشتغل عنه بنفسه، وظن الناصر لدين الله أن جنكيز خان لن يصل إليه لبعد المسافة بينهما ولحميم الصداقة ولم يكن يظن أن يصل الضعف به إلى أن يجعله يجفل أمام جنكيز خان كالحمامة تجفل من صقرها، وكانت هذه المقدمة سبيلاً إلى جنكيز خان ليجد طريقه إلى بلاد الإسلام والمسلمين.
والوزير ضرغام بن عامر، الذي استعان بالصليبيين ضد خصمه شاور بن مجير السعدي وزير العاضد الفاطمي؛ فما كان من نور الدين إلا أن وقف بجوار شاور لحقن الدم الإسلامي في مصر، وأدت الحملة واجبها على أحسن وجه بعد أن خاضت معركة قُتِل فيها ضرغام، وأعيد شاور إلى الوزارة، وبعدها عاد أسد الدين وابن أخيه صلاح الدين إلى دمشق.
ولا ننسى سقوط الأندلس والمأمون، وتحالفه مع فرناندو الثالث ملك قشتاله، حتى قدَّم المأمون عددًا من الحصون والبلاد الأندلسية ثمنًا للنصارى ليساندوه ضد أخيه حفاظًا على عرشه وكرسيه.
لماذا نظل مصرين على السلبية والانهزامية؟! لماذا نقف مكتوفي الأيدي ونتعلل بالضعف، ونلقي باللوم على الحكومات، أو ندافع عنها بأنها مغلوبة على أمرها مثلنا؟!
ينبغي أن نقف -ولو لمرة في حياتنا- وقفة جريئة، وقفة رجل واحد، نتغلب على الأقوال الانهزامية التي نجح الإعلام الغربي -أو الموالي للغرب- في غرسها في نفوسنا مثل: "ليس بأيدينا شيء" "ماذا عسى أن نفعل؟" "أنا مجرد فرد"...
فوالله بأيدينا الكثير: رسائل للمسؤولين للخروج عن صمتهم، الذهاب إلى أعضاء البرلمانات الممثلين لنا، مقاطعة من يساندون إسرائيل.
ربما يقول البعض: هل سنقاطع العالم كله؛ فكل العالم يساند إسرائيل؟! الرد ببساطة: لكي نقتل الثعبان يجب أن نذهب إلى رأسه لا ذيله.. علينا أن نقاطع من يساندون إسرائيل مساندة مباشرة، نحن نستطيع بكل بساطة أن نقاطع بضائع تلك الدول، على الحكومات عمل، وعلى رجال الأعمال عمل، وعلى الأفراد عمل، إن تخلى فريق عن عمله، فلا يجب أن يكون ذلك مسوغًا لتخلى باقي الأمة.
سيكون لهذا السلاح تأثير إذا أخلص كل فرد، وجعل نصب عينيه صور الشهداء والدماء الزكية التي تسيل الآن على أرض غزة، إذا علم كل فرد أنه بشرائه منتجًا أمريكيًّا يدعم القتلة دعمًا مباشرًا، إذا علم أن كل قرش يدفعه يستحيل رصاصةً تستقر في جسد رضيع من أبناء غزة، فتفيض روحه الطاهرة البريئة لتشكونا إلى الله..
كل ما نحتاجه وقفة صادقة بيننا وبين أنفسنا، هذه هي المقاومة التي بأيدينا، وهذا نوع من الجهاد، فهل نحن مستعدون لمشاركة إخواننا والدفاع عنهم وحقن دمائهم؟


المصدر : موقع الألوكة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين