مكانة الصوم في التربية الإسلامية - الصوم مدرسة تربوية
مكانة الصوم في التربية الإسلامية
 
التربية نظام اجتماعي ينبع من عقيدة الأمة ، وهي تطبيق عملي لهذه العقيدة ، وحتى يومنا هذا نجد التربية في كل أمة صدى لتصور هذه الأمة عن الكون والحياة ، والتربية الإسلامية تعبر عن التطبيق العملي للعقيدة الإسلامية وهي إعداد الأجيال الناشئة ليكونوا عباداً لله على ضوء الكتاب والسنة ، وأهم ما تمتاز به التربية الإسلامية أنها شاملة للإنسان كله فهي تربية جسدية ونفسية وعقلية وروحية ، تنمي الفرد والجماعة ، تعتني بالقلب والعقل والخلق دون التضحية بأي جانب على حساب الجوانب الأخرى (]) .
الصوم والتربية الإسلامية :
التربية الإسلامية تربية شاملة لجميع جوانب الإنسان ، الجسد والنفس والروح ، فما هو دور الصوم في كل من هذه الجوانب ؟
1 - الصوم والجسد : إن طاعة الله عزوجل وعبادته والدعوة إليه والجهاد في سبيله تحتاج إلى جهد وطاقة جسدية لذلك تهتم التربية الإسلامية بتربية الجسد وحفظه من الأمراض والعلل ووقايته من الوباء بالنظافة والامتناع عن كل ما يضره كالتدخين والخمر وما شابهها .
وفي الصوم فوائد جسدية عديدة هذه بعضها :-
أ - راحة الجهاز الهضمي ساعات كل يوم .
ب - من المؤكد علمياً أن القليل من الطعام خير من الكثير .
ج - في رمضان يحرق الجسم بعض مخزونه من الدهن ، وضرر الدهن في الجسد مؤكد وخاصة في الشرايين .
د - بعض المخزون في الجسد من المواد الضارة تُحرق في رمضان عندما يبدأ الجسم بحرق المخزون عنده نتيجة الجوع .
ويتوهم قليل من الناس أن الصوم يقلل استفادة الجسم من الغذاء، وهذا الوهم لا صحة له لأن الصوم عبارة عن تغيير عادات الطعام ومواعيدها خلال شهر رمضان المبارك أو أيام صوم النافلة وقد أجري بحث طبي على ثلاثة عشر متطوعاً من بينهم حامل في الشهر السادس وقورنت التجربة مع رجل متطوع عمره سبعة وعشرون عاما كان مفطراً ( أجريت التجربة في غير رمضان طبعاً ) وكانت النتائج كما يلي :-
- نقص وزن الصائمين نقص بسيط بمعدل سبعة أرطال (انجليزية) خلال الشهر .
- زاد وزن الحامل أربعة أرطال خلال الشهر .
- لم يتغير النبض ولم تتغير حرارة الجسم أو ضغط الدم .
- هبطت نسبة السكر في الدم ولم تتجاوز الحد الأدنى في الهبوط .
- لم تتغير وظيفة الكليتين وكانت كمية البول اليومي كالمعتاد (]) .
ولا يجادل في الفوائد الجسدية للصوم إلا أعمى عن الحق ويصر على عماه ، ويُجمع الأطباء على فوائد الصوم الجسدية للناس الأصحاء ، أما المرضى فلهم أحكامهم الخاصة وأبيح لهم الفطر كما هو معلوم .
2 - الصوم والنفس : نقصد بالنفس الغرائز والشهوات والانفعالات وما يسميه أصحاب السلوك أحوال القلب ، وهذه النفس محكومة بالإرادة ، والإرادة تمثل الوعي لدى الإنسان وتسوس النفس ، وكلما كانت الإرادة قوية انقادت لها النفس واستطاعت الإرادة أن تزكي النفس فيفلح الإنسان وإذا ضعفت الإرادة عن ضبط النفس تمردت الشهوات وسيطر الهوى على الإنسان فخاب وخسر ، والصوم أفضل وسائل تنمية الإرادة .
وضبط النفس لا غنى للبشرية عنه ، ولو أطلق كل إنسان لأهوائه العنان لعمّ الفساد والخراب في لحظات أو أيام معدودة ، والرمز العملي لضبط النفس هو الصوم ولذلك كان ركناً من أركان هذا الدين (]) .
ومن أهم الفوارق بين الإنسان والحيوان :الإرادة فالإنسان يأكل عندما يريد وبالقدر الذي يريد ومن الطعام الذي يريد ، أما الحيوان فيأكل كلما جاع ويأكل حتى يملأ بطنه ومن أي طعام لا تعافه نفسه وقلما تعاف نفسه شيئاً والدوافع والغرائز والشهوات أو ما نسميه النفس يشترك فيها الإنسان مع الحيوان ولذلك سماها بعض المفكرين المسلمين (( النفس الحيوانية )) فالطعام والشراب والجنس والقتال كلها من دوافع الحيوان أيضا ، لكن الحيوان فطره الله على أن يشبع هذه الدوافع في حدود غريزته فقط ، أما الإنسان فانه يستطيع - لو أراد - أن يهبط في دوافعه إلى مرتبة أدنى من الحيوان ، لذلك لابد له من صمام يحفظه ويجعله صالحاً لأداء الأمانة، هذا الصمام هو (( الضوابط )) التي فطر الله الإنسان - فقط - عليها ومن ثم كانت للإنسان إرادة (]) .
هذه الضوابط تنمي لدى الإنسان منذ الطفولة عندما تعود الأم طفلها على الرضاعة في أوقات محددة ثم عندما يتعلم القيم ويبدأ في ضبط دوافعه وفقا لما يريد ، ونكرر القول بأن الصوم أفضل وسيلة لتنمية هذه الضوابط ، وهذه الضوابط تزكي النفس فيفلح الإنسان { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } [ الشمس ، الآيات (7-10) ] .
3 - الصوم والروح : وأفضل ما يقدمه الصوم للتربية الإسلامية هو تربية الروح لدى الصائم والروح هي الجانب الأسمى من الإنسان فالإنسان جسد وروح ، قال تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه فقعوا له ساجدين } [ الحجر ، الآية (29) ] .
وفي الحديث الذي أخرجه الشيخان رحمهما الله تعالى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : (( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ....‎ الحديث ))([5]) .
 أما كيف نربي هذه الروح فالوسيلة الوحيدة لذلك هي دوام صلتها بالله عزوجل : ( وطريقة الإسلام في تربية الروح هي أن يعقد صلة دائمة بينها وبين الله عزوجل في كل لحظة وكل عمل وكل فكرة وكل شعور ) ([6]) .
والعبادة هي الوسيلة الفعّالة لتربية الروح ، العبادة بمعناها الواسع والعبادات المفروضة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج وكلها قد قُصد منها تربية الروح ([7]) . والصيام حين يتوجَّه به الإنسان إلى الله تملأ التقوى القلب ، وتنطلق الروح إلى آفاق عالية من النور المشرق الوضيء .
وفـي الصيام تربية للروح لا تعادلها وسيلة أخرى وله من المكانة ما سنرى : - قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، لعلكم تتقون } [ البقرة ، الآية (138) ] ، والتقوى مخافة الله عزوجل ومراقبته الدائمة أي دوام الصلة بالله عزوجل وهي أفضل سبل تربية الروح . ( فالغاية الكبيرة من الصوم هي التقوى التي تحرس القلوب والصوم طريق يوصل إلى التقوى ) ([8](( الصوم نصف الإيمان )).) ، وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
 وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( قال الله تعالى : كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به )) فجميع العبادات قد يراها الناس إلا الصوم لا يعلم حقيقته إلا الله عزوجل .
 وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الصوم نصف الصبر ))
وقال تعالى : { وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : الآية (10) ] ، ويكفي أن الصوم ترك لما ترغبه النفس وما تدفع إليه الدوافع التي فطر الإنسان عليها استجابة لأمر الله عزوجل : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... } وهذا تدريب على الطاعة وتنفيذ الأوامر خاصةً إذا علمنا أن الصوم فُرض في السنة الثانية للهجرة قبيل نزول الأمر بالقتال : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ... } [ البقرة : الآية (216) ] فالقتال يحتاج إلى إرادة وعزم ، والصوم تدريب لهذه الإرادة وتقوية للعزم ، فالصوم نصف الصبر ، والصبر شرط أساسي لحمل النفس على الجهاد في سبيل الله ، لذلك فإن الصوم مدرسة لإعداد المجاهدين ، وما أحوجنا اليوم لهذه المدرسة لأن أعداء الإسلام تمادوا في هتك الحرمات ولا عز للمسلمين إلا برفع ألوية الجهاد عالية في سبيل الله تدك قلاع الطواغيت وتذود عن العقيدة ودار الإسلام .
الخلاصة : الصوم هو الركن الرابع من أركان الإسلام ،وهو مدرسة للتربية الإسلامية يقوي الأجسام، ويهذب النفوس، ويصفي العقول ، وهو أفضل الوسائل لتنمية الروح .
والمسلمون اليوم بحاجة ماسة إلى صقل أرواحهم، وذلك بربطها بالله عزوجل، وجعلها على صلة دائمة به سبحانه وتعالى ، والصوم ينمي هذه الصلة والمراقبة الدائمة لله عزوجل .
والحمد لله رب العالمين
 
الدكتور : خالد أحمد الشنتوت
( باحث في التربية الإسلامية)
 


([1]) أحمد فؤاد الأهواني ، التربية في الاسلام ، دار المعارف ، ص 7 - 9 بتصرف .
([2]) سعيد حوى ، الإسلام ، بيروت ، ص 171 .
([3]) المرجع نفسه ، ص 165 .
([4]) محمد قطب ، دراسات في النفس الإنسانية ، الشروق ، ص 173 .
([5]) البخاري في باب ذكر الملائكة ، ومسلم في أول كتاب القدر .
([6]) محمد قطب ، منهج التربية الإسلامية ، ج 1 ، الشروق ، ص 42 .
([7]) محمد قطب ، في النفس والمجتمع ، الشروق ، ص 27 .
([8]) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، ط 10 ، الشروق ، ص 178 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين