الطريق إلى مكة - الطريق إلى البيت العتيق
الطريق إلى مكة
 
الخارج مفقود والعائد مولود
 
كان الحاج في الماضي عندما يخرج من بيته وبلده قاصداً بيت الله الحرام وبلده الأمين يمتطي الدواب التي يستأجرها، أو يشتريها ويمكث في رحلته تلك أياماً عديدة، بل وأشهراً، مع ما يكتنف السفر آنذاك من مخاطر وظروف، وسلوك ومخاوف، وأحوال وأهوال تكشف عن معادن الرجال، وتظهر فيها الحاجة الماسة إلى الضوابط والإرشادات الدينية والأخلاقية.
 
ولذلك فإن العلماء الأفاضل عنوا ببيان آداب السفر المطلوبة من المسافر عموماً، ومن الحاج على وجه الخصوص، من ساعة مغادرته إلى ساعة عودته..
 
وكان اهتمامهم في ذلك منصباً على ثلاثة أمور:
أولها: ما يتعلق بالمسافر نفسه أثناء السفر.
وثانيها: ما يتعلق بدواب السفر والمكاري - صاحبها - أي بوسائل السفر والقائمين عليها.
وثالثها: ما يتعلق بحقوق الرفقة بعضهم على البعض.
وإذا كنا في أيامنا هذه قد استبدلنا الدواب من الإبل والخيل والبغال ووسائل السفر القديمة بالسيارات والطائرات والقطارات والبواخر، وإذا كنا قد اختصرنا مدة السفر من أشهر وأسابيع إلى أيام بل وساعات، وإذا صار بإمكان الحاج أن ينفرد بنفسه ذهابا وعودة دون خوف عدو أو انقطاع، فإن ذلك لا يمنع من أن نطالب الحاج بآداب السفر بما يناسب حال الزمن هذا، فإن كثيراً من التشابه بين ما كان قبل وما هو كائن حالياً يجعل كثيراً من الأحكام والآداب لم يدخلها التغيير ولا طالها التبديل.
 
رخص السفر
 
أما ما يتعلق بالمسافر نفسه: فمفروض فيه شرعاً: أن يعرف رُخَصَ السفر وأحكامه المتعلقة به... وكلها محصورة في العبادات.
والرخص: أحكام شرعية مُخَفِّفَة لبعض التكاليف نظراً لأحوال السفر وظروفه التي تستدعي التخفيف والتيسير.
 
ونستطيع أن نلخص تلك الرخص بالقول: إنها في الطهارة رخصتان: مسح الخفين والتيمم، وفي صلاة الفريضة رخصتان: القصر والجمع، وفي صلاة التنفل رخصتان: أداؤه على الراحلة والسيارة، وأداؤهما ماشياً، وفي الصوم رخصة واحدة: وهي الفطر، فهذه سبع رخص تتعلق بالسفر أياً كان، في الحج وغيره.
 
و من الطبيعي أن المسافر للحج لا يحتاج إلى رخصة الإفطار في الصوم، لعدم اجتماع رمضان والحج في وقت واحد، وإذن فليس له مما مر إلا الرخص الست الباقية.
 
أ- أما المسح على الخفين: فقد قال صفوان بن عسال رضي الله عنه أمرنا رسول الله r : "إذا كنا مسافرين أن لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام ولياليهن" (1) فكل من لبس الخف على طهارة مبيحة للصلاة، ثم أحدث، فله أن يمسح على خُفه من وقت حدثه ثلاثة أيام ولياليهن إن كان مسافراً.
 
ب- وأما التيمم: فيكون بالتراب بدلاً عن الماء عند توفر العذر المبيح له، بأن يكون الماء بعيداً، أن أن يحال بينه وبينه بنحو عدو أو حيوان مفترس، وكذا إن كان لديه ماء، ولكنه يحتاجه لشربه أو لطعامه أو لرفاقه أو لسيارته أو لأي أمر ضروري من ضروراته.
 
وكيفية التيمم ضربتان: ضربة بكفيه يمسح وجهه، وضربة أخرى بكفيه يمسح المفروضة كل يد بالأخرى إلى مرفقيه.
 
ج- وأما قصر الصلاة: فللمسافر أن يقصر كل صلاة رباعية إلى ركعتين، والصلوات الرباعية هي الظهر والعصر والعشاء، وقد ثبت أن النبي r قصر الصلاة أياما عديدة في موضع واحد (1). كما صرح القرآن الكريم بجواز القصر في قوله سبحانه:
(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ)(2) وقد بقيت رخصة القصر قائمة حتى بعد زوال الخوف من فتنة الكفار.
 
د- وأما جمع الصلاة: فيجوز للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت أيهما شاء جمع تقديم أو تأخير، وبين المغرب والعشاء في وقت أيهما شاء، جمع تقديم أو تأخير، ولا يحتاج في الجمع إلى أذان لكل صلاة، بل يكفي أذان واحد للصلاتين،   ولكن يقيم لكل منهما.
 
هـ- وأما صلاة النافلة على الراحلة وما يشبهها: فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام:
ومن النافلة التي يصليها على راحلته الوتر، فقد فعل ذلك النبي r (2).
ومن الطبيعي أن تقاس صلاة النافلة في السيارة على صلاة النافلة على الراحلة فكل منهما جائز ومشروع.
 
و- وأما تنفل المسافر الماشي: فذلك فيما لو كان السفر على الأقدام، فيجوز حينئذ للماشي أن يصلي نوافله وهو يتابع سيره، ولا يضره الالتفات عن جهة القبلة، إلا أنه يشترط التوجه إليها ساعة إحرامه بالصلاة فقط.
 
وبخصوص تلك الرخص جميعاً فلا يفوتنا أن نذكر كل حاج ومسافر بقول رسول الله r :
-    (3). (1).
 
ومما يتعلق بالمسافر وهو في الطريق إلى مكة ضرورة تعلم كيفية الاستدلال على القبلة، وقد سهل الأمر أيامنا هذه باصطحاب (البوصلة) (4) الخاصة بذلك، والتي تحدد اتجاه الكعبة للمسلم أينما كان.
 
الأخلاق زاد طيب
 
ومما يتعلق بالمسافر وهو في طريقه إلى مكة ضرورة تحليه بالأخلاق الحميدة، والصبر وطول البال، وتحمل الأذى والمضايقات، سواء في الرفقة أو غيرهم، وتعويد النفس على خدمة الإخوان، والإخشيشان في العيش.
 
وعليه أن يتذكر أن الحج مدرسة أخلاقية، وعبادة عملية، وهو في حله وترحاله، وركوبه ونزوله، يزداد خيراً في حسناته، وقرباً من ربه، وإصلاحاً وتهذيباً لنفسه، فعليه أن ينشغل عن كل المعوقات والملهيات والمزعجات بالذكر والاستغفار، والتفكر فيما هو قادم عليه من مشاهد النور ومناسك الحج.
 
يقول الغزالي رحمه الله: (ويلازم في الطريق الذكر وقراءة القرآن بحيث لا يسمع غيره، وإذا كلمه إنسان فليترك الذكر، وليجبه ما دام يحدثه، ثم ليرجع إلى ما كان عليه، فإن تبرمت نفسه بالسفر أو بالإقامة فليخالفها، فالبركة في مخالفة النفس).
 
وقد ذكر من أدعية المسافر أثناء سفره أن يقول إذا علا نشزاً من الأرض: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، اللهم لك الشرف على كل الشرف، ولك الحمد على كل حال.
 
وإذا هبط وادياً سبّح بمثل قوله:
-    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله.
وإذا خاف الوحشة والقلق قال:
- سبحان الله الملك القدوس رب الملائكة والروح، جلّلتَ السموات بالعزة والجبروت.
 
واسطة النقل... وحقوق الطريق
 
هذا، وأما ما يتعلق بواسطة السفر وحقوق الطريق، فقد علمنا رسول الله r وسلفنا الصالح الرفق بالحيوان المركوب، وملاحظة أحواله والإحسان إليه، ومراعاة حاجاته، فعلينا كذلك - ونحن نستخدم السيارات والطائرات ووسائل النقل الأخرى -أن نكون في غاية الرفق والرقة فهي وإن لم تكن ذات روح بل جمادات صماء وآلات حديدية مسخّرة، فإن استمتاعنا بها ينبغي أن يكون أحسن ما يكون الاستمتاع، ومن الضروري الاحتراز عما تفاجئنا به من أعطال ومخاطر فيما لو لم نكن من أهل الرفق في كل شيء...
 
إنه من غير اللائق بالحاج أن يجعل سيارته مثلاً وسيلة للسباق في طريق الحج المزدحم بالناس، أو أن يخرج بها للحج دون صيانة كاملة واستعداد تام.
 
لقد علمنا رسول الله r حقوق الطريق بقوله:
وروى سهل بن سعد عن أبيه قال: غزوت مع رسول الله r فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق، فبعث رسول الله r منادياً ينادي في الناس:
-     فلا جهاد له"
 
من حقوق الرفقة
 
وأما ما يتعلق بحقوق الرفقة بعضهم على بعض فما أكثر ما يحتاج الحاج إلى الشعور بالأخوة والمحبة أثناء سفره إلى الحج وهو في الطريق، فكم يلاقي من منقطع يحتاج إلى مساعدة، أو فقير يحتاج إلى معونة؟
 
وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر إذا رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فقال رسول الله r :
 ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، وذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"
وقد كان عليه الصلاة والسلام يتخلف في المسير فيزجي الضعيف (يسوقه) ويردف ويدعو لهم (2).
 
تلك هي بعض آداب السفر والمسافر، وحقوق الحجاج بعضهم على بعض في الطريق.
 
اللهم وفقنا لمرضاتك، وزدنا من خيراتك، وأنلنا أرفع درجات جناتك.
 


(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي وابن خزيمة وابن حبان.
(1) أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين في قصة الفتح.
(2) [النساء: 101]
(1) متفق عليه من حديث ابن عمر.
(2) رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر.
(3) رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر.
(4) آلة يتوجه المؤشر فيها إلى الشمال والجنوب اعتماداً على المغناطيس ومن ثم تعرف فوارق البلدان عن الشمال بالدرجات، ومنها الفارق بين مكة المكرمة والشمال.
(1) رواه الطبراني عن خالد بن معدان عن أبيه.
(2) رواه أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس.
(1) رواه مسلم وأبو داود وأحمد.
(2) رواه أبو داود والحاكم عن جابر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين