خواطر وذكريات عند مهوى الأفئدة - من نفحات الحرم
خواطر وذكريات

عند مهوى الأفئدة
د. محمد ياسر المسدي

قال الله تعالى متحدثاً عن " نبي الله إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام" عندما أودع زوجته "هاجر" وابنه "اسماعيل" عند دوحة فوق زمزم في  "مكة المكرمة"، وليس فيها يومئذ انس، ولا ماء... { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيت المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون }.(إبراهيم : آية 37)  
ما تزال هذه الدعوة المباركة التي دعاها سيدنا إبراهيم عليه السلام عند "البيت الحرام" تتحقق ويتردد صداها اليوم          والغد إلى ما شاء الله.. { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق }.(الحج) 
وما تزال الآلاف المؤلفة تتقاطر من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة هذا النبي الكريم منذ آلاف السنين والتي جددها الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}. 
أخي المؤمن – الطائف – بهذا البيت تمهل معي قليلاً لنعيش مع بعض الذكريات التي ترف حول هذا البيت : 
تذكر نبي الله "إبراهيم الخليل عليه السلام" وهو يُودِع في هذا المكان الخالي من البشر، ومن الماء، ومن أبسط أسباب   الحياة، زوجته هاجر، وفلذة كبده الرضيع إسماعيل عليه السلام، ثم يتوجه إلى الله تعالى بقلب المؤمن الواثق بأن          يحفظ الله له وديعته، وبأن يُحوَّل هذا المكان القفر إلى مكان تقام فيه الصلاة، وتهوى إليه الأفئدة، وتُصبُّ فيه الخيرات والثمرات من كل  مكان : {  ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم    يشكرون  }.(إبراهيم : آية 37)
تذكر تلك المؤمنة الصابرة السيدة هاجر رضي الله عنها، وهي تلحق زوجها بعد أن تركها ورضيعها في هذا المكان قائلة    له مراراً : أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيْ ؟! وهو لا يلتفت إليها، خوفاً من أن تغلبه العاطفة    إلى أن قالت له : آلله أمرك بهذا ؟  فأجابها مشيراً برأسه : نعم. فأجابته بكلمة تنبض بالإيمان والرضا والتسليم بقضاء الله وقدره ( لا يُضَيعّنا ).  
ثم تذكرها ثانية عندما نفد الماء الذي كان بحوزتها، وهي تنظر إلى رضيعها يتلوى من العطش، فتذهب إلى الصفا        أقرب جبل إليها، لتستروح الماء لنفسها ولرضيعها في تلك الحرَّة الملتهبة ثم تنزل إلى الوادي ثم تصعد إلى المروة، تفعل ذلك سبع مرات، ثم ترجع بعد ذلك، وقد أنهكها الجهد، وأضناها الإشفاق على طفلها لتجد زمزم الرحمة، والبركة، يتدفق بين يدي الرضيعُ الوضيء، فتغرف منه وتشرب وترضع ولدها، وهي تسمع نداء الملك لا تخافي الضيعة، إن الله لا يضيَّع أهله.
ثم انتقل معي – يا أخي – لنرى هذا الرضيع شاباً يافعاً، يقف بجانب أبيه عند أكمة مرتفعة في أم القرى ليرفعا قواعد البيت بإنابة وخشوع قائلين : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم }.
ثم تابع معي طيف هذه الذكريات التي تضفي على قلب المؤمن إيماناً مع إيمانه، ورضىً وتسليماً لقضاء الله وقدره، أُسوة بخليل الرحمن وهو يرى الرؤيا التي يؤمر فيها بذبح فلذة كبده بعد أن طعن في السن، وصار ابنه شاباً قادراً على أن يسعى في مصالحه فيقول له :
{ يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ...} ويبادر الغلام الحليم سِرُّ أبيه الخليل بقوله :  { يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين }.
 
ثم تذكر كيف تجلت – رحمة الله سبحانه وتعالى عليهما – بعد أن استسلما لأمره - وباشرا التنفيذ – بإرسال جبريل       عليه السلام بالفداء العظيم.. { وناديناه أن يا إبراهيم أن صدَّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم }.(الصافات : 104 – 107)
ثم انتقل معي – أخي الحاج – إلى طيف ذلك النبي الكريم الذي هو من ذرية إسماعيل عليهما السلام سيد الخلق " محمد صلى الله عليه وسلم"، وهو يدرج في طفولته حول البيت.
ثم تذكره وهو شاب يافع يرفع الحجر الأسود بيديه الشريفتين فيضعه في موضعه، ليطفيء الفتنة التي كادت تنشب بين  القبائل.
ثم تذكره وقد أوحى الله إليه، كيف ردَّ عليه قومه دعوته، وكيف آذوه ووضعوا على ظهره سلا جزور وهو يصلي         عند الكعبة حتى أقبلت ابنته "فاطمة الزهراء رضي الله عنها" فطرحته عن ظهره.
ثم تذكره عندما اضطر للخروج من هذه البلدة الطاهرة " مكة المكرمة" التي نشأ وترعرع فيها فيخاطبها                     بقوله : { والله إنك لأحبُّ بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت }. 
تذكر هذا النبي الكريم "صلى الله عليه وسلم" يوم عاد إلى مكة لأداء عمرة القضاء، ومعه أصحابه يلتفون حوله، وجعل  يطوف بالبيت وهو على راحلته مضطبعاً بردائه كاشفاً عن عضده الأيمن وأصحابه يفعلون مثل فعله                      وهو يقول لهم : { رحم الله امرءاً أراهم من نفسه قوة }.
ثم تذكره يوم عاد إليها فاتحاً منتصراً فجعل يطوف بالبيت، ويطعن الأصنام بقوسه فتهوى على الأرض وهو يتلو           قول الله تعالى : { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا }،  { جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد }.     ثم أمر بالأصنام فأُخرجت من البيت وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل في أيدهما الأزلام وقال :  قاتلهم الله لقد علموا           ما استقسموا بالأزلام قط.
ثم بعد ذلك تذكره وهو يختم هذا العناء الذي لقيه من قومه، وهذه السنين العجاف بالعفو والصفح قائلاً لكل من نال منه       وآذاه : { لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء } ليعطي بذلك درساً للأمة كلها، كيف يكون العفو والصفح            عند المقدرة.
أخي الحاج :
بعد هذا الطواف السريع مع بعض  "الخواطر والذكريات عند مهوى الأفئدة" لا تنس أن تقف أمام الكعبة مبتهلاً     إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء أن يعيد للمسلمين عزتهم وكرامتهم، ويعيد لهم خيريتهم التي كتبها لهم  {  كنتم خير أمة أخرجت للناس }  وأن يكرمهم باليوم الذي يزهق فيه الباطل ويدحر فيه أعداء الله من اليهود المعتدين وأعوانهم من    الحاقدين والمتآمرين على هذا الدين الحنيف.
إنه أكرم مسئول ونعم المجيب،،
التاريخ :  24/11/1429هـ
الموافق :  22/11/2008م
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين