الثورة السورية ومستقبل البشرية-8-

 

جهاد الفكر

إن الإسلام يختلف عن أي ديانة  يهودية أو نصرانية فهو من عند الله سبحانه ليس فيه أي تغيير أو تحريف أو تبديل ، كما انه يختلف جذريا عن أي مذهب وضعي كالعلمانية والشيوعية والوجودية ، " فالإسلام يكل رسم (التصميم) الأساسي للحياة البشرية ، إلى العلم الكامل الشامل ، المبرأ من الجهل والقصور والهوى كذلك يكله إلى علم الله  - سبحانه - بما أن الله هو الذي أبدع الكون وما فيه؛ وأبدع قوانينه وطاقاته؛ وأبدع الإنسان وزوده باستعداداته للعمل في مادة هذا الكون العريض .. وهو الذي يعلم  - وحده - كل حقائق الكينونة البشرية وكل حقائق الطبيعة الكونية .. فهو- وحده - القادر على أن يصنع للإنسان نظام حياة؛ شاملاً لحياته الفردية والجماعية؛ ولحياته في الكون المحيط به .. عن (علم مطلق) يقابل (جهلنا المطبق) .. وفي الوقت ذاته لا يلغي العقل البشري - كما أرادت الكنيسة ذات يوم- هذه الأداة العظيمة، التي وهبها الله للإنسان ليعمل بها ويبدع ، لا ليغلها أو يلغيها! وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى ومن التهور، ومن الخبط في التيه، ومن النكسة والانحدار. ويضع لها المنهج الذي يقوّمها منها فلا تميل؛ ويهديها فلا تضل؛ ويكفل لها حريتها واستقامتها على السواء.

وبهذا يظل (الإنسان) هو سيد (المادة) بضمانة من المنهج الذي أبدعه له مبدع الإنسان والمادة. وبالتصور الذي يشعره بكرامته على الله؛ كما يشعره بعبوديته لله. وفي الوقت ذاته يشعره بأنه مستخلف في هذا الملك العريض ..([1])

بينما خرج الغرب من ظلام العقيدة المنحرفة القائلة بأن الله ثالث ثالثة ، وعبث الكنيسة بدين الله وتقديمه للناس بصورة منفرة ، ومن سطوة رجال الدين الحكومة الثيوقراطية إلى الجاهلية الإغريقية الرومانية ، مندفعا في نبذ كل ما يتعلق بالدين فكانت العلمانية .

إن " المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة، والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية : أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً لنفس القانون المادي الصارم وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان ، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي ، ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي ، ولذا فإن ثمة نموذجاً واحداً للتطور ، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه دائماً نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان / الطبيعة)([2])

ولكن هذه العقيدة الفاسدة المنحرفة ليست موجودة في الإسلام ، ولا يوجد في الإسلام رجال دين يحكمون حكومة ثيوقراطية .. ولا يهمل الإسلام عمارة الحياة الدنيا ، ولا يحقر الإنسان بدعوى تمجيد الله ، ولا يحارب العلم ، ولا يحجر على العقل .

ولهذا فإن الغرب ـ الذي يتبعه كثير من المفكرين والمثقفين والمستغربين بغير علم ولا هدى ـ يعلم جيدا نقطة القوة لدى الشعوب الإسلامية  ، هي في العودة إلى الإسلام ، وفي فهم حقيقة الإسلام ، ?  الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ  ?  (البقرة: 146) ومن أجل ذلك فهم يحاربونه بضراوة شديدة ، ويحاربون كل مصادر الوعي والنهضة والبناء ، وذلك عن طريق الغزو الفكري .

ونظرة إلى البلاد غير الإسلامية التي احتلها الاحتلال (الاستعمار) الأوربي  نجد انه لم يتعرض لفكر أهلها وعقيدتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، فلم يكن هناك غزوا فكريا وإنما استغلالا اقتصاديا فقط ، فلم يطلب من أهل البلاد المحتلة التنازل أو تهميش الهندوسية أو البوذية ، كما أنه لم يمس تلك العقائد بأي بسوء ، ولم يتوجه إلى المعابد لإغلاقها أو تغيير فكرها .

على عكس البلاد الإسلامية فكان الاحتلال أول ما يتعرض له هو عقيدة البلد وعاداتهم وفكرهم ونظرتهم للحياة ، ويغزوها فكريا ، فيتم تنحية الشريعة ، ويغلق المعاهد الدينية ، أو يغير برامجها ومقرراتها ، ويطلب من أهلها التخلي عن عادتهم وتقاليدهم .

إن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى فهم الإسلام من جديد بعيدا عن الفلسفة الغربية ، وبعيدا عن أي مؤثرات بيئية  فالإسلام دين " رباني ، صادر من الله ، وظيفة الكينونة الإنسانية فيه هي التلقي والاستجابة والتكيف والتطبيق في واقع الحياة . وبما أنه ليس نتاج فكر بشرى ، ولا بيئة معينة ، ولا فترة من الزمن خاصة ، ولا عوامل أرضية على وجه العموم .. إنما هو ذلك الهدى الموهوب للإنسان هبة لدنية خالصة من خالق الإنسان ، رحمة بالإنسان " ([3])

وبحاجة ماسة إلى الاعتزاز بربها ونبيها محمد e ودينها ?  وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَْ  ?  (المنافقون : 8)

وبحاجة ماسة إلى شرح عالمية الإسلام وحضارته وتاريخه المشرق لا المزيف للمسلمين قبل غيرهم  " إن الرد الحقيقي على الطاغوت الحالي الذي يسمى العولمة، هو إبراز النموذج الصحيح الذي يجب أن يكون عليه الإنسان، لكي يصدق الناس – في عالم الواقع- أنه يمكن أن يتقدم الإنسان علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وحربياً وسياسياً وهو محافظ على إنسانيته، محافظ على نظافته، مترفع عن الدنايا، متطهر من الرجس، قائم بالقسط، معتدل الميزان" ([4])

وبحاجة ماسة إلى " التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته وتوضيح أن كثيراً من القوانين العلمية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي في واقع الأمر نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة، فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق، فإنه يجب أن يستعيد نسبيته ، وإذا كان يشغل المركز فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصراً واحداً ضمن عناصر أخرى تكِّون عالم الإنسان"([5])

ولا مانع من التعرف على الثقافة العالمية ، ومعرفة ايجابياتها وسلبياتها ، وأن نثري ثقافتنا العربية والإسلامية بما ينفعنا ولا يضرنا ، فالحكمة ضالة المؤمن ، ولكن دون تنازل  أو تهميش أو تقزيم لثقافتنا .

جهاد التخطيط :  

إن الثورة السورية أضخم بكثير مما يتصوره كثير من الناس ، والجهد المطلوب لها أضخم بكثير مما يتصوره كثير من الناس ، فما يجري ليس مجرد القضاء على الوحش ، أو استبداله بوحش آخر ، وإنما إعادة بناء سورية من جديد في كافة الجوانب العقائدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية ليكون لدينا الإنسان الصالح ، الذي ينشر الخير والنور والهداية لكل إنسان في أي مكان داخل سوريا أو خارج سوريا ، ويدافع عنه ليكون حرا كريما ..

إن سوريا والأمة الإسلامية بحاجة إلى التخطيط واستشراف المستقبل ولا نترك هذا الأمر لأعدائنا يخططون ويرسمون حياتنا ، فأين المخطط وأين المعد وأين المربي لهذا  البناء على أسس ثابتة ومقومات قوية وأعمدة راسخة وفق المنهج الرباني الذي كرم الإنسان ؟

إن التخطيط يحافظ على الثورة من الانحراف أو الانجرار في معارك جانبية أو جدال فلسفي لا طائل منه ، حتى تصل إلى غايتها وتحقق أهدافها على مستوى الفرد وعلى مستوى الدولة ..

والتخطيط يختلف حسب طبيعة المخطط له ، فتخطيط المعركة يختلف عن تخطيط السياسة ، وتخطيط الاقتصاد يختلف عن تخطيط الإعلام ،  فلكل تخطيط له أولوية وأسسه ، ولكن لا بد من توفر قيادة واعية ، وتنظيم فعال ، وتنفيذ صحيح  .. ولا بد من وضوح الغاية والهدف ،  فمن صحت بدايته صحت نهايته .

فهذا البناء ليس سهلا أو رحلة استجمام وإنما يحتاج إلى جهد كبير ، وصبر جميل ، ونفس طويل ، وتربية شاملة وترتيب لبناء الدولة من جديد بناء قويا شامخا ، لا تذل نفسها لأحد ، فلا تنازل عن أي مكون من مكونات الانسان المسلم ، " قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، القادر على الكسب والعمل، سليم العقيدة، صحيح العبادة، القادر على مجاهدة النفس، الحريص على الوقت، المنظم في شئونه، النافع لغيره ولمجتمعه ولوطنه " ([6])

ولا تنازل عن مقومات سيادة الدولة ، في أي مجال اقتصادي او سياسي او اعلامي او تنموي فالشعب الذي صبر على الألم والجوع والتشريد والقتل والهدم والتدمير ، والذي تحمل ضربات الصواريخ ، وقنابل الطائرات لقرابة الثلاث سنوات ، قادر بإذن الله تعالى على الصبر لخمس سنوات على الألم وشظف العيش لبناء دولته دون أن يفرط في شبر من سيادة أرضه ، واقتصاد بلده ، فالثورة هي الأعلى سندا وقيمة وهي الأعلى خلقا ورأيا وواقعا .. والشعب السوري لديه الإمكانيات المحلية على صياغة رؤية مشرقة لمستقبل البلاد السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي  .

 

 

 


[1] ) المستقبل لهذا الدين دار الشروق سيد قطب ص 69

[2] ) العالم من منظور غربي، د. عبد الوهاب المسيري ، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 127

[3] ) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته سيد قطب ص 71.

[4] ) المسلمون والعولمة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1421هـ، 2000م، ص: 49.

[5] ) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253-254.

[6] ) رسالة التعاليم ركن العمل حسن البنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين