أسباب سقوط الأندلس

الأندلس قطعة من غربي أوروبا ، فتحتها طارق بن زياد ، وموسى بن نصير ، و اشتهرت فيها مدن : كقرطبة ، وأشبيلة ، و طليطلة ، وغرناطة. وآل أمرها إلى ولاة يتبعون العباسيين إلى أن أتى عبد الرحمن الأموي الذي عرف بعبد الرحمن الداخلي ، و سماه أبو جعفر المنصور (صقر قريش).

وأول ما سقط في أيدي الأسبان من بلاد الأندلس : طليطلة ، وهي من وسط الأندلس كما قال بعض أدبائها:

الثوب ينسل من أطرافه وأرى=ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط

وهي السبب في استدعاء ملوك الطوائف ليوسف بن تاشفين سلطان مراكش ، فكانت واقعة الزلاقة التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم ، وما زالت الحرب قائمة بين الفريقين ، وبلاد الأندلس تسقط واحدة إثر أخرى إلى أن استولى الأسبان على غرناطة وملحقاتها وصارت ولاية أسبانية ، وهي آخر بلاد الأندلس خضوعاً للعدو.

ومن أسباب سقوط الأندلس تفرق أمرائها وعدم اتحادهم ، فتسمى كل من ملك منها شيئاً ملكاً كما قال ابن رشيق:

مما يزهدني في أرض أندلس=ألقاب معتضد فيها ومعتمد

ألقاب سلطنة في غير موضعها=كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وجاء أبو الوليد الباجي من الشرق فوجدهم متفرقين وهو يعلم عاقبة التفرق ، فأخذ يطوف عليهم ويدعوهم إلى الوفاق والاتحاد ، وهم يجاملونه في الظاهر ، ويستبردونه ويستثقلون نزعته.

ومن أسباب سقوطها أيضاً جبن كثير منهم بعد أن كان جيشها يستخف بالموت في سبيل الدعوة إلى الله ورفع راية الإسلام. قال الحافظ أبو بكر بن العربي في الأحكام عند قوله تعالى :[انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {التوبة:41} . وكان قد خرج في جيش واجه العدو حين هجم على بعض المدن وانتصر العدو: (ولقد نزل العدو سنة سبع وعشرين وخمسمائة ، فجاس ديارنا ، واسر جيرتنا ، وتوسط بلادنا ، فقلت للوالي والمولى عليه : هذا عدو الله قد دخل في الشرك والشبكة ، فلتكن عندكم بركة ، ولتكن منكم في نصرة الدين المتعينة عليكم حركة ، وليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار ، فيحاط به ، فإنه هالك لا محالة ، فغلبت الذنوب ، ورجفت بالمعاصي القلوب ، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره ، وإن رأى المكيدة بجاره ، فإنا لله وإنا  إليه راجعون).

ومن أسباب سقوط الأندلس أن العدو أغرى أهلها بالمال ، فساعدوه على الاستيلاء عليها ، وأذكر بهذه المناسبة أن من الأمثال التي عربها العرب من لسان الفرس أن الأشجار رأت فأساً ملقاة في الأرض ففزعت منها ، فقالت لهن شجرة : لا تجزعوا منها فإنها لا تستطيع أن تكسرنا إلا إذا دخل فيها عود منا ، وكذلك المستعمر لا يغلب المؤمنين إلا إذا عاونه طائفة من المسلمين.

ومن نظر في تاريخ الأندلس وجد كثيراً منهم ينفقون الأموال الطائلة في البناء الضخم وزخرفته ، وقد أدرك هذا منذر ابن سعيد البلوطي فكان يعظ عبد الرحمن الناصر بخطبه وقصائده حتى اعتنى بزخرفة البناء ، فدخل عليها منذر وقد بنى مدينة الزهراء فقال له :

يا باني الزهراء مستغرقاً=أوقاته فيها أما تمهل!

لله ما أحسنها منظراً=لو لم تكن زهرتها تذبل

فقال له الناصر : إن سقيت بماء الدموع ، وهب عليها نسيم الخشوع ، لا تذبل إن شاء الله ، فقال المنذر : اللهم اشهد فقد بلغت.

وروي في تاريخها أن المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة بنى قصراً وأنفق أموالاً طائلة فسمع منشداً يقول :

أتبني بناء الخالدين وإنما=بقاؤك فيها قد علمت قليل!!

ومن نظر في تاريخ الأندلس ، وجد كثيراً منهم يتغالون في شرب الخمور ومجالس اللهو ، ويدل على أن كثيراً منهم وقعوا في المدنية الزائفة ، أن أهل بلنسية حين هاجمهم العدو ، خرجوا إليه في حلل من الحرير والزينة فقال شاعرهم:

لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم=حلل الحرير عليكم ألوانا

ما كان أقبحهم وأحسنكم بها=لو لم يكن في بترنة ما كانا

يشير الشاعر إلى واقعة بترنة التي انهزم فيها أهل بلنسية ، ولما استولى العدو على غرناطة ، خير المسلمين بالأندلس بين الدخول في النصرانية أو الخروج من أرض الأندلس أو القتل ، فمنهم من غلب عليه حب ممتلكاته من المزارع والمباني ، فاختار الإقامة ، ومنهم من عز عليه دينه فهاجر إلى أفريقيا : كفاس ، وتلمسان و تونس.

وقد أخرجت الأندلس علماء أجلة في الشريعة : كابن عبد البر ، وأبي الوليد الباجي ، و منذر بن سعيد ، وابي بكر بن العربي ، والفقيه ابن رشد ، وحفيده القاضي الفيلسوف صاحب بداية المجتهد ، وكابي محمد بن حزم ، وأبي إسحاق الشاطبي ، ونحاة متضلعين : كابن عصفور ، والشلوبين ، وابن خروف ، و ابن مالك ، وأبي حيان ، ولغويين مبرزين ، كان سيده صاحب المحكم و المخصص ، وأدباء بارعين : كابن هانئ وابن خفاجة.

وقد ألف ابن حزم رسالة عما ألفه علماء الأندلس من الكتب وما تمتاز به من إحاطة وتحقيق ، وذيل ابن سعيد رسالة ابن حزم برسالة أورد فيها ما فاته أو ألف بعده.

وهذا المصير المحزن الذي صارت إليه الأندلس ، قد حذرنا منه الكتاب الكريم في قوله تعالى :[وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] {الأنفال:25} . والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث) وبيان ذلك أن الصالحين في الأمة إذا سكتوا على المعاصي ، ولم يأمروا بالمعروف ، ولا نهوا عن المنكر ، كانوا هم أنفسهم ظالمين ، فاستحقوا أن تصيبهم  الفتنة عقوبة لهم ، وإن امتثلوا ما أمر الله به ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، تصبهم الفتنة عقوبة لهم على بقائهم مع الظالمين ،، وقعودهم عن الهجرة وهم قادرون عليها.

وهو مصداق قوله تعالى : [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:97} .

وعلماء الأندلس قاموا بواجبهم ، فأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وحذروا الناس عاقبة إنفاق الأموال في تنميق البناء وزخرفته ، وما يفضي إليه التفرق من الضعف واستيلاء العدو على الممالك ، واستنجدوا الممالك الخارجة إلى مساعدتهم ، فلم يجدوا من الوجهاء ومحبي متاع الدنيا قبولاً وإشفاقاً مجدياً ، كقول شاعرهم يخاطب ملك تونس :

أدرك بخيلك خيل الله أندلساً=إن الطريق إلى منجاتها درسا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : مجلة لواء الإسلام العدد التاسع السنة 111 ، جمادى الأولى 1377هـ ، ديسمبر 1957م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين