محاضرة الدكتور صفي الدين في ثانوية تركمان بارح - السنة النبوية مكانتها وأهميتها
بسم الله الرحمن الرحيم
قام الدكتور بلال صفي الدين ، عميد كلية الشريعة بحلب سابقاً ، المحاضر في كليتي الشريعة والحقوق في جامعة حلب ، بإلقاء محاضرةٍ في الثانوية الشرعية في تركمان بارح    ـ شمال غربي حلب ـ تلبيةً لدعوة مديرها الأستاذ الشيخ عبد الله العثمان .
ألقيت هذه المحاضرة بعد صلاة العصر من يوم الأربعاء 22/ شوال / 1429 هـ الموافق لـ 22/10/2008 م في مسجد الثانوية أمام الطلاب الذين هم بين الصف الأول الإعدادي والصف الثالث الثانوي الشرعي .
في البداية تكلم الأستاذ عبد الله وعرّف بالدكتور المحاضر وجهوده الكبيرة في كلية الشريعة بحلب والتي اقترن اسمه باسمها منذ تأسيسها ، ولا تزال ثمار هذه الجهود تنمو وتزداد يوماً فيوم .
ثم بدأ الدكتور بلال صفي الدين الكلام شاكراً لمدير الثانوية والكادر التدريسي فيها على ما يقومون به من خدمة طلاّب العلم ، وذكر أنّه سأل الأستاذ الدكتور نور الدين عتر حفظه الله ذات يوم قائلاً : لقد فتح الله عليكم وأكرمكم بهذه المرتبة من العلم ، فما هو السر وراء ذلك؟ فأجاب الدكتور نور الدين عتر: إنّما فتح الله علينا بخدمتنا لطلاب العلم .
ثم توجّه إلى الطلاب مبيّناً أنّ المعجزات أول ما تبدأ نشعر تماماً بإعجازها ، ثم يخف شعورنا بها بقدر اعتيادنا عليها ، فهذه السموات وهذه المخلوقات ، وهذا الجسم ... الخ كلها معجزات ولكن عندما اعتدنا عليها لم يبق فينا الشعور بكونها معجزةً ،وكذلك هذا الصرح العلمي ـ الثانوية الشرعية ـ فإنّها من أكبر نعم الله تعالى على أهل هذه المنطقة ، فلابدّ من أن نستشعر أهميتها وأن نشكر الله تعالى على هذه النعمة، فبالشكر تدوم النعم .
 
وهذا ملخص محاضرة الدكتور:
 
السنّة النبويّة
أهمّيتها ومكانتها في التشريع
الحمد لله رب العالمين ،و أفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ، اللهم افتح بخير واختم بخير واجعل عاقبتنا في الأمور كلها إلى خير ، وبعد :
السنة النبوية ،  معناها ، أهميّتها ، علاقتها بالقرآن  ، هل نأخذ منها أحكاماً ؟ ما هي هذه الأحكام .
أولاً : تعريف السنّة :
السنة لغةً : الطريقة ، سيّئةً كانت أو حسنة ، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلّم: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً"
أمّا تعريفها شرعاً : فقد اختلف العلماء في تعريفها ، وكلٌّ حسب مجاله .
فهي عند الأصوليين : ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلّم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير .
            وبهذا تكون السنة مصدراً من مصادر التشريع .
وعند الفقهاء : هي ما يثاب الإنسان على فعله ، ولا يعاقب على تركه .
والذي يهمنا هنا هو تعريف الأصوليين ،و هو كون السنة مصدراً من مصادر التشريع ، أي أنه بالسنة نقول أنّ الأمر الفلاني فرض ،والأمر الفلاني محرم أو مكروه أو مندوب أو مباح ...  
والسنة القولية أو الفعلية أو التقريرية لها أمثلتها المعروفة .
والسنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم ، معنى ذلك أنّ القرآن أمرنا باتباع السنة في الأحكام التي لم ينص عليها القرآن ، فأول ما ننظر إلى الحكم في القرآن ، فأن لم نجد فيه نرجع إلى السنة وهكذا.
قال بعض العلماء : السنة قاضية على القرآن ، وليس في كون السنة قاضية على القرآن وكونها المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن تناقض ، فقد فهمنا كون السنة المصدر الثاني للتشريع ، أما كونها قاضيةً على القرآن فمعنى ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليبين القرآن من خلال السنة ، من تقييد المطلق وتخصيص العام وتبيين المجمل .
مثال ذلك ما إذا استوردنا آلةً حديثةً من دولةٍ بعيدة ، فإنّ الشركة الصانعة سوف تبعث مع الآلة شخصاً خبيراً بهذه الآلة ، وسوف ترسل ما يسمّى ( الكاتالوك ) ، والخبير يبين كيفية استعمال الآلة ،ويبقى فترةً من الزمن ثم يغادر  ويترك كلامه مع دليل الاستخدام ، فإذا جاء إنسان وقال أنا أعرف كيف أستخدم هذه الآلة ولا أحتاج إلى دليل استخدام ولا إلى مرشد خبير بها ... فما هي النتائج ؟...
 هكذا ولله المثل الأعلى ، فإنّ الآلة هي الإنسان ، والخالق هو الله ، ودليل الاستخدام هو القرآن الكريم ، والخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وسنته هي كلام الخبير ،ولا يمكننا الاستغناء عن القرآن ولا عن السنة .
إنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظ الدين ، وأقول حفظ الدين وليس حفظ القرآن ، لأنّه من المسلم عندنا أنّ الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن ، فقد قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ثمّ أوكل الله تعالى فهم القرآن بالسنة ،فإذا تكفل بحفظ القرآن الذي نفهمه من خلال السنة ، ثم ذاعت السنة فإنّ هذا يعني ضياع القرآن وضياع الدين وهذا محال ... إذاً فالسنّة محفوظة .
ومن صور حفظ الله تعالى للسنة أنّ سخّر لها علماء الأمّة الذين قاموا بتقرير علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال . وجهود العلماء في تقرير هذه العلوم معلومة ، وكلّ ذلك الجهد كان تنفيذاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي يرفعه معاذ بن جبل رضي الله عنه : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وفي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً : (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).وربّما نستقلّ أموراً هي في أعين الناس كبيرة ، كسورة الفاتحة مثلاً ، فمن الآن بإمكاننا أن نعلّم الناس صغاراً أو كباراً ... وطبعاً بالحكمة والموعظة الحسنة ،كما فعل سيدانا الحسن والحسين عندما علّما رجلاً كبيراً كيف يتوضّأ ... إذاً لا أنتظر حتى أنهي التعلم ثم أتفرغ لكي أعلم الناس ،وإنّما أبدأ ولو بالقليل من الآن ( بلّغوا عنّي ولو آية ) .
فالعلماء بهذه الجهود التي بذلوها للدفاع عن السنة نالوا هذا الشرف العظيم ،شرح الحفاظ على السنة النبوية ، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : ( إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث فكأنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم )  ومرّ رجلٌ بالأعمش وهو يقرأ الحديث على الصبيان الصغار فقال له : أتقرأ على هؤلاء الصغار ؟ فقال الأعمش : هؤلاء الصبيان يحفظون عليك دينك ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَزَالُ طَائِفةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله ) قال الإمام أحمد وغيره :هم أهل الحديث ، وعن علي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم ارحم خلفائي) - ثلاث مرات - قيل يا رسول الله: ومن خلفاؤك؟ قال: ( الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلمونها الناس ) ومن أجمع الكتب التي ذكرت فضل أهل الحديث كتاب ( شرف أهل الحديث ) للخطيب البغدادي .
أمّا عن الإسناد وأهميّته : فإنّه مما شرف الله به هذه الأمّة الإسناد ، والإسناد من الدين ـ كما قال بعض التابعين ـ ومثل الذي يطلب الحديث دون إسناد كمثل من يريد أن يرقى سطح بيت دون سلّم ، ومن أكبر نعم الله تعالى على بلاد الشام أنّه عندنا في دمشق أعلى إسناد في العالم في القرآن الكريم عند الشيخ بكري الطرابيشي ،والإسناد في القرآن وفي السنة .
بعض الأمم خلطوا كلام ربهم بكلام أنبيائهم فضلوا وأضلوا ، أما علماؤنا فلم يحابوا أحداً ولو كان أقرب أقاربهم ، فهذا هو الإمام على بن المديني لم يحدّث عن أبيه أبداً ،وعندما سئل بين أن حديثه لا يصح ...
وقد جاء في القرآن الكريم في أكثر من موضع بيان فضل أهل الحديث ، ففي قوله تعالى : {فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة ليتفقَّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلَّهم يحذرون} والطائفة الجماعة القليلة وتطلق على الواحد أيضاً ، فالذي يخرج في طلب العلم والحديث ثم يعود ويكتم علماه كمثل النجار الذي يجمع في حانوته الآلات والمعدات ،ويخبئها في دكانه ولا ينفع بها أحد ... فماذا نقول عن هذا ؟... كذلك طالب العلم الذي يتعلم ولا يعلم .
وفي قوله تعالى : ( السائحون ) أي الذين يرحلون في طلب الحديث كما فسره بعض العلماء.
فالإسناد هو سلاح المؤمن ،وأصحاب الأسانيد هم حراس الأرض وفرسان الدين ، وقد دأب العلماء في الاستدلال على ابتداع الرجل بإبغاضه لأهل الحديث ،فالذي يبغض أهل الحديث هو الذي يبغض سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن فضل الله تعالى وكرمه أنّه تعالى مكّن لأهل الحديث ما لم يمكّن لغيرهم ، وقد وعد الله تعالى بذلك فقال :( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) وليس كأهل الأهواء والبدع ، وكما قالوا : موعدنا يوم الجنائز .
ربما يسأل سائل : لماذا نلتزم بالسنة ؟ ما حكم اتباع السنة ؟
نحن مأمورون باتباع السنة لأنّ الله تعالى قد أمرنا من خلال القرآن باتباع ذلك الرسول الصادق الأمين الذي أيده الله بالمعجزات التي تقول " صدق عبدي فيما بلغ عني "
يقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} (59) سورة النساء
وقال أيضاً : {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } (80) سورة النساء
قال الإمام الشافعي رحمه الله : فمن أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله أخذ ، لأنّ الله تعالى يقول : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) سورة النجم
وقال تعالى أيضاً :{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء فلا يؤمن الإنسان حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر دينه .
وقال أيضاً :{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (7) سورة الحشر
وقد أشبع الإمام الشافعي في كتابه ( الرسالة ) بيان أن الحكمة التي أمرنا الله باتباعها هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أمّا دليل وجوب الأخذ بالسنة من السنة فالأحاديث كثيرة في ذلك منها :(ألاَ إنّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ألاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرّمُوهُ.ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله.)
ومن أجمل ما عبر به العلماء عن السنة أنّها حيٌ غير متلو ،أما القرآن فهو محيٌ متلو .
وقال ابن بدران الحنبلي : كل من له إلمام بالعلم يعلم أنّ ثبوت حجية السنة ضرورةٌ دينية .
وقد يستشكل البعض يقول : كيف نستدل على حجية السنة بالسنة ؟
دون أن نطيل في الموضوع :إنّ هذا الكلام يصدق على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو صادق فيما يخبر قطعاً .
وقد زعم أناسٌ يسمون أنفسهم بالقرآنيين أنّهم يأخذون بالقرآن ويكتفون به ولا حاجة لهم بالسنة ، وهم في الحقيقة يهدمون الدين ، ولو كانوا كما يقولون يأخذون بالقرآن لأخذوا بالسنة لأن القرآن يأمر باتباع السنة ،ولكنهم عندما حاولوا التشكيك بالقرآن فلم يستطيعوا انتقلوا إلى السنة وراحوا يشككون في حجيتها .
أما عن علاقة السنة بالقرآن ، فقد تكون السنة :
1-    مؤكّدة لما في القرآن :ومثاله : قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } (29) سورة النساء، فهذه الآية تبين أنّه لا يجوز أن نعقد أي عقد بيع أو معاوضة إلا بعد التراضي . جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلاَّ ما أعطاه عن طيب نفس منه) فقد جاء الحديث لكي يؤكد على هذا المعنى.
2-    مبينة وشارحة ( من تقييد مطلق أو تخصيص عام أو تبيين مجمل ) : مثاله الصلاة ، فقد أمر الله تعالى بإقامة الصلاة ( وأقيموا الصلاة ) ولكن كم عدد ركعاتها... جاءت السنة لتبين ذلك بالتفصيل ، ومثاله حد قطع يد السارق ، فالله تعالى قال : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) واليد في اللغة تعني الكف ،والذراع واليد كاملة إلى الكتف ،جاءت السنة لتبين أن المراد قطع اليد من الرسغ .
3-    تذكر أحكاماً جديدة لم ينص عليها القرآن : كزكاة الفطر وتحريم أكل كل ذي ناب ، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها ...
وفي كل الأحوال ترد السنة إلى القرآن ، ولكن اختلف العلماء في كيفية ردّها إلى القرآن ، قال الشاطبي في الموافقات : ( أجمعوا على أنّ السنة ترد إلى القرآن ،ولكن اختلفوا في ردّها ... )
إذاً : السنة النبوية : هي ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلنحفظ هذا الميراث .
وأنا أتكلم الآن ، أجدد اعتذاري ،لأنني على يقين أنّ عندكم هنا من الأساتذة من يجدر بي أن أتعلم منهم ، ولكن قالوا : مزمار الحي لا يطرب.
اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
والحمد لله رب العالمين
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين