نصر قريب -3- :المنصب أو المكتب

المنصب أو المكتب إنما هو لتحقيق هدف محدد: كما هو ظاهر واضح. ولو لم يكن الدليل على ذلك إلا الاسم لكفى. فنقول مثلا: قائد كتيبة أو رئيس الائتلاف أو أمير الجماعة أو طبيب عظام أو مهندس أو ما شابه من الأسماء التي تدل على مهام محددة نريد تحقيقها. ولنتخيل أن قائد الكتيبة أو اللواء أو الجيش لم يشغل منصبه إلا تشريفا له لنضاله ضد الظلم مثلا مع كونه لا يمتلك أي قدرات عسكرية فما هي نتائج جعل المنصب تشريفا ؟

 

فهل نتوقع من قائد قوات شغل منصبة تشريفا له الانتصار في المعارك ؟ أم لا نتوقع من مثله إلا الهزائم والويلات؟ وهل نتوقع من فاضل مجاهد بطل شغل منصب مهندس تشريفا له أن يبني لنا عمارات أو جسور؟ وهل نتوقع من أشرف أهل الأرض النجاح في علاج كسور العظام لو أنه شغل منصب طبيب عظمية تشريفا له واعترافا بفضله وشرفه ؟ وهل نتوقع النجاح في الإدارة أو السياسة لشخص صار رئيسا أو قائدا تشريفا له وليس بسبب امتلاكه أي قدرات فنية في هذا المجال؟

 

أم هل نظن النتائج مختلفة لو أنا نصّبنا رئيس ائتلاف لم نضعه في منصبة إلا تشريفا وتكريما له مع أنه لا يمتلك أي قدرات مآلفة بين الناس (ما ألفت بين قلوبهم). أو لا يمتلك أي تصورات عن خطوات المآلفة أو الأدوات التي ستستخدم لها. كذلك هل نظن النتائج مختلفة فيما لو كان السياسي لا يعرف معنى كلمة سياسة ؟ ولا يمتلك أي فكرة عن آلاتها وأساليبها ولا ما هو المطلوب منه ؟ وكان لا يمتلك أي رؤية أو تصور عام؟

 

إذا ثبت ما سبق واستبان اتضح لنا أن المنصب أو المكتب إنما هو تكليف لتحقيق هدف محدد تماما. وهو أشد ما يكون حين يتعلق بالمناصب الإنسانية الرفيعة كالقيادة أو الرآسة أو العمل السياسي. ولنا أن نتخيل كيف يكون حالنا فيما لو قادنا من لا يمتلك أي إستراتيجية أو أي برنامج عمل؟ بل لعلنا لا نحتاج أن نتخيل فما علينا إلا النظر إلى واقع الثورة اليوم لنرى كيف تكون النتائج.

 

للمُؤهَل أو لصاحب التقنيات:

تبين لنا في بحث سابق أن شرطي تحقيق النتائج الإيجابية هما: القوة التقنية والأمانة. مما يعني أن تحقيق الهدف المنوط بمنصب معين يتعلق بشرطين في المرشحين له هما: التأهيل الفني والتأهيل الأخلاقي. وبما أن التأهيل الأخلاقي عام لجميع المناصب والمكاتب بل وللحياة بشكل عام، نستطيع أن نستنتج أن مؤهل المرشح لمنصب إنما هو التأهيل الفني. بل حتى لو وجدنا أكثر أهل الأرض أخلاقا بدون أي أهلية طبية فلا أعرف عاقلا يطلب منه جراحة أو طبابة.

إذاً ثبت ما سبق عرفنا أن خطأ كبيراً يرتكبه الكثير منا حين يتحدث عن التقوى أو الورع في مرشح لمنصب سياسي أو عسكري أو قيادي في الثورة أو في الدولة. فالعمل السياسي أو العسكري عمل فني متخصص يترتب عليه الكثير من الدماء والويلات. فإذا كنا لا نرضى لأكثر أهل الأرض أخلاقا وتقىً أن يقيم عملية جراحية خوفا على حياة فرد، فهل نقبل أن يقود من تكلفنا قيادته الآلاف المؤلفة من الشهداء والمغتصبات والجرحى المعاقين بدون أهلية فنية واضحة ؟

 

عدم إعطاء المنصب أو المكتب للمؤهل يعني خيانة الأمانة:

يتضح مما سبق بشكل جلي أن تكليف شخص أو ترشيحه لشغل منصب أو مكتب معين بدون أهلية فنية تقنية ليس إلا دعوة لحصول المصائب الكبرى. وهو ما يعبر عنه إسلاميا بمصطلح: خيانة الأمانة. والخيانة تشمل كل من يسكت على منكر كبير من هذا النوع. وأن الثقة بتقوى الشخص أو انتمائه لحزبي أو جماعتي أو تنظيمي ليس مؤهلا كافيا في شغله لذلك المنصب بل لا بد له من قدرات سميناها اختصارا: برنامج عمل.

 

وليتخيل أحدنا أن ابنه محكوم عليه بالإعدام أفلا يكلف أفضل محام في الدنيا للدفاع عنه ؟ وطبيعي أن المحامي في القضية السياسية سياسي. فهل يقبل أحدنا أن يضع سياسيا تشريفا له ليدافع عن ابنه المحكوم عليه بالإعدام ؟ فإن كنت أيها الحر لا ترضى ذلك لابنك فلا ترضاه لابن أخيك وقد مر معنا حديث: "أيما امرئ ولي من أمر الناس شيئا، ثم لم يحطهم بما يحوط به نفسه وأهله، لم يرح ريح الجنة". وكل واحد منا في هذه الحالة صاحب قرار له صوت وهو مسؤول عنه.

 

أما الحجة المعتادة من أنه لا يوجد الشخص المؤهل فالجواب عليها قد مر. ومر أنه إذا شغل شخص منصبا مضطرا فيجب عليه أن يعرف ويحس: أ. أنه يقتات على دماء الشهداء لكنه مضطر معذور مادام لا يجد بديلا. ب- أن يبحث باستمرار عمن هو أفضل منه ليعطيه القيادة. ت. أن يطلب مساعدة الناس في البحث عن الأفضل. ولعل الله أن يبارك في عملنا إن تنبهنا للقضايا السابقة فيهيأ لنا رجلا أو رجالا أهلا للمنصب يكون أحدهم قادرا على تغيير التاريخ.

 

شخص واحد يستطيع تغيير التاريخ:

الثورة السورية ثورة شعب بكل فئاته وأصنافه. وستنجح هذه الثورة بإذن الله ولكن فقط إذا أدركنا أن لكل فرد قيمته وجهده وتقديمه. وشخص واحد يستطيع تغيير التاريخ. فليكن هذا الشخص هو أنت أيها القارئ الكريم. فانهض يا حماك الله وأظهر للقتلة ما يسوؤهم. فو الله إن يوم النصر قريب. وها قد تحققت كل نبوءة حول صعوبة ثورتنا ويتمها ولم يبق إلا أن يتحقق النصر التام المنجز. فهذا ينتظرك وجهدك ليتحقق قريبا بإذن الله.

 

وقد أكد سبحانه أن إنسانا واحدا، قد يصل إلى أن يساوي أمة بأكملها فقال تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)" النحل. وأكدصَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المعنى لنا، فقال: "لَا نَعْلَمُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مِائَةٍ مِثْلِهِ إِلَّا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ". حسن صحيح احمد وغيره. وقد أراد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين لنا أن الأفق مفتوح أمام الإنسان. وأنه لا حدود تقف في وجهه، إلا ما يضعه هو في وجه طموحاته.

 

فتجد إنسانا خيرا من مئة، و تجد إنسانا خيرا من ألف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء خير من ألف مثله إلا الإنسان". صحيح الطبراني وغيره. بل قد يصل صوت إنسان إلى أن يكون خيرا من ألف إنسان! فكيف بمن والى وآخى صاحب هذا الصوت؟ قال رسول الله: "لَصَوْتُ أَبي طَلْحَةَ في الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ". صحيح ابن سعد وغيره. وقد أدرك المسلمون هذه الحقيقة فسادوا الدنيا ونفعوا الناس.

 

ففي تراثنا أن تاجر بغداد حين وجد السرَّاق على سطح بيته، وهو مع زوجته في سريره ولا يستطيع قتالهم وهم كثير، ولكنه يملك العقل الذي يهزمهم جميعا. فأسر لزوجته أن تسأله بصوت عال يسمعه اللصوص عن طريقته في جمع ثروته. فسألته بصوت مرتفع فتمنع عليها قليلا ثم أخبرها بصوت يسمعه اللصوص الذين أخذوا بالإصغاء للحصول على السر. أخبرها أنه كان يمتلك وسيلة سحرية تجعله يسرق بيوت الناس وينسحب بمنتهى السهولة !

 

فقد تعلم من ساحر ماهر أن يقول لفظة ثلاث مرات ثم يقفز على عمود الضوء النازل من طاقة الغرفة إلى الأرض فيحمله هذا الضوء (وكأنه طائرة هيلوكبتر) دون أن يحس به أحد. فيجمع ثروات البيوت ثم يعود إلى عمود الضوء مرة أخرى فيقول اللفظة ثلاث مرات أخرى فيحمله الضوء إلى السطح. فسألته عن تلك اللفظة. فزاد في عملية التشويق لكي يضفي على أسطورته لمسة واقعية. ثم أخبرها أنه كان يقول: شولم شولم شولم ثلاث مرات ثم يقفز بكل قوة على عمود الضوء! فما كان من اللصوص إلا اكتشاف السر و القفز على عمود الضوء ليقضوا بحماقتهم على أنفسهم ويصنعون له نصره بأفضل طريقة !

 

وقبل تراثنا، نعرف في تاريخنا أن نعيم بن مسعود الثقفي رضي الله عنه و بتطبيقه لنصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم له استطاع أن يكون عنصرا حاسما في رد جيوش الكفر التي كانت تحاصر المدينة في غزوة الأحزاب ! فقد جاء إلى الرسول وقال له أنه أسلم وأنه لم يعلم أحد بإسلامه. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت فينا واحد. فخذِّل عنا فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم وأوقع بين الأحزاب وشككهم بوفاء بعضهم لبعض. والقصة معروفة في كتب السيرة. والعبرة أن شخصا واحدا يستطيع تغيير التاريخ.

وأن شخصا واحدا يستطيع ما لا تستطيعه كل جيوش الأرض. كل ذلك إذا بذل جهده وأَعمَل عقله. و الثورة ولله الحمد منتصرة ولكن وحتى لو لم تكن، لكان في الأمة أبطال يصمدون حتى النصر! فكن أنت هذا الناصر البطل صانع التاريخ. ولا بد لي هنا من سرد هذا الحديث الصحيح الشريف: "عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه. فعلم ما عليه. فرجع حتى أهريق دمه! فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه". أسأل الله أن يحمي دماءكم و أعراضكم وأموالكم أيها الأبطال الميامين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين