الوظائف السياسية للحاكم المسلم واجب الطاعة‎

إن الأمة اليوم تتطلع إلى قيادات سياسية تعفُّ عن أموالها، وتكفُّ عن دمائها، وتلمُّ شعثها، وتوحد كلمتها، وتحسن سياستها، وتحررها من عبوديتها، بعد أن أترعت الدماء على أيدي الطغاة، وأهدرت الأموال، وانتهكت الأعراض، وامتلأت السجون بالمظلومين، ببغي المجرمين ، وعدوان الآثمين ، ونكث الناقضين للعهود ، والخارجين على الحدود ، واختلطت الأوراق ، وكادت أن تضيع الحقائق ، ومما يجمل فى مثل هذا الحال ، بيان الواجبات التي ينبغي أن ينهض بها القادة السياسيون – ولا سيما ولي الأمر المسلم –  وقد أورد الماوردي ستة منها تعد في الحقيقة على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهي[1] يباشر ولي الأمر هذه الوظائف من خلال أجهزة ينتقيها ويختارها على عينه ، ويٌحدد اختصاص كل جهاز منها على حدة ، منعا للازدواجية ، والتداخل فى الواجبات وهاك البيان

 

أولا:- حماية البيضة(الوطن)، - (وَالذَّبُّ عَنْ الْحَوْزَةِ) ؛ أَيْ: حِفْظُ الرَّعِيَّةِ(وَإِنْصَافُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ)وهو ما يعرف حديثا بالمحافظة على الأمن والنظام العام في الدولة-والذّبّ عن الحرمات مِنْ عَدُوٍّ فِي الدِّينِ أَوْ بَاغِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أو أرض أو عرض.ليتصرّف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال. وهذا ما يقوم به أفراد الشرطة –ومجندو وزارة الداخلية –الآن بتفرغ .

 

ثانيا:- تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ،- وهو ما يعرف حديثا بالدفاع عن الدولة في مواجهة الأعداء- حَتَّى لاَ يَظْفَرَ الأْعْدَاءُ بِثُغْرَةٍ يَنْتَهِكُونَ بِهَا مُحَرَّمًا، وَيَسْفِكُونَ فِيهَا دَمًا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ. وهذا ما يقوم به – مجندو وزارة  الدفاع أو الحربية أو القوات  المسلحة بكافة أفرعها وتخصصاتها-الآن بتفرغ كامل

 

ثالثا:الإشراف على الأمور العامة بنفسه- أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ - أَوْ بِأَعْوَانِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ مُشَارَفَةَ الأْمُورِ، وَتَصَفُّحَ الأْحْوَال لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الأْمَّةِ[2] - ، وحراسة الملّة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشّ الناصح. وقد قال تعالى: "يا داوُدُ، إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[3]" . فلم يقتصر الله تعالى على التفويض دون المباشرة، بل أمره بمباشرة الحكم بين الخلق بنفسه. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته[4]»[5] ولقد عِيب على بعض الشعراء ، وصْفه الخليفة المأمون بالتفرغ للعبادة والانشغال بها عن متابعة أمور رعيته ، وهذا هو محرابه الذي تعبده الله تعالى به  فعن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: إني بباب المأمون إذ خرج عبد الله بن السمط، فقال لي: علمت أنّ أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشعر! قلت له: وبم علمت ذلك؟ قال: أسمعته الساعة بيتا لو شاطرني ملكه عليه لكان قليلا، فنظر إلى نظرا شزرا كاد يصطلمني  . قلت له: وما البيت؟ فأنشد:

 

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدّين، والناس بالدنيا مشاغيل

 

قلت له: والله لقد حلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه، ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها؟ وقيل إنه قال له: مازدته على أن وصفته بصفة عجوز فى يدها مسباحها؛ فهلا قلت كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان:

 

فلا هو فى الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدّنيا عن الدين شاغله[6]

 

فقال: الآن علمت أنني أخطأت[7]

 

رابعا: إقامة العدل بين الناس قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[8]"" قال تعالى" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً[9]"هذا وإقامة العدل يتمثل في أمرين:

 

1- النظر في المظالم وتنفيذ الأحكام، بين المتشاجرين، وقطع الخصام، بين المتنازعين، بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَاعْتِمَادِ النَّصَفَةِ فِي فَصْلِهَا. حتّى تعمّ النّصفة فلا يتعدّى ظالم ولا يضعف مظلوم.  قال تعالى:"" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا

 

عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[10]"

 

 (لَو أنصف النَّاس استراح القَاضِي ... - _ وَبَات كلُّ عَن أَخِيه رَاض)

 

2- إقامة الحدود مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ فِيهَا، وَلَا تَقْصِيرٍ عَنْهَا. لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف والاستهلاك. ويكون الجميع أمام القانون والشريعة سواء، في الصحيح ، عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - أَنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟

 

فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلاَّ أُسَامَةُ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟

 

فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟" ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[11].

 

خامسا: الشؤون المالية والإدارية

 

1- في الشؤون المالية : تقدير العطاء وما يُستحقّ في بيت المال وهذا يقرب مما يعرف في الدول الحديثة (بالْمِيزَانِيَّةُ الْعَامَّةُ) للدولة وإجراء الموازنة بين إيرادتها ونفقاتها مما يحقق توازنًا للميزانية من غير سرف ولا تقتير[12]، لأن السرف قد يؤدي إلى التضخم والافتقار، والتقتير قد يؤدي إلى ظلم الرعية - ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير؛ ، وذلك كله مما تحرمه الشريعة التي هو منوط بحراستها[13].

 

وتحديد الأجور بحديها الأدني والأعلي

 

2- في الشؤون الإدارية : تعيين الموظفين :استكفاء الأمناء، وتقليد النّصحاء، فيما يفوّضه [إليهم من الأعمال] ويكله إليهم من الأحوال ويَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكِفَايَةِ فِيهَا، وَالْأَمَانَةِ عَلَيْهَا. لتكون الأعمال بالكفاة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.

 

وتَعْيِينُ الْوُزَرَاءِ، وَوِلاَيَتُهُمْ عَامَّةٌ فِي الأْعْمَال الْعَامَّةِ لأِنَّهُمْ يُسْتَنَابُونَ فِي جَمِيعِ الأْمُورِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.

 

وتَعْيِينُ الأُمَرَاءِ (الْمُحَافِظِينَ) لِلأْقَالِيمِ، وَوِلاَيَتُهُمْ عَامَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، لأِنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الأْعْمَال عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأْمُورِ.هذا ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة متضافرة في تحديد المؤهلات التي بموجبها يتم التعيين لشغل مختلف الوظائف ، ومن ذلك

 

قوله تعالى على لسان ابنة العبد الصالح لتوظيف كليم الله موسي عليه السلام:" يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ[14]

 

وقول الصديق يوسف عليه السلام لملك مصر " ..اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[15]" وقول جند سليمان عليه السلام له عن عرش بلقيس " قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ[16]"

 

وقوله تعالى "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ[17]" وقال ملك مصر ليوسف عليه السلام "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ[18]" ومما لا شك أن أعلي الوظائف مقاما ، وأجلها احتراما وظائف الدعاة وحملة الرسالات ، وأصحاب الدعوات فجعل الله تعالى على رأس أوصاف القائمين بها الأمانة فما خلا رسول من هذه الصفة واقرأ قول كل رسول إلى قومه – عليهم السلام جميعا "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ[19]"

 

هذه التعيينات بتلك المواصفات ، توظيفا للكفاءات ، واستثمارا للخبرات ، وتسخيرا لكافة القوى والقدرات لصالح الأمة ، أما من ليس لديهم قدرة على العمل لعجز أو كِبر أو عاهة أو مرض فلا بد من تدبير وتأمين معيشة كريمة لهم تحفظ ماء وجوههم ؛ لا يغفل عنهم الوالي ولا يلهو ، ولا ينشغل بعبادة ولا لذة ، وكيف وليس مغفولا عنه في تاريخ الطبري وكامل ابن الأثير "قَالَ أَسْلَمُ: وَخَرَجَ عُمَرُ إِلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ إِذَا نَارٌ تَسَعَّرُ. فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِمْ. فَهَرْوَلْنَا حَتَّى دَنَوْنَا مِنْهُمْ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ مَعَهَا صِبْيَانٌ لَهَا وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى نَارٍ وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ. فَقَالَ عُمَرُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ. وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ: يَا أَصْحَابَ النَّارِ. قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. قَالَ: أَدْنُوا؟ قَالَتْ: ادْنُ بِخَيْرٍ أَوْ دَعْ. فَدَنَا فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ؟ قَالَتْ: قَصَّرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ. قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟ قَالَتْ: [مِنْ] الْجُوعِ. قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْقِدْرِ؟ قَالَتْ: مَا لِي مَا أُسْكِتُهُمْ حَتَّى يَنَامُوا، فَأَنَا أُعَلِّلُهُمْ وَأُوهِمُهُمْ أَنِّي أُصْلِحُ لَهُمْ شَيْئًا حَتَّى يَنَامُوا، اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ! قَالَ: أَيْ رَحِمَكِ اللَّهُ، مَا يُدْرِي بِكُمْ عُمَرَ؟ قَالَتْ: يَتَوَلَّى أَمْرَنَا وَيَغْفُلُ عَنَّا. فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا. فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى أَتَيْنَا دَارَ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ عِدْلًا فِيهِ كُبَّةُ شَحْمٍ فَقَالَ: احْمِلْهُ عَلَى ظَهْرِي. قَالَ أَسْلَمُ: فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. فَقَالَ آخِرَ ذَلِكَ: أَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا أُمَّ لَكَ! فَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ نُهَرْوِلُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا، فَأَلْقَى ذَلِكَ عِنْدَهَا وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ شَيْئًا فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: ذُرِّي عَلَيَّ وَأَنَا أُحَرِّكُ لَكِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ، وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ عَظِيمَةٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الدُّخَانِ مِنْ خَلَلِ لِحْيَتِهِ حَتَّى أَنْضَجَ ثُمَّ أَنْزَلَ الْقِدْرَ، فَأَتَتْهُ بِصَحْفَةٍ فَأَفْرَغَهَا فِيهَا ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمِيهِمْ وَأَنَا أُسَطِّحُ لَكِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَلَّى عِنْدَهَا فَضْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! فَيَقُولُ: قُولِي خَيْرًا، فَإِنَّكِ إِذَا جِئْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَدْتِنِي هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -! ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا وَرَبَضَ لَا يُكَلِّمُنِي حَتَّى رَأَى الصِّبْيَةَ يَضْحَكُونَ وَيَصْطَرِعُونَ، ثُمَّ نَامُوا وَهَدَأُوا، فَقَامَ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ، فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، الْجُوعُ أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَنْصَرِفَ حَتَّى أَرَى مَا رَأَيْتُ مِنْهُمْ[20]"وَفِي الأْثَرِ الصَّحِيحِ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالأْمِيرِ خَيْرًا جَعَل لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَل لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ: إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ[21].

 

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

 

سادسا: مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأْيِ والاختصاص:

 

قَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلاَةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَشْكَل عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّال فِيمَا يَفْعَلُونَ بِمَصَالِحِ الْبِلاَدِ

 

وَعِمَارَتِهَا[22].

 

وَتُعْتَبَرُ الْمُشَاوَرَةُ مَبْدَأً مِنْ أَهَمِّ الْمَبَادِئِ الإْسْلاَمِيَّةِ، وَقَاعِدَةً مِنْ أَهَمِّ الْقَوَاعِدِ الأْسَاسِيَّةِ فِي الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ. وَقَدْ جَاءَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الشُّورَى صَرِيحَةً فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي آيَتَيْنِ مِنْهُ الأْولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأْمْرِ[23]} .

 

فإن طرأ طارئ اتخذ الخليفة – رئيس الدولة - من التدابير مايحقق سعادة الأمة بشرطين:

 

الأول ـ ألا يخالف نصاً صريحاً ورد في القرآن أو السنة أو الإجماع.

 

الثاني ـ أن تتفق التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة، على وفق ما بينه علماء أصول الفقه، بالحفاظ على الأصول الكلية الخمسة وتوابعها: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال[24] .

 

فَإِذَا فَعَلَ مَنْ أَفْضَى إلَيْهِ سُلْطَانُ الْأُمَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الواجبات التي ذكرنا في الحلقة السابقة والتي كانت بعنوان "دعوة إلى أول رئيس منتخب لأرض الكنانة" وما تضمنه مقالنا هذا كَانَ مُؤَدِّيًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي رعيته، مُسْتَوْجِبًا لِطَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ، مُسْتَحِقًّا لِصِدْقِ مَيْلِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ. وَإِنْ قَصَّرَ عَنْهَا، وَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّهَا وَوَاجِبِهَا، كَانَ بِهَا مُؤَاخَذًا ثُمَّ هُوَ مِنْ الرَّعِيَّةِ عَلَى اسْتِبْطَانِ مَعْصِيَةٍ وَمَقْتٍ يَتَرَبَّصُونَ الْفُرَصَ لِإِظْهَارِهِمَا وَيَتَوَقَّعُونَ الدَّوَائِرَ لِإِعْلَانِهِمَا. هذا وللحديث بقية بحول الله وقوته ، ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل في القول والعمل.

 

 

[1]  الأحكام السلطانية للماوردي: ص14، والسلطات الثلاث للطماوي: ص278 ومابعدها.

[2] الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 12، والأحكام السلطانية للماوردي ص 16

[3] ص: 26)

[4] رواه مسلم عن ابن عمر (شرح مسلم للنووي: 213/ 12).

[5] [صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 9/ 372]

[6] الصناعتين: الكتابة والشعر (ص: 119)

[7] العقد الفريد (6/ 214)

[8] Hgkpg:90

[9] النساء:58

[10] الحجرات:9

[11] صحيح مسلم كتاب الحدود. باب قطع السَّارق الشَّريف وغيره، والنَّهي عن الشَّفاعة في الحدود.

[12] الأحكام السلطانية للماوردي ص 65، 108، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 297، 308، وشرح المنهاج 4 / 295، والمغني لابن قدامة 9 / 38، 106، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 78، 92

[13] السياسة الشرعية - جامعة المدينة (ص: 563)

[14] القصص:26

[15] يوسف55

[16] النمل :39

[17] التكوير:19-21

[18] يوسف54.

[19] الشعراء:107+125+143+162

[20] تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (4/ 206) الكامل في التاريخ (2/ 434)

[21] حديث: " إذا أراد الله بالأمير خيرا. . . " أخرجه أبو داود (3 / 345 - ط عزت عبيد دعاس) وجود إسناده النووي في رياض الصالحين (ص 17 - ط الرسالة)

[22] تفسير القرطبي 4 / 250 - 251.

[23] آل عمران / 159

[24] راجع الموافقات للشاطبي: 10/ 2، ط التجارية، الإحكام للآمدي: 48/ 3، ط صبيح، المستصفى للغزالي: 140/ 1، ط التجارية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين