ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟!!

حتى لا يحسب أحد أن الدعاة قصروا في نصح هؤلاء الذين أجرموا وأخطأوا في كل حساباتهم الدينية والدنيوية، فانقلبوا على الرئيس الشرعي، وولغوا في دماء الأبرياء، واعتقلوا وجوه الناس وأشراف أهل مصر، وطاردوا الباقين منهم، وقطعوا أوصال المجتمع، وزرعوا الفتنة في ربوعه، وأيقظوا نار الطائفية البغيضة – حتى لا يحسب أحد ذلك، أرى أنه لا ينبغي أن يخلو خطاب الدعاة إلى هؤلاء من نبرة تذكيرية بالله، لا تزلفا ولا استرضاء، ولكنه الإعذار إلى الله تعالى كامل الإعذار.

ولسببٍ ما كان هجاء حسان بن ثابت وكعب بن مالك لقريش أشد عليهم قبل إسلامهم، وهجاءُ عبد الله بن رواحة أكثرَ مرارة في حلوقهم بعد إسلامهم؛ وذلك أن حسانا وكعبا كانا يهجوان القوم بما علق بأنسابهم وآبائهم من مثالب وعيوب، في حين كان عبد الله بن رواحة يهجوهم بكفرهم وشركهم، يقول الرواة: "فَكَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (أي قبل إسلامهم) أَشَدَّ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ حَسَّانٍ وَكَعْبٍ، وَأَهْوَنَ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَفَقِهُوا الإِسْلامَ، كَانَ أَشَدَّ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ"!!

نهج قرآني أصيل:

والنهج القرآني في هذه المسألة - لمن يطلع عليه - يجمع بين تشديد النكير على المجرمين وبين تذكيرهم بالله تعالى والدار الآخرة، فمن لم تحرّكه قسوة الوعيد، حركته رقة التودد، وإلا فالنار أولى به، فالله تعالى الذي يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، ويقول: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}، وأشباه ذلك - هو نفسه سبحانه الذي يقول: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ...}، ويقول: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكما هددهم ذكّرهم، وكما "رهبهم ترهيبا" شديدا تنخلع له القلوب، "خوّفهم تخويفا" تلين له الأفئدة، وتسكن إليه الأرواح، إن كان فيها خير أو بقية من خير.

وقد حكى لنا القرآن الكريم قصة قوم سبقونا من بني إسرائيل فقال عنهم: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا؟! قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، فنجى الله الواعظين الناهين عن السوء، وجهّل مصير الساكتين عن قولة الحق، ومسخ عتاة المجرمين المستكبرين عن السماع إلى الموعظة والنصيحة قردةً خاسئين، ولنا في الواعظين منهم - دون الفريقين الآخرين - أسوة حسنة.

ولقد علّمنا الأنبياء عليهم السلام ألا نقنّط العباد من رحمة الله، وألا نفقدهم الأمل في مغفرته تعالى، فكانوا يخاطبون قومهم خطاب المشفق عليهم، الراجي لهم الهدى، لا لدنيا يلملمونها من ورائهم، ولا لمتاع يتسقّطونه من خلفهم، ولكنها مهمة البلاغ، ورفع الراية (راية الحق والدين)، وغرسها في العالمين، فاسمع إلى نوح وهود يقولان لقوميهما: {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، واسمع شعيبا يقول: {وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}، وقالها مؤمن آل فرعون: {... يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ. وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، وقالها خاتم النبيين محمد - عليهم جميعا الصلاة والسلام: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}...

دموع تتساقط من عظاتهم، وشفقة تقطر من كلماتهم، هم خائفون بحق على أقوامهم، وما قالوا لهم هذا استدراجا، ولكنه خبر من يعلم لمن لا يعلم، خبر من يعلم ويوقن أن مصير المجرمين في الآخرة كالح كله، وأن عذاب الله شديد، وأن كلامه صدق عن تنكيله بالسادرين في غيهم وطغيانهم، غير ما يضيّق الله عليهم من دنياهم، وما قد يصيبهم فيها من العذاب والنكال.

واجب يلزم أداؤه:

لهذا كله نؤدي حق الله في موعظة من غرته نفسه، وغشّى الباطل عينيه، وخدعه الشيطان حتى استدرجه إلى المهالك التي لا يبقى معها دين ولا دنيا، فقتل الناس لأجل كرسي، وسفك دم الأبرياء لأجل حفنة أو حتى كومة من المال والذهب والمتاع الزائل، فأيَّ ظلم ظلم هؤلاء أنفسهم حين باعوا دينهم وآخرتهم وأهلهم وأمتهم، واشتروا بها دنيا لن يكونوا من سكانها - يقينا - بعد سنين معدودة، وإن طالت فهي عقود قليلة؟!

أنى لهؤلاء التعساء بيعةً كلُّها بخس وحيف، تركوا فيها الله ودينه وشريعته والرحمة والبر والتقوى، واختاروا الشيطان وطريقه، وتحالفوا على العدوان على الخلق وارتكاب المآثم والعظائم التي تهتز لها السماء غضبا لانتهاك حرمات الله، وهدم ما بنى الله؟!

ألهذا الحد قست القلوب، وقل الخير في النفوس، وفقد الناس البصيرة؟! إن الآخرة التي يرونها بعيدةً جدُّ قريبة، والدنيا التي يقيمون فيها سائرةٌ إلى نقص وزوال لا محالة، والماضي الذي سلف هو بالنسبة لهم آكد من مستقبل لا يضمنون لأنفسهم ولا يضمن لهم سلطانهم ولا جيوشهم البقاء حتى يأتي!

ما أتعس الإنسان حين يستجيب لدواعي أنانيته، ما أشقاه حين تكبر ذاته في عينيه، فلا يرى في مرآة الحياة سواها.. إنها بداية كل طغيان، ومفتتح كل جريمة؛ أن ترى أنك وحدك الأجدر بكل شيء: الأجدر بالبقاء، الأجدر بالأمان، الأجدر بالثروة والمال، الأجدر بالرفاهية والمتعة، حينها – صاحبي إن كنت تسمع وفيك قلب يفقه – ستهدم كل شيء، ولكنك نسيت أن هدم كل شيء سيُسقطه على رأسك في الدنيا قبل الآخرة.

لماذا الباطل؟!

إن الإنسان لا يندفع إلى الباطل إلا لغفلة أو جهل أو هوى:

-       فإن كنت غافلا، فهلا كشفتْ عنك حجابَ الغفلة تلك الدماء البريئة التي سُفِكت، وهلا أيقظتك من رقدتك تلك الأنّات المكتومة والدموع السخينة التي تهطل من أعين ثكالى ويتامى وشيوخ فقدوا أحباءهم وفلذات أكبادهم.. لقد عدتَ تصدق الشياطين بأن هؤلاء إما أنهم يمثلون أنهم موتى، أو أنهم يستحقون القتل بجدارة.. فإن لم تحرك قلبك الدموع والدماء، وهما أغلى ما يسكبه الإنسان، فماذا سيحركه؟ أخشى أن تكون النار، وبئس القرار!!

-       وإن كنت جاهلا، واعترفت بذلك، لزمك أن تسأل وتفتش وتنقب عن الحق والحقيقة، فإن قوما من أهل النار لم يتحروا الحق، ووقعوا في الباطل سماهم القرآن بالضالين، وجعل سبيلهم وطريقهم صورة من صور البعد عن "صراط الله". وإن لم تعترف بجهلك، فقد وقعت في الكبر الذي جعل الله طريق أهله صورة أخرى لمفارقة الحق الذي شرعه الله لعباده، وهو طريق الجاحدين المغضوب عليهم.

-       وإن كان الهوى هو الذي دفعك إلى الباطل والظلم، فاحذره، فإنه يعطيك متعة عاجلة لقاءَ حيرة وضيعة وحرقة وألم لا ينقضي، وقوتك الحقة ليست في بندقيتك التي تقنص بها النفوس البريئة، ولا قلمك الذي تسخره لتلبيس الحق بالباطل، ولا مالك الذي تنفقه لقتل الزهرات اليانعات، ولا فتوتك التي تروع بها الآمنين؛ قوتك يا صاحبي، بل قوتكم يا قومنا – مهما كنتم – هي أن تملكوا زمام هذه النفوس، وتدفعوها عن الباطل دفعا، قوتكم ليست بمصارعة الأبدان، وإنما بمصارعة الرغبات والأهواء، وتعديل مساراتها حتى تسكن إلى جنب يحبه الله، وتجد في الركوع سلوتها، وفي ذكر الله رَواحها.

شتان وبَعُد الفرق بين رجلين: أحدهما سكينته في مناجاة يناجي بها مولاه، وآخر غايته كراسي الحكام، وعروش الملوك والفراعين، وكنوز القوارين ورجال الأعمال.. شتان شتان بين من تُدمِعه موعظة، وتستثير مشاعره آية، وتأخذه من الدنيا ركعة، وبين من تطارده أحلام القيادة والسيادة والمال والثراء وأحلام الشهرة والصيت، شتان شتان بينهما في الدنيا والآخرة!!

ولا تظن أن الله يغلق باب التوبة أمام عبد يريده، أو يسد طريق الأوبة أمام باحث أضنى قلبه في البحث عن مولاه.. فربك أكرم من ذلك. ولكن قد تدفع ثمنا لموقفك الشجاع إن كان قد تعلق برقبتك شيء من حقوق العباد، إلا أنه - على كل حال - أهون من فضيحة الآخرة وثمنِ الآخرة، ثمن الآخرة يا صاحبي لا عِوض له، وثمن الدنيا يمكن أن يُعوَّض.

إن التوبة تفرض علينا أن نبرأ من حقوق العباد ما عَظُم منها أو صغر، وإلا كانت توبة بلا معنى، ولكانت فوضى يستطيعها كل أحد؛ يسرق أو يقتل ثم يتوب وقد منح نفسه الأحقية في مال الناس ودمائهم وأعراضهم.

لقد روى الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه عن أبي هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه"!! وهؤلاء الذين قتلتَهم، أو شاركت في قتلهم بالتفويض والقول أو بالفعل، كانوا بالأمس إخوانك وجيرانك، فكيف صاروا بين ليلة وضحاها من عتاة المجرمين الذين يستحقون القتل والسحق والنفي من البلاد؟!

ويحك! أتصدق أن في بني وطنك طائفة كبيرة كانت تساكننا وتؤاكلنا وتشاربنا يمكن أن نكتشف فجأة أنها تستحق الاستئصال والمحو بلا محاكمة ولا تحقيق ولا تفتيش، بل حتى بلا رحمة ولا شفقة؟! أين خبأوا هذا الإجرام طوال الزمان، وكيف مروا من مصفاة الإرهاب الرهيبة التي وصم بها الغرب القاصي والداني طوال عقود؟!

أفجأة هكذا نام الناس واستيقظو فكشفوا هذه الحقيقة؟!! إنها الشياطين يا صاحبي خافت هؤلاء الشرفاء على دنياها، خافت أن يخرج من يمسك يدها عن الحرام، ويمنعها أن ترتع في أرزاق الناس بلا رقيب، ويغل يدها عن سرقة لقمة الفقراء وكسوة اليتامى.

أنت بالخيار على أية حال: هي الدنيا أو الآخرة، هو الحق أو الباطل، هو القرآن أو الهوى، هو الهدى أو الضلال، هو سبيل الله أو طريق الشيطان، هو محمد أو أبو جهل.. فاختر لنفسك، واعلم أن عاقبتك أخت اختيارك..

واعلم أني حين أدعوك إلى الفرار إلى الله، والهروب من الظلم والدماء، ومن قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ومن الركون إلى الذين ظلموا، ومن معاونة أهل الباطل والظلم على ظلمهم وباطلهم، فليس ذلك لأني أخافك على الحق أن تهتك له سترا، أو تكسر له سيفا، فالحق يا صاحبي منصور بالله، عزيز به، وإنما هو أداء حقك في أن أنصح لك، وأذكّرك بالله، فإن جئت يوم القيامة تحتج علي كانت الحجة عليك لا لك، والله يهدي إلى سواء السبيل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين