اختيار الله للأمكنة والأزمنة للطاعة والعبادة -

من خصائص شهر رمضان

 

خطبة الدكتور الشيخ إبراهيم السلقيني في الجامع الكبير في حلب عن اختيار الله للأمكنة والأزمنة للطاعة والعبادة في يوم الجمعة 12/9/1429 12/9/2008.

الحمد لله، الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار، ملئ السموات وملئ الأرض حيثما توجه الإنسان وأينما استقر.

الحمد لله العلي القادر العزيز القاهر الخبير الذي لا ينسى، الحكيم الذي لا يضل.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونسترشده ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وخلفاءه الراشدين المرشدين الهادين المهديين من بعده: سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي وعلى باقي الصحابة والقرابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد أيها الأخوة الأحبة:

هؤلاء هم البشر لا يحصيهم عد منذ خلق الله سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام وإلى يوم القيامة خلقهم الله جميعا، ولكن الله تبارك وتعالى اقتضت حكمته أن يصطفي منهم العلماء العاملين المخلصين واصطفى منهم القادة المصلحين، واصطفى منهم الأنبياء والمرسلين (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات).

وهذه الأمكنة أيها الأخوة منذ خلق الله تبارك وتعالى الأرض وجعلها مقاماً ومستقراً لبني البشر، اختار منها أماكن للعبادة والتقديس، واختار فيها مهابط للوحي لتجعل أفئدة الناس تهوي إليها، وأماكن للعبادة قال تبارك وتعالى(إن أول بيت وضع للناس للذي مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم) وقال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله).

وهذه الأزمنة أيها الإخوة منذ خلق الله تبارك وتعالى الليل والنهار تتابع أياماً إثر أيام، وأعواماً إثر أعوام متناسقة متشابهة، شمس تشرق ليل يظلم، نهار يتجلى وليل يغشى؛ ولكن الله عز وجل اقتضت حكمته أن يختار منها مواسم لمضاعفة رحماته وأياماً وليالي لمضاعفة إنعامه وأفضاله (إن قرآن الفجر كان مشهودا) (والفجر وليال عشر) (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) (إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر).

أيها الأخوة الأحبة: على هذه السنة اختار الله تبارك وتعالى شهر رمضان عن بقية أشهر السنة فهو الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وهو الشهر الوحيد الذي تفضل الله به على عباده بأعظم نعمة وبأقدس نعمة وبأشرف نعمة فيه نعمة القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد هذا الكتاب الذي كان من أبرز تعاليمه أن سما بالعقل الإنساني عن ظلمة الوثنية والخرافة وعن الشرك إلى التوحيد الخالص وأصبح الإنسان لا يعرف إلا رباً واحداً إليه تعن الوجوه، وإليه تخضع القلوب (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) هذا الكتاب الذي كان من أبرز تعاليمه أن فك عن العقل الإنساني قيود التقليد الأعمى ودفعه لينطلق في هذا الكون العظيم ليستنبط ليطلع على أسرار هذا الكون، وليستق من هذه الأسرار القوانين العلمية الصحيحة التي تتماشى مع أهل الله عز وجل قال تبارك وتعالى: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)وقال عزَّ من قائل: (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون).

هذا الكتاب أيها الأخوة الذي نادى الناس أن حطموا الفوارق فيما بينكم، وأن تشعروا جميعا بأن خالقكم واحد وطينتكم واحدة، كلكم لآدم وآدم من تراب، فلا مجال للتمايز، بعرق ولا بجنس ولا بمال ولا بجاه ولا بأي نوع من أنواع التمايز وأن الله تبارك وتعالى خلقهم شعوباً وقبائل للتعارف وللتآلف وللتكافل وللتحابب لا ليتخاصم ولا للتصارع وإن أكرمهم عند الله أتقاهم هو الذي يقدم الخير للآخرين ابتغاء مرضاة الله عز وجل: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوماً عبوسا قمطريرا).

هذا الكتاب أيها الأخوة رسم للبشرية قاطبة طرق الخير والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، ودعاهم إلى اتباع هذه الطرق ونهاهم عن مخالفة هذه الطرق:( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

أيها الأخوة: إن كتاباً هذا بعض شأنه وهذه بعض أهدافه جدير بالموحدين أن يتخذوا زمن الإنعام به عيداً يذكر فيه المسلمون فضل الله تبارك وتعالى عليهم وعلى الإنسانية قاطبة وإن كان بعض الناس أن يتخذوا حادثة غيرت مجرى حياتهم وأثرت في واقعهم أن يتخذوا هذه الذكريات عيداً كلما مر عليهم زمانها أو مروا بمكانها فإن الله عز وجل قد رسم لنا تبارك وتعالى طريقة تكريم هذا الشهر وأسلوب تعظيمه وفرض على المسلمين الصيام وجعل هذه الفريضة ركناً من أركان الإسلام، وعلامة مميزة من علامات المسلمين.

والصيام أيها الأخوة: عبادة تلتقي في أهدافها مع أهداف القرآن الكريم في تطهير وتربية العقول والنفوس، وتنظيم الحياة، يوحد بين المسلمين في أوقات عملهم ،وفي أوقات فراغهم، ويوحد أيضاً في أوقات طعامهم وشرابهم ويشرب قلوبهم جميعا الإنابة إلى الله تبارك وتعالى ويطلق ألسنتهم في التسبيح والتقديس والتهليل ويطهرها عن التجريح وعن الانحراف باللسان أو السلوك أو العمل وأيضاً يفرغ في قلوبهم الصبر الذي هو عدة الإنسان في هذه الحياة ويفرغ في قلوبهم حب الخير ومد يد العون للناس جميعا وهكذا يريد الله تبارك وتعالى.

أيها الأخوة الأفاضل: هذا هو شهر الصوم وهذه هي النعمة التي تفضل الله بها على عباده في هذا الشهر المبارك شكراً لله على أن فرض علينا صيامه وشكراً لله على هذه النعمة (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطب يوما فقال: «أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، فرض الله تبارك وتعالى عليكم صيامه وسن لكم قيامه من تقرب فيه إلى الله بنافلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، و من أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر المواساة، وشهر الصبر و الصبر ثوابه الجنة، و شهر من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه و عتق رقبته من النار و كان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة – فنحن في الجزء الثاني من هذا الشهر وهو موسم المغفرة فلنتسابق في زمن الخير والعبادة والطاعة والبذل – وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ما مر على المسلمين شهر خير لهم منه وما مر على المنافقين شهر شر لهم منه.

وعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله قال: أتاكم شهر رمضان يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء فأروا الله من أنفسكم خيرا إن الله يباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا والشقي من حرم رحمة الله فيه.

وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل كان يلقاه في كل ليلة يدارسه القرآن ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين