يحبهم ويحبونه-1- البنيان المرصوص

عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه  قال : قعدنا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عملنا فأنزل الله تعالى [سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ(4) ]. {الصَّف}. إلى آخر السورة وقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فالله سبحانه يحذر المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، كأن يدعوا رغبتهم في القيام بالأعمال التي يحبها الله تعالى، فإذا عرفوا ما هي هذه الأعمال لم يقوموا بها.

ويخبر الله عباده المؤمنين المتلهفين للقيام بما يحبه الله عن محبته لعباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في خضم المعارك، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان. 

وهذه المحبة تشتمل على رضا الله تعالى هؤلاء القوم ، والثناء عليهم بما يفعلون من أفعال يحبها الله تعالى.

وهؤلاء يحبهم الله تعالى لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله وسلامة القلب من التعلق بغير الله، فكان من الذين قال فيهم : [وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ] {البقرة:165} ، وإذا كانوا أشد حبا لله كانوا أشد تمسكاً بدينه وولاء لأوليائه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {المائدة:54} ، ولعل من أول أسباب وحدة الصف: التواضع للإخوة المتواجدين فيه واللين معهم ولهم كما جاء في الحديث: "ولِينُوا بأيدي إخوانكم".

وقوله تعالى: [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ] {الصَّف:4} وإن كان بصيغة الخبر إلا أنه يفيد الأمر، فالله يأمر عباده بأن يقاتلوا عدوهم وهم متحدون كالبنيان المرصوص، لأنهم إذا كانوا كذلك زادت قوتهم المعنوية ، وتنافسوا في الإقدام والنزال ، والكرّ والفرّ ، إلى ما في ذلك من إدخال الرّوع والفزع في نفوس العدو ، إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل بالدقة والإحكام .

ولماذا خص الله محبته بمن يتصف بهذا الوصف؟

لأن تعاليم الإسلام ليست تعاليم خيالية ولا ينبغي أن تكون محصورة في عبادات فردية مفرغة من مضمونها وتأثيرها، والإسلام على الرغم من شدة عنايته بتربية الفرد المسلم إلا أنه ليس دين أفراد منعزلين ، كل واحد منهم يعبد اللّه في صومعة .. إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته ، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته، لأن الإسلام دين أمة.

فالإسلام دين للعالمين ، لا يتصور قيامه وتحقيقه في واقع الحياة إلا في محيط أمة ذات نظام، يتمثل في التربية على العمل ضمن فريق واحد (كالبنيان المرصوص) وذات هدف عام منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها. هو إقامة هذا المنهج الإلهي في حياة الفرد وفي حياة الأمة، وبذل الجهد في الدعوة إلى الله تعالى لإقامة شرع في كل أرجاء الأرض. وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع متراص البنيان يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الرباني.

وكتدريب عملي على تراص الصفوف في الجهاد كانت صلاة الجماعة تتراص فيها صفوف المصلين، وفيها من جهاد النفس على الخشوع وإخلاص الصلة بالله ما يجعل قلب المسلم بعدها معلقا بربه، ملتزما بأمره في كل شأن من شؤون حياته. 

يقول قتادة رحمه الله قتادة: "ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل يحب أن لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به".

وإذا كان القتال اليوم يقتضي توزع المجاهدين في أنحاء شتى لاختلاف أساليب القتال فهذا لا يعفيهم من القتال وهم على قلب واحد وهدف واحد وتواصل دائم، حتى يمنعوا ذوي الأهواء والشهوات والانحرافات فضلا عن العملاء عن اختراق صفوفهم وبث الشقاق فيما بينهم قال تعالى: [وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:46} .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين