الغزو الفكري

 

بقيت الأمةُ الإسلامية  قروناً ليست بالقليلة بالنسبة لتاريخ الأمم، حاملة لواءَ العز والمجد، والحضارة والثقافة النابعةِ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والروح العامةِ للتشريع الإسلامي.  وظلت هذه الأمةُ قائدة للأمم، ضاربةً أروع الأمثلة بكل خلق جمٍ وأدب رفيع، وحققت العدالة التي لم تستطع أرقى الأمم أن تحقق عشر معشارِها وهيهات … ونحن لا نقول هذا ادعاءاً فارغاً، بل هي الحقيقة التي شهد بها غيرُ المسلمين فضلا عن المسلمين، فقال الفيلسوف الفرنسي الدكتور (غوستاف لوبون) عن سبب اعتناق الشعوب النصرانية للإسلام:( إذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين، ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين ) .

 

هذا المجد العظيم الذي أرسى قواعده المسلمون، أصابه ما أصابه من الوهن والضعف لما ابتعد كثير من المسلمين عن الإسلام الصحيح، الذي هو إسلام القول والعمل، وصدق الله العظيم القائل: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) .

 

تلك سنة الله في خلقه: ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) .

 

فلا يخفض الله قوماً بعد أن رفعهم إلا بما كسبت أيديهم، ولا يغير الله ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهذا هو ما حدث بالنسبة للأمة الإسلامية . وهذا السبب من أنفسنا. وهناك أسباب خارجية عن أنفسنا، تتمثل بما خططه الأعداء لنا وما فعلوه بنا، منذ الحروب الصليبية إلى الحروب الضارية التي يشنها الغرب علينا في هذه الأيام، ولكن بأسلوب جديد.

 

اتبع أعداء الإسلام أساليب كثيرة، متمثلةً باستعمال القوة لغزو العالم الإسلامي أول الأمر. فالحروب الصليبية التي اتسمت بمنتهى القسوة وسفك دماء المسلمين، شنها الغربيون على المسلمين، واستمرت ما يقارب من 200 مائتي سنة. لكن تلك الحروب لم تفت في عضد المسلمين، وبقي المسلمون أوفياء لدينهم، يبذلون كل ما يملكون من أجل هذا الدين، الذي به وحده صاروا ( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ  ) .

 

ولما أخفقت قوة الحديد والنار التي أتبعها الغربيون في محاربة العالم الإسلامي، اتبعوا خطة جديدة للنيل من المسلمين. فهذه أوربا قامت بشن ثمان حملات صليبية على الشرق الإسلامي، لكن هذه الحملات – كلها- لم تفت في عضو المسلمين، وظل المسلمون يحققون النصر بعد النصر، ويقدمون في الوقت نفسه الشهداء بعد الشهداء. أما الصليبيون، فقد لحقتهم هزائم منكرة تركتهم يتقلبون على جمر الغضى. وفي الحملة الصليبية الثامنة كان يقودها: (القديس لويس التاسع) وكان ملكاً لفرنسا آنذاك، وقع أسيراً بأيدي المسلمين، وسجن في مدينة ( المنصورة ) في مصر . وقد خلص من الأسر بفدية. وظل طيلة مكثه في الأسر يفكر في الطريقة التي يمكن أن تحقق لهم النصر على المسلمين؛ فهداه تفكيره إلى أن قوة الحديد والنار لا تجدي مع المسلمين الذين يملكون عقيدة راسخة، تحضهم على الشجاعة والجهاد والاستشهاد في سبيل الله…

 

إذن لا بد من تغيير المنهج في محاربة المسلمين، فأوصى العالم الغربي أن يقوم بتغيير منهجه في حرب المسلمين، فدعا إلى تشكيك المسلمين بعقيدتهم وشريعتهم بكل الطرق المتيسرة لهم آنذاك. وهكذا تحول منهج العالم الغربي إلى غزو المسلمين بتشويه الإسلام في نفوسهم بدل استعمال محاربتهم بالحديد والنار.

 

وكانت هذه الوثيقة قد أخفاها العالم الغربي عن انظار المسلمين لكنها كشفت قبل سنوات ليست بالكثيرة.

 

وقد أتبع هذا النهج كثير ممن غزا بلاد المسلمين.

 

* – فهذا (نابليون) لما أحتل مصر، اصدر بياناً افتتحه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، وقال فيه: ( فليصدقنا المصريون إذا قلنا : إننا حقاً مسلمون ) .

 

وجاء في البيان :( إذا لم توافقوا على آرائي، فاسمحوا لي على الأقل أن أتوسل إليكم حامياً وصديقاً للإسلام. ولا يهمني أن تعترفوا بي مسلماً أو تنكروا وجودي بتاتاً، فشعوري نحو عبيد الله لن يتغير ) .

 

ولم يكتف (نابليون) بهذا ، بل قام بتشييد جامع كبير سمي باسمه، وكان يرتدي العمامة، ويحضر احتفالات المولد النبوي، ولكن أول عمل قام به في مصر:  هو إلغاء العمل بأحكام الشريعة الإسلامية، وإحلال القانون الفرنسي محلها .

 

* – أما الهند فظلت تحكم بالشريعة الإسلامية فترة ليست بالقصيرة من الزمن، وظلت يد السارق تقطع فيها حتى سنة 1791م. ولما احتل الإنكليز البلاد، عملوا على إلغاء العمل بأحكام الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً، حتى ما أبقوا من العمل منها إلا ما يتعلق بالزواج والطلاق وقليل غيرهما.

 

* – وقل مثل ذلك عن بلاد السودان التي ظلت تحكم بالشريعة الإسلامية، لكن الإنكليز لما قاموا باحتلالها، أبطلوا العمل بها، ووضعوا للبلاد قوانين لا تمت إلى الإسلام بصلة: كقانون العقوبات رقم 11 لسنة 1899م الذي اخذ من قانون العقوبات الإنكليزي الذي وضعه الإنكليز للهند سنة 1860. ولابد لنا أن نشير هنا إلى أن التحديات التـي واجهت المسلمين قديما استطاع المسلمون أن يتغلبوا عليها من غير أن تؤثر بهم تأثيراً كبيراً، أما التحديات في القرن التاسع عشر والى منتصف القرن العشـرين، فقد أثرت هذه التحديات في كثير من مجالات حياة المسلمين. والسبب في ذلك : جهل المسلمين بحقيقة الإسلام أولاً، والتخطيط المنظم الذي أعده العالم الغربي للنيل من هذا الدين بعد ذلك؛ فإن الأهداف التي وضعها الغربيون للنيل من الإسلام كانت أهدافاً على المدى البعيد؛ ليتم إبعاد المسلم عن دينه بأسلوب هادئ لا إثارة فيه. وقد حرص هؤلاء على أن يكون هدم مقومات الأمة المسلمة بأيدي أبناء من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وكذلك كان.

 

التربية والتعليم

 

يستطيع الدارس لأساليب الغزو الفكري أن يقول: ان من أقوى الوسائل في نجاح المستعمرين بغزوهم الفكري. التربية والتعليم، إذ بوساطتهما تم الاتصال بالمسلمين اتصالاً مباشراً. وقد قال القس زويمر:  ( المدارس أحسن ما يعوّل عليه المبشرون في التشكيك بالإسلام ) ، لذلك قام المستعمرون يوم وطئت أقدامهم أراضي المسلمين بفتح المدارس، وكانوا يغدقون العطايا على من يقوم بها، وقد قال القائد الفرنسي (بيير كيللر)، عن المعاهد الفرنسية في لبنان: ) فالتربية الوطنية كانت بكاملها – تقريباً – في أيدينا وفي بداية عام 1914-1918 كان اكثر من 52000 اثنين وخمسين ألف تلميذ يتلقون دروسهم في مدارسنا، وكان من هؤلاء: فتيان وفتيات ينتمون إلى عائلات إسلامية عريقة ) .

 

إن مناهج المدارس الوطنية في عهد الاحتلال كانت تؤكد في مجال التاريخ مثلاً على تاريخ نابليون وفرنسا وإنكلترا، أما التاريخ الإسلامي الناصع فقد أهمل إهمالاً متعمداً. فإذا سألت طالباً من الطلاب الدارسين في هذه المدارس عن (ميرابو) أو (نابليون) أو(لويس الرابع عشر) أجابك على الفور بما تعلمه من هذه المدارس، أما إذا سألته عن عظماء أمته من القادة وغيرهم، فلم يعرف عنهم أي شيء كان.

 

وليس هذا الذي وقع وحده، بل دُست السموم المتعمدة في مناهج هذه المدارس، وقد تجد فيها السموم المبطنة في تاريخه ولغته. لذلك قال المستشرق هاملتون جب) : لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين – ولو من غير وعي منهم – أثراً يجعلهم في مظهرهم العام (لا دينيين) إلى حد بعيد، ولا ريب أن ذلك هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار).

 

المدارس التبشيرية :

 

وهناك المدارس التي قامت بفتحها الإرساليات التبشيرية: فقد كانت غير خاضعة لرقابة الدولة، فكانت مناهج مليئة بتمجيد المستعمرين والثناء عليهم، والشبهات الكاذبة عن الإسلام والمسلمين. وعلى سبيل المثال: الكتاب الذي كان يدرس في المدارس الابتدائية تحت عنوان (تاريخ فرنسا) بمدرسة (القديس يوسف للبنات) في بيروت، وفي مدارس إرسالياتها، فقد جاء في هذا الكتاب: ( إن محمداً- مؤسس دين المسلمين – قد أمرَ أتباعه أن يخضعوا العالم، وأن يبدلوا جميع الأديان بدينه هو. ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيين وبين النصارى: إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة، وقالوا للناس: أسلموا أو تموتوا، بينما إتباع المسيح قد كسبوا النفوس ببرهم وإحسانهم! ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنا نحن اليوم مسلمين كالجزائريين والمراكشيين).

 

كيف كانت تدرس التربية الإسلامية :

 

لم يقف الاستعمار معادياً لأحد كما وقف من الإسلام؛ لأنه كان يعلم أن هذا الدين يحض على طرد المستعمرين من البلاد، وقد تيقن أن الثورات التي قامت عليهم كان يقودها العلماء، ويضحي من أجلها شباب ربتهم المحاريب، وصقل نفوسهم قيام الليل والناس نيام؛ لذلك جعل المستعمرون مناهج التربية الإسلامية التي كانت تسمى مادة (الدين) تصاغ وفق مناهج الفكر الغربي، فكان الطلاب يدرسون مادة (الدين) على أنه منهاج روحي فقط ليست له أية صلة أو علاقة بواقع الناس، فكانت هذه المناهج تذكر نتفاً من القضايا الخلقية، ولم تعط أي اهتمام كان للقضايا الإسلامية الأخرى: من اجتماعية وسياسية واقتصادية وتشريعية … فقد نظروا إلى الإسلام نظرتهم إلى النصرانية سواء بسواء. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت سيرته تدرس كما تدرس سيرة قادة الأوربيين سواء بسواء، من غير أن يهتموا بقضية نبوته الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت سيرته تدرس كما تدرس سيرة (نابليون) و(بسمارك) وسواهما من قادة الغرب على انه إنسان عبقري، استطاع أن يجمع الأمة العربية ويوحد بينها.

 

وفوق ذلك، فقد كان درس الدين لا أهمية له، فهو في مستوى الرسم أو الرياضة آنذاك.

 

وقد صار درس الدين – يعطى في الغالب – لمن يريد أن يرتاح من المدرسين لكسله، أو لتهربه من الواجب، أو لكبر سنه… ويعطى لمن يكمل نصابه من الحصص بغض النظر عن صلاحيته لتدريس هذا الدرس الجليل أو عدم صلاحيته … وكان درس الدين يعطى حتى لمن لا يؤمن بالدين أصلاً، أو لمن لا يؤدي الفرائض، وقد يعرف عنه ارتكاب قسم من الكبائر. كما أن درس الدين كان يعطى لمعاون مدير المدرسة، لأن عمله في الإدارة قد يقتضيه أن يتغيب عن الدرس، ولا حرج عن التغيب عن الدرس إن كان درس دين ، ولا يهم مقدار ما ينهي من منهج الدين قلَّ أو كثر. وقد أصبحت حصة (مادة الدين) مستباحة لكل مدرس مادة لم ينه منهجه، أو تأخر مع تلاميذه؛ فإنه يسرع فيحول درس الدين إلى المادة التي يدرسها.

 

وظل درس الدين يدرس هكذا حتى بعد أن طُرِدَ المستعمرون من البلاد بفترة ليست بالقصيرة.

 

المستشرقون :

 

المستشرقون: هم الغربيون الذين يكتبون في الإسلام. وكثير منهم من موظفي الدوائر الاستعمارية، أو رجال الكهنوت، أو من موظفي المؤسسات الصهيونية ، ولم يكن عمل المستشرقين منفصلاً عن عمل المبشرين، بل كانت مهمة كل من الطائفتين تدخل في الأخرى .

 

وقد قاموا بتشويه صورة الإسلام بما وضعوه من شبهات كثيرة عن العقيدة والشريعة الإسلامية، واتهموا الرسول الله صلى الله عليه وسلم باتهامات كاذبة، ودعوا إلى إحياء الحضارات التي وجدت قبل الإسلام:  كالفرعونية في مصر، والآشورية في العراق، والفينيقية في سوريا ولبنان، واهتموا بإحياء عدد من الأساطير وخرافات قدماء الكلدانيين والعبرانيين واليونان والهنود والمصريين، وأولوا اهتماماً كثيراً برموز هؤلاء مثل: (الثور المجنح)، و(الثور يحمل فوق قرنية الشمس)، و(الخنفساء الذهبية)، و(أبي الهول) و(الحية) و(السمكة) و(الأهرام) و(الدوائر) و(المثلثات) و(المربعات)، والأعداد كالعدد 7؛ لأن هذه الرموز والدعوات تقلل في نظر المستشرقين من أهمية الإسلام.

 

ولقد كان اهتمامهم كبيراً بالشخصيات المارقة عن الإسلام: كالراوندي والحلاج وأبن سبعين … في الوقت الذي هاجموا الشخصيات الإسلامية العظيمة : كأبي حامد الغزالي، وأبن تيمية، وأبن خلدون …

 

وتهتم الحركات الإستشراقية بالقضايا الخلافية التي وقعت بين المسلمين، وبالطوائف الخارجة عن الإسلام: كالزنج، والقرامطة، والمجوسية…

 

وقد قام المستشرقون بنشر سموم كثيرة، منها اهتمامهم بالعقائد الوثنية، والحياة الجاهلية، خالعة عليها نعوت المدح والثناء، واصفة المجتمع الجاهلي بالقوة والغنى، وأنه كان على جانب كبير من العلم والحضارة. ويسمي المستشرق (هاملتون جب) العصر الجاهلي باسم (العصر البطولي)، ويرفض كثير من المستشرقين إطلاق أسم (العصر الجاهلي) على عصر ما قبل الإسلام، ويصفونه بالاستنارة والحضارة، ويسمون العصر الإسلامي باسم (عصر التوسع)؛ ليوحوا إلى الناس أن الإسلام إن هو إلا امتداد للعصر الجاهلي، وأنه لم يقم إلا بتغيير طفيف.

 

وتبدو خطورة المستشرقين في حرصهم على كسب الأنصار لترديد مفترياتهم على الإسلام.  وقد كان (طه حسين) من أكثر الناس إعجاباً بالمستشرقين. وكثيراً ما كان يردد: إن هذه الحقيقة وتلك في تاريخ المسلمين أو فكرهم مما لا يرضى به الاستشراق. فلا نعجب حينما قال بعضهم: إن طه حسين ليس إلا مستشرقاً من أصل عربي. وقد كان مخلصاً بحق لآراء المـستشرقين ومتابـعاً لهم ولما يقولون: كإنكاره لشخصية عبد الله بن سبأ الملقب بـ(أبن السوداء)، كما شك بوجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، على الرغم من وجودهما في القرآن الكريم.

 

وهناك أشباه ل طه حسين في تبعيتهم للمستشرقين مثل: (سلامة موسى)، و(حسين فوزي)، و(زكي نجيب محمود)، و(محمود عزمي)، و(على عبد الرازق ) .

 

التعليم الجامعي :

 

أهتم المستعمرون الذين سيطروا على بلاد المسلمين بمناهج الجامعات وأنظمتها: فقد صاغوها صياغة تجعل ولاء المتخرج منها إلى الغرب والحياة الغربية، ويكون في الوقت نفسه جاهلاً كل الجهالة بالإسلام قال الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر رحمه الله: ( إن الأمر قد وصل بالاستعمار أن صاغ خريجي كليات الحقوق بحيث لا يفهمون بعد (الليسانس) كتاباً عربياً في المواد التشريعية. وليس الأمر بغريب … إن جدول التدريس في كليات الحقوق يخصص عشرين محاضرة في الأسبوع للقوانين الأوربية، ومحاضرتين فقط للشريعة الإسلامية ).

 

ولم يكتف المستعمرون بهذا، بل قاموا بفتح جامعات؛ ليكون توجيههم للشباب الإسلامي توجيهاً مباشراً: كالجامعات الأمريكية والفرنسية التي كانت تعمل عملها في (بيروت) و(القاهرة) وغيرهما. ويتخرج الطالب من هذه الجامعات وهو معجب بالغرب وحضارته. واستطاعت هذه الجامعات أن تكسب إلى صفوفها كثيراً من شباب المسلمين، وبخاصة بعد أن جعلت الوظائف منحصرة في خريجي الجامعات السائرة في ركاب الغرب، وأغدقت عليهم المرتبات الوفيرة، في الوقت الذي ضيقت على خريجي الجامعات الإسلامية الخناق من الناحية المادية، حتى صارت الأمثال تضرب بفقرهم المدقع وعوزهم البائس.

 

وعملت هذه الجامعات بتشكيك الطلاب بالإسلام - ولو لم تصطدم بهذا الدين مباشرةً- وذلك بترويج دراسات المستشرقين في القرآن والوحي والرسول والعقيدة والشريعة. ومما يدل على هذا أن الجامعة الأمريكية في بيروت صارت تدرس طلابها بالإنكليزية، وكان التعليم في جامعة الجزائر بالفرنسية. وهكذا الأمر في معهد الدراسات العليا في تونس.

 

ويعرب (ماسينيون) عن مهمة جامعات فرنسا بالنسبة إلى الطلاب المسلمين فيقول:  )إن هؤلاء الطلاب المسلمين الذين يصلون إلى فرنسا، يجب أن يصاغوا صياغة غربية خالصة، حتى يكونوا أعواناً لنا في بلادهم ).

 

أما الجامعات الغربية في بلاد الغرب، فما كانت تقبل من الطلاب – في الغالب- إلا الذين يدرسون العلوم النظرية والفلسفات واللغات، ولا تقبل من الطلاب الذين يريدون دراسة العلوم التجريبية إلا القليل.

 

الحركات التبشيرية :

 

الحركات التبشيرية التي زاولت أعمالها في تشكيك المسلمين بدينهم – ولا تزال تزاولها كذلك – كثيرة كثيرة . وتملك هذه الحركات إمكانيات كثيرة، وميزانيات ضخمة، وأعداداً كبيرة من حملة الشهادات العالية من المتخصصين بعمليات التبشير. واتخذت هذه الحركات في بلاد المسلمين أساليب عديدة، منها:

 

1.المدارس التي قاموا بفتحها في أرجاء العالم الإسلامي، وباشرت مهمتها، واستطاعت أن تؤثر بالطفولة البريئة والشبيبة الغضة من أبناء المسلمين. وإذا كانت هذه المدارس لم تستطع أن تحول المسلم إلى النصراني، إلا أنها تمكنت من بذر عقائد الشك في نفوس الطلاب. ومن آثار تلك المدارس التي لا تزال قائمة (الجامعة الأمريكية) في مصر، و(الجامعة الأمريكية) في بيروت. ويلحق بهذه الوسيلة: علمانية التعليم وهو ما فعلته (إنكلترا) في العراق، والأردن، والهند…

 

2.البعثات إلى الدول الغربية. وقد تأثر كثير من المبعوثين إلى هذه الدول؛ فعادوا يحملون الفكر الغربي والأخلاق الغربية.

 

3.وسائل التبشير الأخرى مثل فتح المستشفيات، وبعثات الإرساليات الطبية.

 

4.المحاضرات والندوات والكتب والمجلات، والصحف، والنشرات…

 

المؤتمرات التبشيرية :

 

مؤتمرات التبشير التي عقدت كثيرة، منها :

 

‌أ.مؤتمر القاهرة سنة 1906.

 

‌ب.مؤتمر ادنبرج سنة 1910.

 

‌ج.مؤتمر لكنؤ سنة 1911.

 

‌د.مؤتمر القدس سنة 1924.

 

‌ه.مؤتمر القدس سنة 1935.

 

و.مؤتمر القدس سنة 1961.

 

ونشير هنا إلى أن هذه المؤتمرات لم يصلنا منها إلا القليل.

 

أترك هذه الآن لأتحدث إليكم في مؤتمر عقد سنة 1978 تحت عنوان: (التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي) وقد عقد في مدينة (جلين آيري) بولاية كولورادو في أمريكا، ونشرته دار MARC للنشر بعنوان The Gospel and Islam وكان من أهداف هذا المؤتمر : تنصير الـ 720 مليون مسلم (حسب إحصائيات سنة1978)، وبث روح التفاؤل لتجميع طاقاتهم، لعلهم يصلون إلى هذا الهدف. وقد قـُدِّمَ في هذا المؤتمر أربعون بحثاً من البحوث التي صاغها كبار أساتذة ودهاقنة الحركات التنصيرية في العالم، ممن يحملون شهادات عليا في مجال التنصير في العالم الإسلامي. وأشترك في هذا المؤتمر 150 شخصاً مفكراً نصرانياً. ولا يتسع المجال للحديث عن هذا المؤتمرة لأن بحوثه واسعة، وقد طبعت في كتاب كبير بلغ عدد صفحاته 915 فماذا أتحدث عن هذا المؤتمر الذي صيغ كل بحث من بحوثه صياغة دقيقة، مع وضع المقترحات لتنصير العالم الإسلامي ؟ لا أستطيع أن أتحدث في هذه العجالة إلا برؤوس نقاط فقط، وسأكتفي بذكر قسم من عناوين تلك البحوث.

 

جاء في تصدير الكتاب الذي نتحدث فيه ما يأتي: ) العالم الإسلامي يمر اليوم بحالة من التمزق الاجتماعي والسياسي … وتوجد هناك بعض الشعوب الإسلامية التي يصعب الوصول إليها؛ ولذلك يجب على الكنيسة أن تبتعد عن الأساليب غير المثمرة، وتسلك طرقاً ثقافية، من أجل تقديم عيسى المسيح بكل إخلاص وقوة إلى المسلمين …) .

 

وإليك – أخي القارئ – قسماً من عناوين تلك البحوث:

 

(حان الوقت المناسب لمنطلقات جديدة) كتـب هذا البـحث (دون ماكري) وبدأ بحثـه بقوله: )بلغت الصحوة الإسلامية التي تجيش في أعماقها 720 مليون مسلم شأوا لم تبلغه لعدة قرون ) .

 

وتحدث في النزاع العربي الإسرائيلي، والنفط في البلدان الإسلامية الذي يشكل شريان الحياة الصناعية في الغرب هو اليوم أساس الاقتصاد العالمي، وإن المسلمين لا يلعبون دوراً أساساً في مشكلاتهم وحدها، بل اهتمامهم صـار في القضايا الرئيسية في العالم كله … إلى آخر ما قال.

 

ومن بحوث المؤتمر: (المسلم المتنصر وثقافته) تحدث فيه عن الحواجز أمام عملية تنصير المسلمين:

 

× كنائس ملائمة للمتنصرين الجدد في المجتمع الإسلامي.

 

× صراع القوى في عملية تنصير المسلمين.

 

× منطلقات لاهوتية جديدة في عملية تنصير المسلمين.

 

× تحليل المقاومة والاستجابة لدى الشعوب المسلمة.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في الغرب.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في شمال أفريقيا.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في الشرق الأوسط.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في تركيا.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في إيران.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في شبه القارة الهندية.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في جنوب شرقي آسيا.

 

× مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في روسيا والصين.

 

× الوضع الحالي لمطبوعات ووسائل الإعلام الموجهة للمسلمين.

 

× الإرسال الإذاعي الحالي الموجه للمسلمين.

 

× مراجع مختارة للمتنصرين العاملين بين المسلمين.

 

× تطوير وسائل جديدة لتساعد في تنصير المسلمين.

 

× المداخل النصرانية للمرأة المسلمة وأسرتها.

 

إلى آخر هذه البحوث.

 

ولا يظن أحد أن هذه البحوث كتبها أصحابها كيفما أتفق، بل كانت بحوثاً دقيقة، عرفوا مكامن القوة والضعف في المسلمين فأشاروا إليها إشارات واضحة.

 

وبعد:

 

هكذا يخطط الأعداء في الظلام لهذه الأمة، ويعملون من أجل سلب المسلمين أعز ما يملكون وهو: هذا الدين. وهؤلاء الذين يقومون بالأعمال التنصيرية يملكون طاقات هائلة من العاملين في مجال التنصير، ودعماً مالياً واسعاً.

 

وأعود إلى المسلمين في هذا العصر، فيروعني ما أجده فيهم من اختلاف وتنازع وشقاق في قضايا ليست من أصول الإسلام في شيء، غير ملتفتين إلى ما خطط لهم الأعداء؛ ليقوموا بوأد الصحوة الإسلامية التي أخذت طريقها الآن في عقول الناس وقلوبهم.

فليتق الله أولئك الذين لا هَمَّ لهم غير إثارة القضايا الخلافية أياً كان مشربه، ولينظروا إلى ما بيّـته لنا الغرب الحاقد، وأنتم تستمعون الأخبار كل يوم، وتعلمون أن المؤامرة كبيرة وخطيرة على هذا الدين.

فهل نرتفع إلى مستوى الأحداث، ونكون يداً واحدة على الأعداء؟

ذلك ما نرجوه ونؤمله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين