الوثيقة الضائعة - أبوالحسن بنان بن محمد الزاهد
الوثيقة الضائعة
أبو الحسن بنان بن محمد الزاهد
من أخبار الصالحين ـ1ـ
قال أبوعلي الرُّوْذباري البغدادي: كنت ذات يوم عند شيخنا الجنيد في بغداد ، فجاءه كتابٌ من يوسف بن الحسن يقول فيه: لا أذاقك الله طَعْمَ نفسِك ، فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيراً أبداً!.
قال أبو علي : فجعلت أفكر في طعم النفسِ ما هو؟ وجاءني مالم أرضه من الرأي، حتى سمعت بخبر بُنانٍ ـ رحمه الله تعالى ـ مع أحمد بن طولون أمير مصر، فهو الذي كان سبب قدومي إلى هنا، لأرى الشيخ وأصحبه وأنتفع به.
فقدِمتُ إلى مصر ، فلما لقيتُ الشيخ لقيتُ رجلاً من تلاميذ شيخنا الجنيد، يتلألأ فيه نوره، ويعمل فيه سرُّه، وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه.
قال : وهمَمْتُ مرةً أن أسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون فقطعتني هيبته، فقلت ـ في نفسي ـ : أحتالُ بسؤاله عن كلمة يوسف بن الحسن : « لا أذاقك الله طعم نفسك...».
وبينما أهيئ في نفسي كلاماً أجري فيه هذه العبارة ، جاء رجل فقال للشيخ : لي على فلانٍ مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة التي كُتِبَ فيها الدين، وأخشى أن ينكر إذا هو علم بضياعها فادع الله لي وله: أن يظفرني بدَيْني وأن يثبته على الحق.
فقال له الشيخ: إني رجلٌ قد كبرت، وأنا أحب الحلوى، فاذهب فاشتر رطلاً منها وائتني به ، حتى أدعو لك! .
فذهب الرجل، فاشترى الحلوى، ووضعها له البائع في ورقة ، فإذا هي «الوثيقة الضائعة»!. وجاء إلى الشيخ فأخبره ، فقال له الشيخ: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك، لا أذاقنا الله طعم أنفسنا فيما نشتهي!.
من خاف الله خافه كلُّ شيء
من أخبار الصالحين ـ2ـ
قال أبو علي الرُّوذباري : فلم تَبْقَ حاجةٌ إلى سؤال الشيخ عن خبره مع ابن طولون، بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفر الدينوري فقال لي:
لعلك اشتَفَيْتَ من خبر بُنان مع ابن طولون؟ فمن أجله زعمتَ جئتَ إلى مصر.
قلت: إنه تواضع فلم يخبرني ، وهبته فلم أسأله.
 قال : تعال أحدِّثْك الحديثَ.
كان أحمد بن طولون رجلاً طائش السيف ـ أي: يضرب من غير تعقُّل ـ، يجور ويعسف ـ أي:يأخذ بقوة ـ، وقد أحصي من قتلهم صبراً ـ أميسكهم ورماهم بشيء حتى ماتوا ـ ، أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفاً!.
ولما ذهب شيخك أبو الحسن بُنان يُعنِّفُه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ، طاش عقله، فأمر بإلقائه إلى الأسد، وهو الخبر الذي طار في الدنيا حتى بلغك في بغداد.
وقد كنت حاضر أمرهم ذلك اليوم ، فجيء بالأسد من قصر خُماروية بن أحمد بن طولون، وكان خُماروية هذا شغوفاً بالصيد ، لا يكاد يسمع بسبع في غيضة ـ أي: كل مكان يكثر فيه الشجر ـ، أو بطن وادٍ إلا قصده، ومعه رجالٌ عليهم لبود ـ وهو اللبادة المعروفة لحفظ أنفسهم من مخالب الأسد حين اصطياده ـ فيدخلون إلى الأسد ، ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة ـ أي : قهراً ـ، وهو سليم! فيضعونه في قفص خشبي يسع السَّبُع وهو قائم.
وكان الأسد الذي اختاروه للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيماً ضارياً ـ أي: مفترساً ـ، عارم الوحشية، متزيِّل العضل ـ أي: عضلاته بارزة متميزة، لامتلائها وانتفاخها ـ، هراساً فراساً ـ أي: مفترساً ـ، أهرت الشدق ـ أي : واسع الشدق ـ، يلوح شِدْقه من سَعَته، وروعته كفتحة القبر، ينبئُ أن جوفه مقبرة!
وأجلسوا الشيخ في قاعة ، وأشرفوا عليه ينظرون ، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه ، فجذبوه فارتفع ، وهجهجوا بالأسد ـ صاحوا به ـ يزجرونه، فانطلق يزمجر ويزأر زئيراً تنشق له المرائر، ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة!.
ثم اجتمع الوحش في نفسه واقشعرَّ ، ثم تمطَّى ـ أي : تمدَّد ـ ، كالمنجنيق يقذف الصخرة، فما بقي من أجل الشيخ إلا طَرْفةُ عين ، ورأيناه ـ أي : الشيخ ـ على ذلك ساكناً مُطرقاً لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به ـ أي: لا يهتمُّ به ـ ، وما منا إلا من كاد ينهتك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل.
ولم يَرُعنا ـ يلفت انتباهنا ـ إلا ذهول الأسد عن وحشيته فأقعى ـ أي : جلس ـ  على ذنبه، ثم لصق بالأرض هُنيهة ـ زمناً يسيراً ـ ، يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقاً ثقيل الخطو، تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ـ ينظر إليه بطرف عينه ـويشمه، كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة ـ أي: مواثبة الخصم على خصمه ـ بين الرجل التقيِّ والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله!.
رأى الأسد رجلاً هو خوفُ الله، فخاف منه! وكما خرج الشيخ من ذاته، ومعانيها الناقصة، خرج الوحشُ من ذاته ومعانيها الوحشية، فليس في الرجل خوفٌ ولا همٌّ ولا جزع، ولا تعلُّقٌ برغبة، ومن ذلك ، ليس في الأسد فتكٌ ولا ضراوةٌ ولا جوع، ولا تعلُّق برغبة.
قال الدينوري: وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ، فإذا هو ساهم ـ أي: عابس ـ مفكر ، ثم رفعوه ، وجعل كلٌّ منا يظن ظناً في تفكيره.
فمن قائل : إنه الخوف أذهله عن نفسه.
وقائل: إنه الانصراف بعقله إلى الموت.
وثالث يقول: إنه سكون الفكرة يمنع الحركة عن الجسم فلا يضطرب.
وزعم جماعة أن هذه حالةٌ من الاستغراق يُسْحَرُ بها الأسد!
وأكثرنا من ذلك وتجارينا فيه أي: أخذنا نتحادث ، وكلٌّ منا يقول قولاً ـ حتى سأله ابن طولون: ما الذي كان في قلبك ، وفيم كنت تفكر؟
فقال الشيخ: لم يكن عليَّ بأسٌ، وإنما كنتُ أفكر في لُعاب الأسد: أهو طاهر أم نجس!!.
من وحي القلم للرافعي 3:50ـ58 وأصل القصتين في الحلية 10/324، وتاريخ بغداد 7/101ـ102
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين