عطاش أمام النبع الزلال - رمضان النبع الذي يسقي العطاش

رمضان النبع الذي يسقي العطاش

 

 

عندما يكون الإنسان أمام نبع فوَّار يتفجَّر ماءً عذباً فراتاً، ويتدفق قوياً ليغدو نهراً عظيماً يسقي ما حوله من بقاع ، فإذا هي بساتين غنَّاء ، وحدائق ذات بهجة، وجنات معروشات وغير معروشات، فيها من نضير الأشجار وأطايب الثمار، وكان هذا الإنسان الواقف أمام النبع قد آذاه لفح الحر، وأثقله الدرن المتراكم ، وفوق هذا فهو يلهث من العطش، لكن هذا الإنسان لم يسع إلى إطفاء الحر بالمغتسل البارد، ولم يتحرك لإزالة الدرن المتراكم على جسمه بالماء النقاء المنساب أمامه ، ولا شرب ليروي ظمأه ويطفئ غلته، بل وقف ساكناً بلا حراك معرضاً عن العذب الزلال المنساب أمامه، راضياً بلسعة الحر، ولهيب العطش، وبشاعة الدرن.

فماذا يقال عن مثل هذا الإنسان؟ ألا ترى معي أنه أحمق؟ لجنايته على نفسه وإعراضه عما ينفعها! وهو في متناول يده مع مسيس الحاجة إليه!.

ومن ذا الذي يستغني عن السُّقيا، ومن منا لم يعلق به الدرن الذي يجب إزالته ليشعر المرء بعده بالراحة والسعادة؟!.

وشبيه بهذا الصنيع صنيع إنسان يريد الوصول إلى هدف، وهو يرى أمامه الأبواب مفتحة والسبل أمامه ممهدة، وكل الذي يريده ويرجوه سهل التناول قريب المجتنى، ويرى السالكين قد ملؤوا الطرق وسدوا كل أفق، وهو قاعد قعود العاجزين ، لا يأخذ بسبب ينفعه، ولا يتدبر أمره مع المتدبرين، ولا يسلك الطريق الموصل إلى الهدف!.

تخيل معي أيها الأخ الكريم إنساناً يشهد سوقاً فيها أنفس السلع وأغلاها وقد عرضت بأثمان قليلة جداً، فيخرج من السوق خالي الوفاض صفر اليدين ، لم يشتر شيئاً من هذه السلع النفيسة.

أيها الأخوة الأحبة: إن شهر رمضان هو النبع الذي يروي العطاش، إن شهر رمضان سوق للرحمة والمغفرة والعتق من النار. وإن سبل ذلك كثيرة وأبواب السوق واسعة مفتوحة لا يُصدّ عنها من أراد الولوج ، فكيف يمضي شهر رمضان وينقضي من غير أن ينال المسلم المغفرة على الرغم من سهولة الحصول على هذه السلعة الثمينة والمطلب الغالي.

فلا عجب بعد هذا أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يدرك رمضان فلا يغفر له ، كما جاء في جزء من حديث شريف عنه صلى الله عليه وسلم :« بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، إن لم يُغفر له فمتى؟».

إن المغفرة نقاء معنوي، وطهارة روحية، يُغسل فيها القلب من آثار الذنوب، وأوضار الخطايا، من نهر هذا الشهر المتدفق بالماء العذب النمير ، كما أن المغفرة ريٌّ للنفوس العطشى إلى الرحمة، الظمأى إلى الرضوان. ولكأني بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بهذا الجزء من الحديث الذي مر إلى أنه لا يتخيل مسلماً يدرك شهر رمضان ثم لا يخرج منه بالمغفرة ، ولا يحظى فيه بالعفو مع كثرة الفرص المتاحة، وسهولة التحصيل، وتعدد الأبواب وكثرة السبل.

ففي هذا الشهر الكريم يحثو الله تعالى المغفرة على عباده الصائمين حثواً ، فيخرجون من هذا الشهر أنقياء من الأدران، متبردين من حر الذنوب، مرتوين من شراب المحبة والأنس.

فأين من يُقبل على الله عزَّ وجل ، وقد مدَّ الكفين مهيض الجناح باكي العينين، وقد وجّه مرآة قلبه لاستقبال البشائر والإشارات وتلقي الأنوار والتجليات.

ما أحلاك يا شهر الصيام! وما أعذب لياليك ، إنها ليالي الدنو والقرب ، ليالي الاتصال والوصال ، ليالي العابدين الوالهين الذين انجذبت قلوبهم إلى رب السموات والأرضين ، فربحوا خير الدنيا والآخرة، ويا خسارة من يجهل ذلك ولا يعرفه ولا يتذوقه.

أيها الأخوة: لا زال في الوقت متسع للتدارك فيما بقي من الشهر، ثم إن باب التوبة مفتوح في شهر رمضان وفي غيره فهيا إلى رب كريم يعطي الكثير على القليل ويغفر الذنب العظيم.

نسأله تعالى أن يعيده علينا وعليكم وعلى الأمة الإسلامية بالخير والنصر والبركات وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين