لا تنسوا رمضان -

 

رصيد الخير في الناس

 

لم أفهم رمضان في بعض جوانبه إلا منذ أيام قليلة وقبل أن يبدأ، فقد قابلت ناساً كثراً سألتهم عن الله! فقالوا إنهم لايدرون! هل هناك رب لهذا الكون أم أنه فلتة وطفرة وصدفة! فهم لا يجحدون بزعمهم، ولكنهم ليسوا بمؤمنين، بل غافلون جاهلون ..

قالوا إنهم لا يحتاجون إلى الله! لأن عندهم كل شيء! فأدركت معنى العقوبة في حال من عصى ثم استحى، فقال : إلهي كم ذا أعصيك ولم تعاقبني! فنودي: ياعبدي: كم ذا أعاقبك ولا تدري! ألم أسلبك حلاوة مناجاتي! كم ذا نعاقب ولا ندري وقد سلبت من القلوب حلاوة الطاعات ولذة القرب ونعيم الرضى والقبول.

المحنة قاسية، ولكنها مرقاة للإيمان! والصوم صعب، ولكنه مولد عظيم لكوامن الخير في النفس، والمجاهدة للنفس ليست سهلة، ولكنها تعيد الإنسان مخلوقاً مكرماً يليق الاستخلاف به.

علمتني الحياة أننا كثيراً مانُفتن بما عند الآخرين، ونزهد بما لدينا، والخير المركوز في أعماقنا نبدد منه الكثير بغفلتنا! وقال لي ابن أحد إخواننا وقد جاء من بلد بعيد: غريب! كيف تجد في مائتي متر من الطريق خمسين شخصاً تلقي عليهم السلام، ونقطع في بلادنا آلاف الأميال فلا تجد أحداً يلقاك ويسلم عليك.

وقدمت بالطائرة إلى الشام فإذا ببعض الناس تنشأ بينهم الصحبة في الطائرة، وقبل الهبوط كان كل منهم يستحلف الآخرين أن ينزلوا إلى البلد معه، وأن يقيموا الليلة في منزله إن كان يشق عليهم الوصول إلى منازلهم.

وحدثني العشرات وربما المئات من طلاب العلم أنهم لم يجدوا رعاية من أحد لطالب العلم والغريب مثلما يحصل له في بلاد الشام .. حتى أن العائلة الفقيرة إذا ساكنها في البناء طالب حاله رقيقة، فإنه لا يكاد يمر يوم إلا ويغرفون له من طعامهم، وتعرض عليه الأم أن تغسل ثيابه وترفو له ما انفتق منها.

وهناك ألوف مؤلفة من البشر لا يكاد يحنو عليهم أحد ، فتجد أهل الخير يسدون ما تكاد تعجز الحكومات عنه، من البذل بالمال والإطعام والتموين والثياب وقضاء الحوائج تطوعاً وقربى إلى الله لاينتظرون جزاءً ولا شكوراً. بل إن لأهل الخير من الكلام الطيب والرفيق ما لاتجده عند أحد ، مما يكاد يحصل به شفاء القلب من السقم لما فيه من حنو ورأفة وجبر للخواطر وإيناس للقلوب.

حتى وجوه الناس فيها من الإشراق وطيب اللقاء ما لايعرف عند أمم كثيرة، ولو جالست أهل الخير ساعة لرأيت في وجوههم وسمعت من كلامهم ما تطرب معه لا الآذان بل القلوب والأرواح.

أما اجتماع الناس على بر أرحامهم ففيه رغم كل التقصير خير عميم، ولو استثنيت جفاة القلوب وبعض المقصّرين لرأيت أن الناس تتفنن في التواصل وأقله السلام بالهاتف والمباركة بالشهر الفضيل والدعاء للأمة بالخير والسعادة والتمكين، وقد دهشت يومأ لفتاة في بلاد لا تعرف الله وهي تسكن على مقربة من أمها ولا تزورها إلا كل بضعة أشهر! والعذر أنها لا تجد ما تتحدث به معها فهي تجمع الكلام بعضه فوق بعض حتى إذا كثر زارت أمها فتحدثت به وأفضت به إليها!  

رغم كثرة العلل فإن في الشام رصيد للخير عظيم، و الحق الصراح أن كل بلاد المسلمين فيها من المكارم والأخلاق والمروءة والغيرة على الحرمات وعشق الفضائل والبذل والعون والنجدة ما لا يكاد يعده العاد ، ولكن لكل بلد طريقته وتفننه في العطاء ، وكل ذلك نعم لا ينبغي أن تهدر أو يقارن أسوأ ما فينا مع أفضل ما لدى الآخرين، كما أنه من الإجحاف أن نجعل أسوأ ما عندنا مقارناً مع أفضل ما عندهم ، بل عدم بخس الناس حقوقهم يقتضي أن نقارن أفضل ما عندنا بأفضل ما عندهم، وأسوأ ما عندنا بأسوأ ما عندهم ، وعندها تبين الفضائل وتبرز المكرمات، ولولا آفة الاستبداد السياسي في بلاد المسلمين لكان بالإمكان سبقهم في أكثر فضائلهم، ولكن لعنة الاستبداد محقت الخير محقاً، وجعلت خير الأمم مثل قطيع الماشية نهبة لكل مرض فاتسع الرتق واستعصى العلاج.

 شبكة الخير الباقية فينا والمحيية لكثير من إيمانياتنا بل إنسانيتنا صنعتها أنات المحاريب وساحات العبادات وهدير الصلوات والتراحم والزيارات والكرم والجود والأعطيات {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 182)

ومن رمضان تولد التقوى بعدما ظن الظان أنها أوشكت أن تندثر .. ولكن هناك إشكال لا نكاد نمسك بمعاقده وهو أن أيام الصيام تأتي وتذهب, وكأنها حلم..لا نكاد نستقبلها إلا ونودعها..

وريثما نتحدث عن قدوم رمضان، والسرورِ برمضان، وفِقْهِ رمضان..يذهب رمضان.

ولا ندري بماذا نخرج منه:

بتوبة أم غفلة..؟؟

بعودة إلى الله أم شرود..؟؟

واللهُ أعلم هل نُدرك رمضان العام القادم ...أم لا.!؟؟

 أكثر الناس, وأنا منهم عفا الله عنا جميعاً..قد نستعد لرمضان، بشراء لوازم الطعام، والانتباه لنواقِص المطبخ، والفطنة إلى التموين، والاهتمام بغذاء الأجسام.. أما النفوس والقلوب والأرواح فقد ننساها.!!

فما هي إلا كلمات عابرة, نقتطفها من فم عالمٍ هنا, وواعظٍ هناك..فتكون حصتنا من رمضان أقل القليل.!!

وبعدها حَدِّث ما شئت:

عن خَواءٍ تظنه امتلاء..

وسقمٍ تظنه عافية..

وغفلةٍ تحسَِبها يقظة..

وإذا كان هذا الجسم الفاني, نهتم به كل ذلك الاهتمام, فما بالك بروح كَرَّمها الله U مذ جعلها في أبينا آدم u لما قال لملائكته: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} ( الحجر: 29)

وما بالك بمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله..!!!

قال الرسول r:

«عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي U لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً, فَقُلْتُ: لا يَا رَبِّ, وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً وَأَجُوعُ يَوْماً.. فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ, وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ ([1][1]).»

ما له يهرب منا الشكر والحمد في النعماء, والتضرعُ والذكرُ في الشدة والبلواء..؟!!!

ورحم الله من دعا:

اللهم إني أعوذ بك من نعمة لا تقربني منك, ومن فاقةٍ لا تردني إليك..

اللهم أعوذ بك من غنى لا يقربني منك, ومن فقر لا يردني إليك.

اللهم إني أعوذ بك من شبع لا يذكرني بسابغ نَعْمائك, ومن جوع لا يخرجني من غفلتي إلى التضرع وطلب إحسانك..

أيام قلائل ورمضان يأتي..

فماذا أعددتَ له يا أخا الإسلام الحبيب.. ؟

وماذا أعددتِ يا أخت الإسلام الغالية..؟

وكيف الدخول فيه, وكيف الخروج منه..؟

نفوسكم لا تنصحكم, تلهيكم..فيا ابن آدم اتعِظ: مَن صَحِبَكَ يوماً أو يومين, فلم ير منك نفعاً..تَرَكَك.

ونفسُك قد صاحبْتَها سنيناً طوالاً, فما قادَتْك إلا إلى أهوائها.

فاخلَعْ حجاب نفسك عنك..اخلع هواك وارحل بثوب انكسارك, وافتقارك إلى الله.

وتَبَدَّل بعد الغفلة, الأنس بالله..

وبعد البطالة, الصلاح والتقوى..

وبعد مجالس الغفلة والتقصير والمعاصي, مجالس الإيمان..

كم يصدأ قلبك, ولا ترعاه..؟؟

وإن عمراً ضَيعتَ أولَه, حريٌّ بك أن يشتد حرصك على آخره..

ما بينك وبين الموت إلا أيامٌ, فاحفظ صبابة ما بقي من عمرك, وما عمرك من أول يوم ولدتَ فيه, بل من أول يوم عرفتَ الله فيه, فإياك أن تموت قبل أن تعيش..

رمضان أحيا أمة الإيمان..

كثيرون منا لا يكون زادهم منه إلا كثرة المعاصي, وزيادة الغفلة, وتخمة البطون, وكثرة اللهو واللغو والسفاسف..

أفبهذه العزيمة يُستقبل رمضان..؟؟

رمضان ...

طبيب القلوب والأرواح..

شفاء الأمة, وبناء العقيدة..

السائق إلى الجنان, مغلق أبواب النيران..

مُصَفِّدُ الشياطين..

الأمل في زمن اليأس المرير..

واحة الأمان في وقت القلق والاضطراب..

الطهر والاستقامة في وجه الفساد والإفساد..

العزيمة التي تجرف الخور والكسل والبلادة والقعود..

فكيف أصبح عندك رمضان أيها المسلم..؟؟

نبيك صلى الله عليه وسلم  يقوم الليل؛ حتى تتفطر قدماه..يبكي, ولصدره أزيز كأزيز المرجل, من البكاء..

وأنتَ بماذا تمضي الليل...؟؟!

 وأنتِ يا أختَ الإسلام،كيف أصبح رمضان عندك..؟؟

أخشى أن تكوني قد نسيت فاطمة رضي الله عنها بنت محمد صلى الله عليه وسلم.

فأصبح همك المطبخ ثم لا تملئيْن وقتك بعدها إلا في سفاسف الأمور.

مالدموعكم تسيل تلهياً بمأساةِ روايةٍ معروضةٍ مُخدِّرة، ما سالتْ لأطفال كأكمام الورود يُقصفون ليل نهار في أفغانستان.. ولا دماءٍ نازفة في الصومال، ولا كيدٍ خبيث لأهل السودان وآلاف يموتون في دارفور ..ولا حصار ظالم في فلسطين... ولا لرجال حق غيبتهم سجون الظالمين في كل أرض والله أعلم بأحوالهم ويتم أطفالهم وترمل نسائهم وقلة ذات يد عيالهم.

 

أتضيع حتى الدموع من عيوننا أيها الناس..أو تستغربون:

وقد أضاع أكثرُنا العزةَ بالصلاة، فيصلي مثل الأرانب المذعورة..!

وأضاع الهدير الإيماني الجارف لرمضان..

فرمضان ساقية صغيرة عنده تسدها أصغر أوراق الأشجار المُصفَرة..

وأضاعَ فَهْمَ الإسلامِ لما صوَّروه له دين زوايا وتكايا، وتسابق أصم إلى ظاهر الأمور وهو دين كفاح وجهد وجهاد..

برئ الإسلام من شاك مضيم   لا يراه غير صوم وصلاة

ذروة الدين جهاد في الصميم   فلنجاهد أو لتلفظنا الحياة

لماذا يتحول رمضان إلى شهر الطعام واللغو وإضاعة الأوقات, ونبينا صاحب العزم r القدوة العظمى..تتجاوز سيرته العطرة, وسنته الشريفة, المكان والزمان, ويصل عطرها إلينا, فتهز من الرُّقاد هزا..وتوقظ من سبات الضياع والتشتت واليأس والإحباط..؟!!

فما للقلوب لا تفتح لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم  فيكون من ذلك الدواء والشفاء..؟؟!

يُذهلني حديث أبي الدرداء t عندما قال:

« خرجنا مع رسول الله r في شهر رمضان, في حر شديد, حتى إنْ كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر, وما فينا صائم إلا رسول الله r وعبد الله بن رواحة t([2][2]).»

فبأبي أنت وأمي يا سيد الخلق.. تُعَلِّم أمتك الصبَر الشديد..

وبأبي أنت وأمي يا ابن رواحة.. أَلزمتَ نفسك الدرجة العليا من المتابعة والاقتداء..

وبنفسي أنتم يا أبناء الإسلام, وبناته الأطهار.. سِرتم على درب ابن رواحة, فهجرتم سفاسف الناس, ورحلتم إلى الله, بانكساركم وافتقاركم:

لا تُعرفون إن حضرتم, ولا تُفتقدون إن غبتم, شعثاً غبْراً..

ما ضركم أن الناس لا تعرفكم, ولكنّ الله يعرفكم..

ما أوهنكم تكالب الكفر على الإسلام..

ما أوهنكم بيع بلاد المسلمين.. ولا الجراح النازفة أنهاراً, من جسد أبيكم الإسلام..

ما أفزعتكم صولات البغي, ولا مؤامرات الدول ولا خنق الأحرار في كل أرض، وكأن واحدكم يقول:

خذوا كل دنياي وخلوا               فؤادي حراً وحيداً غريباً

 فإني أعظمكم دولة                  وإن خلتموني طريداً سليباً

وتصدعون بالحق في وجه الباطل, بالكلمة المخلصة, والحجة البينة..

وتشفقون على الأمة, تريدون ردها إلى الله..

وربما تضيق الأرض بما رحبت، فلا تضيق صدوركم, فيكون نشيدكم:

يا دربنا.. يا معبَر الأبطال, يا درب الفلاح..

إنا إذا وضع السلاح بوجهنا.. ضَجَّ السلاح.

وإذا تَلعثَمَت الشفاه.. تَكلمتْ منا الجراح.

إخلاصاً, وحب هداية, وشفقة على الأمة من الضياع.

فمَن مِن شباب المسلمين, وبناتكم اليوم, يفتح قلبه لفقه ابن رواحة t فيغمس نفسه في سبيل الله على قدم نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم .!؟

مَن الذي يعاهد الله ألا يَخرج من رمضان إلا وقد أعاد بناءَ نفسِه, وطلَّق غفلته, وسار إلى الله..!؟

مَن الذي يفطن إلى أن العمر قليل, والموت حق, وكل نفس بما كسبت رهينة.. !؟

مَن الذي يعاهد الله على ترك الذنوب, وترك المعاصي, وترك الغفلات.. !؟

مَن الذي يُلزِم نفسه بالتقوى في هذا الشهر..وأنا ضامن له أن يستمر الخيرُ معه بقية عامه؟..

مَن الذي يعاهد الله أن لا يكذب ولا يغتاب, ولا يمشي بباطل, ولا يَقْف بسمعه أو بصره أو فؤاده, ما ليس له به علم, وأنا كفيل له أن تتحول حياته خيراً وبركة وإيماناً.. !؟

من الذي يعطي رمضان حقه من الصيامِ والقيامِ وغضِّ البصَر وحفظ اللسان..فلا تصلح له نفسُه, ويزكو به عمله.. !؟

من الذي يتجرد ويفزع إلى الله، ... فيرده الله خائباً.. !؟

أخشى مع الوقت أن ننسى رمضان .

نصوم عادة، ونفطر تخمة..

نقوم عادة، وننام غفلة..

نتحدث برمضان عادة، ونتكلم باطلاً وكذباً..

نترك الطعام، ونأكل لحوم الناس..

ننشغل بالإسلام في جوانبه، وننسى كوامنه ولبابه.

فلنعد سمت رمضان ، شهر الجهاد والمجاهدة لا الطعام والولائم ، شهر الصبر لا الجبن والهروب ، شهر الانتصار على الظالمين في الأرض والجباه الساجدة الشامخة بالإيمان لا شهر الرؤوس المطأطئة في زهد مبتدع مصنوع.

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ.. } (الحجر: 94)

{ إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.

أحمد معاذ الخطيب الحسني

2 رمضان المبارك 1429هـ/ 2 أيلول 2008م

ملاحظة : المقال في الأصل خطبة جمعة وتم تعديلها جذرياً.

المصدر : موقع (دربنا)

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين