إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ

(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) قالها يوسف عليه السلام في معرض ثنائه وشكره لله تعالي على ما مر به في حياته من ابتلاءات متتالية فله الحمد والشكر وله الثناء الجميل أن جعل ذلك ابتلاءً واختباراً للمؤمنين ولم يكن عقاباً للعاصين فلله الحمد والمنة .

 

إن ما يحدث الآن من بلاء لهو من جنس ما نزل بيوسف الصديق عليه السلام للتمحيص والاصطفاء والانتقاء وجلب الأجر ورفع الدرجات ومغفرة السيئات وليس من باب عقوبة العصاة فبفضل الله لا يعرف عن إخواننا إلا كل خير يشهد بذلك العدو قبل الصديق من طهر وعفاف ومحاسن الأخلاق وحسن الجوار، والسعي في قضاء حوائج الناس، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وحفظ المال العام وغيرها من شيم الكرام الذين لا يسألون الناس جزاءً ولا شكوراً إنما ذلك لوجه الله.

 

يقول د/ الشحات عطا : أن يوسف الصديق مكن الله له مرتين :

الأولى :عندما نجا من مكر إخوته في الجب ووصل إلى عزيز مصر: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) فكان ذلك تمكينا لشخص يوسف عليه السلام بالنجاة والحفظ  والأمان .

 

والثانية: كانت تمكيناً للمشروع الاسلامي الذي تبناه يوسف عليه السلام بإقامة العدل بين الناس وحل المعضلة والأزمة الاقتصادية الطاحنة، وحفظ البلاد والعباد من الهلاك، وذلك بخروجه من السجن إلى سددة الحكم وصنع القرار: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

 

فهل تكون أقدار الله فيما يمر بنا الآن من نجاح د/ محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية تمكيناً لشخصه ليتعرف على ما كان مجهولاً قبل ذلك من أمور الحكم من وزارات وقرارات ومؤسسات وعسكر ومقدار ما بها من فساد، ورثناه رغماً عنا من الأنظمة السابقة، ويكون التمكين الثاني بعد عودته إن شاء الله بدحر الانقلاب والإنهاء الحقيقي لحكم العسكر، فيكون تمكيناً للمشروع الاسلامي وليس لشخص د/ مرسي، وليس للإخوان فقط،  بل يكون تمكيناً لكل الأمة وشرفاء وأحرار العالم تمكيناً للقرار الثوري الشعبي الجماهيري يبث أملاً ويشع تفائلاً بنصر الله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا)، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْر ِاللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)  .  

 

يوسف الصديق مكث في السجن بإرادته ولو شاء لخرج معززاً مكرماً إذا أجابهم وما أرادوا :

(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، وكذلك قال م/ سعد الحسيني محافظ كفرالشيخ الشرعي في المحاكمة الهزلية (إنهم يعرضون علينا الخروج من السجن مقابل الاعتراف بالانقلاب وتمحى هذه القضايا وتكون كأن لم تكن ونحن من يرفض ذلك ).

 

د/ محمد مرسي عيسي العياط الرئيس الشرعي لجمهورية مصر العربية ينتظر الانقلابيون منه كلمة واحدة ، بل تنتظر أمريكا وإسرائيل وأوروبا وبعض الخليجيين منه كلمة، فيخرج معزّزاً مكرماً مبرءاً ومعه كل المعتقلين ،ولكنه صامد شامخ شموخ الفرسان الأبطال، يقدم براءة وطنه وشعبه من القهر والاستبداد والذل والاستعباد علي حريته وراحته الشخصية، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.

 

بل لم يسرع يوسف الصديق بالخروج من السجن عندما أخلوا سبيله وظل حتى تظهر الحقيقة كاملة فمكث بمحض إرادته: (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) .

 

كل ذلك وقد ظهرت براءة يوسف عليه السلام منذ البداية للجميع ولكن القضاء الشامخ يأبى ذلك (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ).

 

وابتلاءات المصلحين الآن إنما هي تطور طبيعي لما مر به الأنبياء والمرسلين والمصلحين والدعاة والأئمة في كل العصور، ومازال التاريخ يحدثنا عن حصار شعب أبي طالب، ووقوف عبدالله بن الزبير بن العوام، وسعيد بن جبير في وجه الحجاج، وأحمد بن حنبل في المحنة، وابن تيمية للتتار، والعز بن عبد السلام للمماليك، وعز الدين القسام ، وأحمد ياسين للصهاينة وغيرهم في السجن والغربة والبعد عن الأهل والأحباب والديار والمعاناة والأصابة والاستشهاد والتمثيل بالجثث وإحراقها . (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)

 

وإننا واثقون ثابتون آملون بنصر قريب وفجر وليد لأن الله الوكيل جل وعلا يختار لعباده ما يشاء لهم بلطف ورحمة وحكمة لما يحفظهم في الدارين الدنيا والآخرة فـ(اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين