عبادات القلوب -3-

ثالثاً ورابعاً: الخوف من الله عز و جل والرجاء      

منزلة الخوف و حكمه :

من أجلّ منازل العبودية و أنفعها وهي فرض على كل أحد . قال تعالى (فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين ) ( و قال عز وجلّ ( و لمن خاف مقام ربه جنتان(

 

تعريف الخوف :

قيل : الخوف :توقع العقوبة على مجاري الأنفاس - الخوف :قوة العلم بمجاري الأحكام - الخوف :هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره - الخوف :غمّ يلحق بالنفس لتوقع مكروه - الخوف :توقع 

مكروه أو فوت محبوب  - الخوف: حذر النفس من أمور ظاهرة نضرة  الخوف : غمّ يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء  - الخوف : توقع مكروه -  ضده الأمن و يستعمل في الأمور الدنيوية و الأخروية .   عند الصوفية:

ارتعاد القلب لما عمل من الذنب ، وقيل أن يترقب العقوبة و يتجنب عيوبه ، وقيل انزعاج السريرة لما عمل من الجريرة.

فوائد الخوف:

الخوف سراج القلب به يبصر ما فيه من الخير و الشر ، وكل أحد إذا خفته هربت منه ، إلا الله عز جلّ فإنك إذا خفته هربت إليه . 

إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها ، و طرد الدنيا عنها . - قال ذو النون : الناس على الطريق ما لم يَزُل عنهم الخوف ، فإذا زال الخوف ضلّوا الطريق .

أنواع الخوف من حيث الحُكم : 

الخوف المحمود الصادق : هو ما حال بين صاحبه و بين محارم الله عز و جلّ ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس و القنوط .

صدق الخوف : هو الورع عن الآثام ظاهراً و باطناً.قال شيخ الإسلام ابن تيمية:الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله .

الخوف الواجب: هو ما حمل على فعل الواجبات و ترك المحرمات . 

الخوف المستحب : هو ما حمل على فعل المستحبات و ترك المكروهات .

الجمع بين الخوف و الرجاء و الحب : لا بد للعبد من الجمع بين هذه الأركان الثلاثة .                                                                           طريقة الخوارج :عبادة الله بالخوف وحده فهم لا يجمعون إليه الحب و الرجاء  و لهذا لا يجدون للعبادة لذة و إليها رغبة و هذا يورث اليأس و القنوط من رحمة الله ، وغايته إساءة الظن بالله و الكفر به سبحانه .  

طريقة المرجئة : عبادة الله بالرجاء وحده الذين وقعوا في الغرور و الأماني الباطلة و ترك العمل الصالح ، و غايته الخروج من الملة .    طريقة غلاة الصوفية :عبادة الله بالحب وحده الذين يقولون  :نعبد الله لا خوفاً من ناره  و لا طمعاً في جنته  و إنما حباً لذاته و هذه طريقة فاسدة لها آثار وخيمة منها الأمن من مكر الله ، وغايته الزندقة و الخروج من الدين .

قال بعض السلف كلمة مشهورة :من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق .

- من عبده بالخوف وحده فهو حروري - أي خارجي

- من عبده بالرجاء و حده فهو مرجىء .

- من عبده بالخوف و الحب و الرجاء فهو مؤمن موحد .

قال ابن القيم : القلب في سيره إلى الله عز و جل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف و الرجاء جناحاه ، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ومتى قطع الرأس مات الطائر و متى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر   .

 

أيهما يُغلَّب الرجاء و الخوف ؟

قال ابن القيم : السلف استحبوا أن يقوي في الصحة جناح الخوف على الرجاء وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف.

وقال : ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف ، فإذا غلب الرجاء فسد .

وقال غيره : أكمل الأحوال اعتدال الرجاء و الخوف ، و غلبة الحب ، فالمحبة هي المركب و الرجاء حادٍ ، و الخوف سائق ، و الله الموصل بمنّه وكرمه .

أقسام الخوف :

 خوف السر : و هو خوف التأله و التعبد و التقرب و هو الذي يزجر صاحبه عن معصية من يخافه خشيةً من أن يصيبه بما شاء من فقرأو قتل أو غضب  أو سلب نعمة ونحو ذلك بقدرته و مشيئته فهذا القسم لا يجوز أن يصرف إلا الله عز و جل و صرفه له يُعد من أجلّ العبادات و من أعظم واجبات القلب بل هو ركن من أركان العبادة  ومن خشي الله على هذا الوجه فهو مخلص موحد , ومن صرفه لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر

الخوف من وعيد الله : الذي توعد به العصاة و هذا من أعلى مراتب الإيمان و هو درجات و مقامات و أقسام كما مضى ذكره قبل قليل .

 الخوف المحرم : و هو أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف الناس كحال من يفر من الزحف خوفاً من لقاء العدو فهذا خوف محرم و لكنه لا يصل إلى الشرك .

 

الخوف الطبيعي : كالخوف من سَبُع أو عدو أو هدم أو غرق و نحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري فهذا لا يُذم و هو الذي ذكره الله عن موسى عليه السلام في قوله عز وجل ( فخرج منها خائفاً يترقب ) و قوله ( فأوجس في نفسه خيفةً موسى ) و يدخل في هذا القسم الخوف الذي يسبق لقاء العدو أو يسبق إلقاء الخطب في بداية الأمر ؛ فهذا خوف طبيعي و يُحمد إذا حمل صاحبه على أخذ الأهبة و الاستعداد و يُذم إذا رجع به إلى الانهزام و ترك الإقدام .

الخوف الوهمي : كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً أو له سبب ضعيف جداً فهذا خوف مذموم و يدخل صاحبه في وصف الجبناء و قد تعوذ النبي صلى الله عليه و سلم من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة ، و لهذا كان الإيمان التام والتوكل الصحيح أعظم ما يدفع هذا النوع من الخوف و يملأ القلب شجاعةً ، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه الخوف من غير الله ، و كلما ضعف إيمانه زاد و قوي خوفه من غير الله ، و لهذا فإن خواص المؤمنين و أقوياءهم تنقلب المخاوف في حقهم أمناً و طمأنينة لقوة إيمانهم و لسلامة يقينهم و كمال توكلهم (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل . فانقلبوا بنعمةٍ من الله و فضل لم يمسسهم سوء

من الأسباب التي تورث الخوف من الله عز و جل:

 إجلال الله و تعظيمه و معرفة حقارة النفس  خشية التقصير في الطاعة و التقصير في المعصية زيارة المرضى و المصابين و المقابر 

تذكر أن الله شديد العقاب و إذا أخذ الله الظالم لم يفلته

تذكر الموت و ما فيه .                                                    

ملاحظة الله ومراقبته

 تذكر الخاتمة .

تدبر آيات القرآن الكريم .

المحافظ على الفرائض و التزود من النوافل و ملازمة الذكر .

مجالسة الصالحين و الاستماع لنصائحهم .

باب الجمع بين الخوف والرجاء

اعلم أن المختار للعبد في حال صحته أن يكون خائفاً راجياً ، ويكون خوفه ورجاؤه سواء ، وفي حال المرض يمحض الرجاء .

قال الله تعالى : ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف: 99)

وقال تعالى : ( إِنَّهُ لا يَايْئسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ )(يوسف: 87 ( .وقال تعالى : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) (آل عمران:106(

وقال تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الأعراف: 167).

وقال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(الانفطار:13،14)

 وقال تعالى : فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ*وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) (القارعة6، 9( 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ، ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ، ما قنط من جنته أحد)) رواه مسلم) 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إذا وضعت الجنازة واحتملها الناس أو الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة ، قالت : قدموني قدموني ، وإن كانت غير صالحة ، قالت يا ويلها ! أين تذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعه صعق) رواه البخاري )، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك))رواه البخاري).

وتأمل قوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (المائدة98،99)

حيث إنه في مقام التهديد والوعيد قدم ذكر شدة العقاب (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وفي حالة تحدثه عن نفسه وبيان كمال صفاته قال : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ) )الحجر: 49،50)

فقدم ذكر المغفرة على ذكر العذاب لأنه يتحدث عن نفسه عز وجل وعن صفاته الكاملة ورحمته التي سبقت غضبه .

والأحاديث في هذا المعنى تدل على أنه يجب على الإنسان أن يجمع بين الخوف الرجاء ، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد(ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ، ما قنط من جنته أحد)

 

فالواجب على الإنسان أن يكون طبيب نفسه في كونه يغلب الخوف أو الرجاء إن رأى نفسه تميل إلى الرجاء وإلى التهاون بالواجبات وإلى انتهاك المحرمات استناداً إلى مغفرة الله ورحمته ؛ فليعدل عن هذا الطريق وإن رأى أن عنده وسواساً ، وأن الله لا يقبل منه ؛ فليعدل عن هذا الطريق أيضاً .

الخاتمة

اللهم نسألك بفضلك وحلمك وكرمك ورحمتك أن تلهمنا الرشاد في الأمور كلها .  لا تجعلنا من المستهترين بأحكامك  وشرعك الذي أنزلت كالطامعين بما لا يستحقون إلا العذاب , ولا تجعلنا من القانطين من رحمتك إن غفلنا وابتعدنا عن طريقك , وخر لنا واختر لنا سَلَّمْنا أُمورنا اليك . وصلى الله على نبينا وحبيبنا وقائدنا و قدوتنا وسيدنا محمد وسلم تسليما كثيراً

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لمتابعة الجزء الأول من المقال هنا

لمتابعة الجزء الثاني من المقال هنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين