رمضان بين السنة والبدعة وبين الجهاد والخمول

 

 

الصوم ركن من أركان الإسلام، فرضه الله على المسلمين في السنة الثانية للهجرة، قبيل فريضة الجهاد، ولهذا التوقيت معاني كثيرة وكبيرة منها : ( مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه، ومنها مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها واحتمال ضغطها وثقلها، وإيثار ما عند الله، وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك، والذي تتناثر على جوانبه الرغبات والشهوات والمغريات ) ([i]) .

وفرض الصوم قبل الجهاد فيه إشارة إلى أن الصوم يعد المسلمين للجهاد في سبيل الله، فتقوية الإرادة ومحاربة الشهوات، ومراقبة الله عزوجل والصبر صفات ضرورية للمجاهد في سبيل الله.

وقد جمع الله عزوجـل هذه المعـاني في كلمة ( التقوى ) فقال سـبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون } [ البقرة : الآية (183) ] .

رمضان والصحابة:

كان الصحابة يصومون نهارهم حتى إذا غابت الشمس أكلوا وشربوا وباشروا زوجاتهم حتى إذا ناموا، حرم عليهم الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام . ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له ( قيس بن صرمة ) كان يعمل صائماً، حتى إذا أمسى فجاء إلى بيته فصلى العشاء ثم نام قبل أن يأكل أو يشرب - من شدة التعب - حتى أصبح صائماً، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم - في اليوم الثاني على صيامه المتصل - وقد جهد جهداً شديداً، فأنزل الله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ... } حتى قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ... } [ البقرة : الآية (187) ] . إذن فالأصل عدم الأكل في الليل بعد النوم، ثم رخص الله عزوجل لعباده وسمح لهم لأنه يعلم ضعفهم وعدم صبرهم .

رمضان شـهر الجهـاد :

لـم يقصر الصحابة رضوان الله عليهم الجهاد على رمضان، بل استغرق الجهاد معظم حياتهم، وما كانوا يؤخرون الجهاد حتى ينقضي رمضان، بل أن الفتوحات الكبرى كانت في رمضان ومنها :

1 - غزوة بدر الكبرى : حيث أذل الله مشركي قريش، وقتل صناديدهم، وكسر شوكتهم على يد عباده المؤمنين، وكانت في السابع عشر من رمضان .

2 - وفي رمضان تم فتح مكة، حيث تجهز المسلمون ودخلوا مكة فاتحين بعشرة آلاف مقاتل، وطهرت الكعبة من الأوثان، وقضي على مشركي قريش، حتى دخلت قريش في الإسلام .

3 - وفي رمضان عاد المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبـوك، في شدة الحر والقيظ .

4 - وفي رمضان التقى المسلمون في عهد عمر بن لخطاب رضي الله عنه مع الفرس في معركة البويب في السنة الثالثة عشرة للهجرة بقيادة المثنى بن حارثة، واقترح المثنى على جنوده أن يفطروا وأفطروا وقتل المسلمون من الفرس زهاء مائة ألف ([ii]) .

5 - ولخمس بقين من رمضان خرج المسلمون من مصر إلى الشام لملاقاة التتار في عين جالوت .

6 - وفي العاشر من رمضان اجتاز الجنود المصريون قناة السويس وخط بارليف وطردوا اليهود من سيناء في عام (1393 هـ) .

هذه بعض الأمثلة القديمة والحديثة على الفتوحات الإسلامية في رمضان، حيث لم يمنع الصوم المسلمين من الاستعداد للمعركة وتحمل أعباءها ومشقتها .

 

رمضـان والـجوع :

يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله : فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلم ينتفع بصومه . بل من الآداب أن لا يكثر النوم في النهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه . ومن آداب الصوم أن لا يستثكر من الطعام عند الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، فما وعاء أبغض إلى الله عزوجل من بطن مليء من حل . وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام ؟ ([iii]) .

رمضان عند المسلمين اليوم

1 - في الأسبوع الأخير من شعبان يهجم المسلمون على أسواق المواد الغذائية يجمعون منها أصناف الغذاء، ويعدون أطعمة وأشربة خاصة برمضان، زيادة على بقية الأشهر . حتى صار رمضان عند كثيرين شـهر الطعام .... ومن الملاحظ أن المسلمين يأكلون أصنافاً من الطعام خاصة برمضان ، وقد يصل عددها خمسة إلى عشرة أصناف من المأكولات والمشروبات ، لاتؤكل إلا في رمضان ، لذلك قلت صار رمضان عند كثيرين شهر الطعام ...

وصار من المتفق عليه بين المسلمين اليوم أن مصروف شهر رمضان للطعام والشراب يعادل مصروف شهرين من غيره ويتذمر صغار الموظفين من ذلك .

2 - في الأسبوع الأخير من رمضان يهجم المسلمون على أسواق المواد الغذائية ثانية، يجمعون منها أصناف الحلويات والمكسرات والأشربة لأسبوع العيد .

3 - جـميع المسلمين - إلا من رحم ربك - يزيد وزنهم في رمضان، ويفسرون الـحديث : ( صـومـوا تصحوا ) ([iv]) بـأنـه صوموا يزيد شحمكم ووزنكم، ويؤكد كل مسلم أنه زاد من (1- 3) كلغ خلال رمضان، علماً أن السمنة ليست صحة، بل مرض ،ولقد ذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما رأى رجلاً سميناً برزت بطنه، وضع إصبعه على بطنه وقال : (( لو كان هذا في غير هذا )) وفي حديث آخر يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السمن سيكون في أمته، ويتضح ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم للسمن، وسيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب تؤكد ذلك . فعن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... ثم إن بعدكم قومـاً يشـهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن ) ([v]) .

ويستدل من هذا الحديث أن السمنة من صفات هؤلاء القوم الذين تفشو فيهم الخيانة، وتقل فيهم الأمانة، وكلها من الصفات المذمومة غير الحميدة، وذلك واضح بالبديهة لأن السمنة تأتي من كثرة الأكل والشرب والنوم وكلها صفات مذمومة ... فهل يفطن المسلم إلى أن رمضان كما هو عند الصحابة لا يمكن أن يزيد وزن الصائم، بل ينقصه، وهل فطن الصائم إلى أن تقليل الوزن هو الصحة وزيادتها مرض .

4 - يقل العمل والإنتاج اليدوي والفكري، ويقل العمل الإداري في مكاتب الدولة والوزارات وسائر المؤسسات، وقد يتوقف بعضها كالمدارس والجامعات إذ يتوقف في الأسبوعين الأخيرين من رمضان، وبرر بعضهم ذلك فقالوا : ( رمضان لا يسع لغيره )، ورمضان شهر عبادة، والعبادة عند هؤلاء هي الصوم والقيام في الليل، أما سائر الأعمال، ومنها طلب العلم، فليست عبادة حسب فهمهم، وفي هذا خلط خطير جداً . وقد تعودنا في صغرنا خلال المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية أن دوامنا في المدرسة خلال رمضان يبدأ الساعة التاسعة بدلاً من الثامنة ، وتوقف حصة التربية البدنية فقط ، وتبقى جميع الحصص كما هي ، ويتأخر الانصراف ساعة ...

5 - وفي رمضان المعاصر يسهر كثير من المسلمين الليل كله، قليل منهم يسهرونه في صلاة التراويح ثم القيام وتلاوة القرآن، وبعضهم يجعلون الليل للعمل والنهار للنوم، فتداوم كثير من المؤسسات الخاصة كالبنوك والأسواق من العاشرة حتى الواحدة أو الثانية ليلاً، وبعض المسلمين يسهرون الليل في رمضان من أجل اللعب بكرة القدم، أو لعب القمار (في غير دول الخليج)، وفي بعض بلاد المسلمين لهم موسم سنوي للقمار هو ليالي رمضان، والسبب أنهم يسهرون ويشغلون ليلهم بالقمار (مثل لعب الورق والضاماوالنرد يلعبونها على مبلغ من المال للفائز ، وغيرها ) . وفي بعض الدول المسلمة لها موسم سنوي للحفلات الموسيقية الراقصة، حيث تستدعى لها الفرق الراقصة والموسيقية من البلدان العربية والأجنبية ومن المؤلم أن هذا الموسم السنوي هو ليـالي رمضان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . أما المسلسلات الرمضانية فكلنا يعلم أهدافها التخريبيـة والهدامـة في المجتمع .

 

خاتمـة :

وأخيراً ينصح الباحث نفسه وإخوانه المسلمين بتحري السنة في الصوم ويراها الباحث تتلخص فيما يلي :

1 - أن لا نعد أطعمة خاصة لرمضان، بل أن يكون مجموع ما يأكله المسلم في يوم رمضان أقل من غيره من الشهور، حتى يكسر شهوة البطن ويتغلب عليها .

2 - ينبغي أن يشعر الصائم بالجوع والعطش، لأنه عندما يشعر بذلك ويرى الطعام والشراب ويكف عنهما لأنه صائم، ولأن الله عزوجل يراه أينما كان عندئذ تتحقق بعض حكمـة الصوم وهي التقـوى ( الخوف من الله عزوجل ) أما إذا نام معظم النهار أو نصفه، ولم يشعر بالجوع والعطـش فقد حرم ذلك الهدف الأساسي من الصوم .

3 - ينبغي على المسلمين أن لا يقل عملهم في رمضان، فصلاة التروايح تنتهي في الحادية عشرة، وكلنا لا ننام في الأيام العادية قبل ذلك الموعد والاستيقاظ على السحور لا يحتاج أكثر من نصف ساعة، ويمكن تعويضها بتأخير الدوام في الصباح ساعة فيكون في التاسعة بدلاً من الثامنة والانصراف في الثالثة بدلاً من الثانية . وأذكر بما حاوله أحد رؤساء الدول المسلمة قبل نصف قرن تقريباً ، عندما حاول تحريض العمال على عـدم الصوم ؛ لأنه يـرى أن الإنتاج ينخفض في شهر رمضان ... وأذكر صوراً لايمكن أن أنسـاها ماحييت وهي أمـي يرحمها الله ويبارك في حسناتها، كانت تصوم ونحن في موسم الحصاد وما أدراك ماالحصاد !! في بدايـة الصيف ، بين الشوك والحصى ... وغيرها كثير يفعلون ذلك أيضاً ...

ومن المهم جداً أن لا نتخذ الصوم حجـة للكسل، وإهمال العمل، وعندما نفعل ذلك فإننا نقدم للعالم صورة مشوهة غير صحيحة عن الإسلام، مع أن المطلوب منا عكس ذلك وهو تقديم الإسلام للعالم كافة في صورته الصحيحة .

ومن الأصح أن يكون الموظف المسلم والبائع والطالب والمدرس وكل مسلم صائم، أن يكون لينا سمحاً يتذكر أنه صائم([vi])، وأن الصوم يحثه على مساعدة الآخرين والإحسان إليهم لأن الثواب يتضاعف في رمضان .

4 - كيف يعرف المسلم أنه استفاد من مدرسة رمضان ؟ هناك مقياس على النحو التالي :

1 - هل نقص وزنـه ؟ 2 - هل قويت إرادته ؟ 3 - هل زاد شعوره بالآخرين، وخاصة الفقراء والمحتاجين ؟ 4 - هل قويت علاقته بالله عزوجل ويتضح ذلك بزيادة نوافله من الصلاة، وتلاوة القرآن، والصيام النافلة بعد رمضان ، وإقباله على طلب العلم، ورغبته في مساعدة الآخرين، وزيادة خوفه من الله عزوجل .

 

وهكذا فإن رمضان محطة في الطريق يتزود منها المسلم بالزاد، فالطريق كله عبادة، وكل عمل يقوم به المسلم عبادة إذا نوى به طاعة الله عزوجل، أما الشعائر التعبدية كالصلاة والصوم فهي محطات يتزود منها المسلم بالزاد، والعبادة بهذا المعنى تشمل الحياة { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] .

ورمضان محطة سنوية تشحن فيها روح المسلم ، ففي شهر الصوم تكون الروح على صلة دائمة بخالقها ، خلال النهار كله ، وخلال أوقات الصلاة ، وتلاوة القرآن ، وعندما تتصل الروح بخالقها تتغذى وتقوى أو كما نقول ( تشحن ) لتبقى متفتحـة ونشيطة طوال العام .

( والصيام حين يؤدى على أصوله، حين يتوجه به الإنسان إلى الله، حين يحس أن كل خاطرة في نفسه، وكل إحساس في شعوره، وكل لفتة وكل نظرة وكل خالجة وكل سر، ينبغي أن تكون - في هذا الشهر خاصة - نظيفة متطهرة، والتوجه الكامل إلى الله، حينئذ تملأ التقوى القلب، وتنطلق الروح إلى آفاق عالية من النور المشرق الوضيء ) ([vii])، وعندما يغادر المسلم هذه المحطة ( رمضان ) يجد نفسه قد أشرقت لما تقربت للـه عزوجل، وزاد ورعـه وتقواه وخـوفـه من النار، وزادت رغبتـه فيما عند الله لأنه باق، ورغب عن الدنيا لأنها فانية .

 

 


([i]) سيد قطب، في ظلال القرآن [ 1/167] .

([ii]) محمد السيد الوكيل، جولة في عصر الخلفاء الراشدين، ص 97 .

([iii]) إحياء علوم الدين [ 1/235 ] .

([iv]) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وقال أخرجه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وحسنه .

([v]) صحيح البخاري باب فضائل أصحاب النبي r [ 2/287] .

([vi]) خلال عملي في الجزائر كانت عندي حصة يوم الاثنين الساعة الثانية ظهراً ، والمدرسة هناك تداوم من الثامنة حتى الثانية عشرة ، فتنصرف للفطور ثم تعود للعمل في الثانية وحتى السادسة مساء ...وكانت هذه الحصة ثقيلة علي وعلى الطلاب ، لأنها بعد طعام الغداء ، وكنت أنعس مع أنني واقف وأتحرك ، لكن طبيعة المادة ( الفلسفة ) جافة كما تعلمون ، ووجدت الحل وهو أن أصوم يوم الاثنين ، وفي فرصة الفطور (12- 14) أنام ، وأقوم إلى الحصة نشيطاً يقظاً ، وقد لاحظ الطلاب ذلك فنصحتهم بالصوم ، وصام بعضهم ...

(7) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، [ 1/65 ] .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين