غربة الدين في ممالك المادة والهوى - طوبى للغرباء
خطبة الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير في حلب بتاريخ:9/جمادى الآخر/1429 الموافق13/6/2008 والتي هي بعنوان:
غربة الدين في ممالك المادة والهوى
إن سبب نهضتنا وفلاحنا ونجاحنا إنما هو في دين الله، وهذه حقيقةٌ ينبغي ألاَّ تغيب عن عقولنا وقلوبنا مهما حاول الآخرون تغييرها، فقد انصرفت الأذهان حين يعيش العالَم اليوم في أزماته واضطراباته، وصُرِفت إلى أسباب شتى، لكن الله سبحانه وتعالى، وهو خالِق الإنسان الذي بيده مقاليد الأمور في الكون، بيّن لنا فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]
وقال سبحانه على لسان نبيّه نوح عليه الصلاة والسلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 10-13]
فمهما تحدّث الإعلام العالمي ودُعاة المادية عن الأسباب المختلفة، فلا ينبغي أن ننصرف عما وجّهنا الله تعالى إليه.
الدِّين.. الذي حينما يتحقق وجوده في الإنسان، يتحوّل الإنسان إلى عطاء، وتكون حياته رِبحًا، ويَنْتُج من كل سلوك يفعله خير..
أقول هذا قبل أن أقرأ حديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والذي قال فيه: (بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)، وفي زيادة رواها الترمذي رحمه الله: (الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي)، وفي رواية ذكرها الحاكم في مستدركه: (الفرارون بدينهم يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى ابن مريم).
أقول هذا ونحن نعيش غُربة الدِّين من جديد، وحين نتحدّث عن غُربة الدِّين لا نعني بذلك الانتماء الصوريّ والشكليّ الذي تنتمي إليه أمة تزيد عن المليار ونصف، لكنني أتحدّث عن غُربة الدِّين بحقائقه ومقاصده، والذي يكون فيها الإنسان عبدًا خالصًا لله تبارك وتعالى.
وفي عُجالة من الوقت أضرب على سبيل المثال بعضًا من صور غُربة الدِّين في المطالب الدينية:
غُربة الدِّين في القَصْد.
وغُربة الدِّين في السلوك.
وغُربة الدِّين في العقيدة.
وغُربة الدِّين في الحال.
1- أما غُربة الدِّين في القَصْد: التي أضربها مثالاً على ما نعيشه اليوم من الغُربة، فتتمثّل في إرادة وجه الله، فالقَصْد الذي هو الإرادة، والذي تستند كل الأعمال إليه، والذي قيمة كل الأعمال تنبعث منه... هذا القصد أو الإرادة قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، وقد يكون في وجه الله تبارك وتعالى، فقد قال الله سبحانه: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]
وقال لحبيبه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]
أين هذا القصد الذي نجده في حياتنا يا أمة الحبيب المصطفى؟
أين هذا القصد الذي تعيشه وتشعر به وأنت في عبادتك أو في معاملتك؟
لا تزور إلا لله..
لا تحب إلا لله..
لا تبغض إلا لله..
تبيع وتشتري والقصد في قلبك حاضر..
تنفع عيال الله وخَلْقه وأنت تريد بذلك وجه الله...
أين هذا في زمن أصبح القصد فيه تحصيلَ المصلحة، والشُهرةَ بين الناس، وتحصيلَ الأموال، ولو كان ذلك على حساب المبدأ والدِّين..؟
القصد.. الذي نُذكِّر قلوبنا به في افتتاح الصلاة، ونحن نقف بين يدي الله فنقول: (وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له).
فنحن نعيش الغُربة.
الذين تحققوا بهذا القصد أفراد، وكثير ممن ينتسب إلى الإسلام صورةً هو بعيدٌ عن هذا القصد.
2- أما الغُربة في السلوك فنماذجها كثيرة:
فأين الذي يُتقن عمله وهو يستشعر أن إتقان عمله قُربة يتقرّب بها إلى الله؟
أين الذي يستشعر وهو في معاملاته، وهو في دراسته إن كان طالبًا، أو تدريسه إن كان أستاذًا، أو صناعته إن كان صناعيًّا، أو تجارته إن كان تاجرًا، أو عبادته وهو يقف بين يدي الله في المحراب... أنه يتقرّب إلى الله؟
أين إحسان السلوك الذي يستشعر الإنسان من خلاله أنه فيه يتقرّب إلى الله؟
المعاملة.. الأحوال الشخصية..
أين الأسرة المنضبطة بأحكام الله، التي تستمد حركتها السلوكية من توجيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
أين طاعة المرأة لزوجها في منظوم الأسرة المنضبطة؟
نحن نعيش فوضوية فكرية، فالغرب الذي تطرّف في سلوكه مع المرأة، حتى عَقَد المؤتمرات التي تساءل من خلالها: هل المرأة تلتحق بالبشر أم لا؟ تطرّف بعد ذلك فرفع المرأة إلى مستوى فوق الإنسانية والبشرية.
إنه الاضطراب الذي تخلخل فيه نظام المجتمع.
أما الأسرة التي فيها زوجٌ يرعى الأسرة رعاية إسلامية، ويأمر فيها أسرته بطاعة الله، ويوجههم فيها إلى الخيرات، وزوجةٌ منضبطة بأمر الله... فهي أسرة تستمد حركتها السلوكية من توجيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد سُمِح بين أفراد المجتمع أن يهجر الرجل أخاه ثلاث ليال، لكن لم يُسمح داخل الأسرة أن تهجر المرأة زوجها يومًا واحدًا، بل تمسك بيد زوجها وتقول: لا أفلت يدك حتى نصطلح، وحتى تزول الذنوب التي دخلت إلى الأسرة.
أين هذا السلوك الأُسَريّ في زوج مسلم وفي زوجة مسلمة وفي طفل يُنشَّأ على القِيَم.
بكى عمر بن عبد العزيز يومًا حين رأى ولده يوم العيد مُرقَّع الثياب فقال: ما يُبكيك يا أبتي؟ قال: أخاف أن ينكسر قلبك وأنت ترى أبناء المسلمين يلبسون الجديد، وأنت ابن خليفة المسلمين ولا تلبس الجديد، فقال ذلك الغلام: لا يا أبتي، إنما ينكسر قلب من عَقَّ أباه وأمه.
هذا نموذج أصبح غريبًا في زمن غُربة الدّين.
في الأحوال الشخصية، والمعاملات، والعبادات...
نماذج الغُربة كثيرة كثيرة.
وإذا أراد الإنسان أن يعرف أهو يعيش غُربة الدّين أم لا، فلينظر وليُقارن بين سلوكه وسلوك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
علينا اتباع السُنّة في الأقوال في الأفعال في الأحوال.
3- فإذا انتقلنا إلى غُربة العقيدة: ونحن نرى تشويهًا في العقيدة الإسلامية، لاسيما والفضائيات الإعلامية تُستخدم من أجله، رأينا العَجب العُجاب، فلم نعد نسمع شيئًا عن حاكمية الله سبحانه وتعالى، ولم نعد نسمع شيئًا عن أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من عباده على وجه الأرض إلا الإسلام.
واليوم هناك دعوات كثيرة شاذة تنادي شرقًا وغربًا بوحدة الأديان، ناسيةً أن بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد نسخت كل الشرائع، وأن الله سبحانه لا يقبل بعد بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ الإسلام.
الغُربة في العقيدة ظهرت حينما كثرت المداهنات وأصبحت المجاملات على حساب العقيدة وثوابتها، وأصبح المستمسكون بثوابت العقيدة في الغُربة.
4- أما غُربة الحال، فحَدِّث ولا حرج:
فأين التوكّل على الله الذي يعتمد فيه العبد في سره على مولاه وحده؟
أين الاستناد والاعتماد على الله الذي وجد في سلفنا؟
قرع الباب جنود السلطان في زمن العزِّ بن عبد السلام الفقيه الصالح، فنظر أولاده من شقوق الباب قالوا: لا تخرج يا أبتي، إن جنود السلطان جاؤوا إليك، وإنا نخشى عليك منهم أن يقتلوك، فقال الأب وهو يسرع ليفتح الباب: لا تظنّوا أن أباكم يستحق الشهادة، أبوكم لا يستحق فيما أرى عند الله مقام الشهادة..
إنه مقام الثقة بالله، مقام التوكّل على الله..
(وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ).
(وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ).
التوكّل.. الصدق الذي تقول فيه بسرِّك: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.. حال المراقبة.. حال الخشية
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 33]
إذًا: أخلُصُ إلى أننا بحاجة يا شباب.. ويا شيوخ.. ويا كهول.. ويا أطفال اليوم وشباب المستقبل... إلى مشروعٍ تربويٍّ يُخرجنا من هذه الغُربة.
(بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا).
وها نحن اليوم نعيش الغُربة، وحتى ننتقل من هذه الغُربة إلى تفاعل صادق مع دين الله، يُخرجنا من الأزمات، ومن الفوضى، ومن مراءاة الناس، ومن الرغبة في الخَلْق، ويضعنا في العبودية لله ولا نبالي... نقول ما قال خُبيب رضي الله تعالى عنه، يوم أن صُلِب في مكة، فقالوا له: أما تتمنى يا خُبيب أن تكون في بيتك وأن يكون مكانك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال خُبيب رضي الله تعالى عنه: ما أتمنى أن أكون في بيتي ويُشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة، ثم أنشأ يقول شِعرًا:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً      على أيِّ جنبٍ كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشـــــأ      يبارك على أوصال شلوٍ مــــــــــــمزَّع
 أين حال سحرة فرعون الذين تحوّلوا إلى حال الصدق، والذين تحوّلوا إلى حال التوجّه إلى الله، فقالوا لفرعون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72]
أين هذه الأحوال التي أصبحنا نتندَّرُ بها، حتى لكأنها غريبةٌ عن بيئتنا؟
أين نحن من الدِّين بحقيقته ونحن نعيش صورته؟
لا بد من تربية..
ولابد من عودة صادقة إلى القرآن، فنقرؤه، ونتدبره، ونفهمه...
ولا بد من عودة إلى سُنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنقرؤها، ونفهمها، ونتدبّرها، ونتمثّلها سلوكًا واقعيًا...
وعندها نكون ممن قال في حقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ).
اللهم اجعلنا من هؤلاء الغرباء، ورُدّنا إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين