من هو الواعظ بحق؟

الوعظ: الدعوة إلى ما فيه خير وصلاح، والتحذير مما فيه شر وفساد، فالواعظ يرشد الجاهلين وينبّه الغافلين، ويعالج النفوس الطائشة مع أهوائها، ليُعيدها إلى فطرتها السليمة من الإقبال على الفضائل، والترفع عن الرذائل، ولكن إرشاد الجاهلين، وتنّبيه الغافلين، وتقويم عوج من غلبت عليهم شهواتهم، جهاد يحتاج صاحبه إلى أَلمعية مهذبة، ودراية بالطرق الحكيمة، علاوة على العلم الذي يميِّز به بيّن الحق والباطل، ويفرق به بّين المعروف والمنكر ثم إن العلم والنباهة وحكمة الأسلوب لا تأتي بثمرتها المنشودة إلا أن يكون الواعظ طيب السريرة، مستقيم السيرة.

فمن واجبات المتصدي للوعظ أن يكون متفقهاً في الدين تفقه من يستطيع أن يدعو إلى ما قرره الدين القيِّم من عقائد وأحكام وآداب، ويكون بعد هذا سريع التنبّه لما يجري بيّن الناس من وسائل شأنها أن تفضي إلى فساد، ويكون نافذ البصيرة إلى ما يستتر تحت أقوالهم أو أعمالهم من أغراض وخيمة العاقبة، ويكون بعد هذا وذاك خبيراً بالأساليب التي تدخل بالوعظ إلى أعماق النفوس، فتبدل جهالتها معرفة، أو غفلتها يقظة، أو أهواءها الجامحة شغفاً بالخير، وتقبلاً للنصيحة، ويضيف إلى هذا أن يكون لباس التقوى شعاره ودثاره.

أما التفقه في الدين فتتكفل به السنون التي يقضيها الطالب بالمعاهد الدينية العليا متى قضاها مجداً في التلقي والبحث، وقد أشار القرآن المجيد إلى أن الوعظ إنما يقوم على التفقه في الدين حيث قال تعالى: [فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] {التوبة:122}.

والتفقه في الدين هو الذي يجعل الموعظة نقيِّة من نحو إيراد الأحاديث الموضوعة، والقص المنبوذة، وتحسين البدع المحظورة أو المكروهة، بزعم أنها سُنة أو موافقة لروح التشريع.

وفي الحق أن الوعظ عمل جليل، وله في نظر الشارع مقام رفيع، وإنما يحطُّ من شأنه أن يتصدّى له من يميِّز الأحاديث المصنوعة من الأحاديث الثَّابتة، ولا يُفرق بين ما هو سُنة وما هو بدعة، ومن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً لا يثق من أنه صدر منه، أو يلصق بالدين ما هو بريء منه، فقد ارتكب بهتاناً وإثماً مبينا، وكان مالك رضي الله عنه كثيراً ما ينشد البيت:

وخير أمور الدين ما كان سنة=وشر الأمور المحدثات البدائع

وأما اليقظة ودقة الملاحظة: ففي أصلها  موهبة فطرية، ولكنها تقوَّى و تنمو على قدر ما يتقلَّب فيه الفكر من مشاهدات وتجارب ومطالعات تاريخيَّة.

فينبغي مراعاة لهذا الواجب أن ينظر في حال طالب الانتظام في سلك الوعاظ، ويلاحظ في اختبار مبلغ هذه الموهبة الفطريَّة حتى إذا كانت مفقودة أو ضئيلة ولم يكن فيه استعداد لتنميتها صرف إلى ناحية أخرى يمكنه أن ينفع فيها المجتمع بقدر ما أوتي من علم.

وأما الأساليب الحكيمة، فتكتسب من النظر في سيرة الدعوة المحمَّدية، وسيرة الدعاة البلغاء في نصائحهم التي يوجهونها إلى الطوائف الخاصة أو الجمهور، يقولون: الموعظة ثقيلة على السمع مستحرجة على النفس، لاعتراضها الشهوة،  ومضادتها للهوى، حتى قال يونس بن عبيد: (لو أمرنا بالجزع لصبرنا) يشير إلى ثقل الموعظة على السمع، وجنوح النفس إلى مخالفتها ولكن صوغها في أسلوب رائع، يجعلها خفيفة الوقع على السمع، سهلة النفوذ إلى القلب وقد تكون معاني الموعظة حاضرة في ذهن الشخص ولا يجد في نفسه تأثراً بها، حتى إذا عرضت عليه تلك المعاني في أسلوب بارع، وقعت منه موقع الاعجاب، كأنها معانٍ جديدة لم يسبق له بها علم، خَرج الزهري يوماً من عند هشام بن عبد الملك، فقال: ما رأيت كاليوم ولا سمعت كأربع كلمات تكلم بهن رجل عند هشام: دخل عليه فقال: احفظ مني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيَّتك، قال ما هنّ؟ قال: لا تعد عدَّة لا تثق من نفسك بانجازها، ولا يغرنَّك المرتقى، وإن كان سهلاً، إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء، فاتق العواقب وإن للأمور بغتات، فكن على حذر، ومعاني هذه الموعظة لا تغيب، فيما أحسب عن أمثال الزهري وإنما جاء اعجابه مما كسيت به من الايجاز الساحر، وسلامة الألفاظ، وجمع الحكم الأربع في نسق جعلها كعقد ملتئم الدرر محكم التأليف.

وأما التجمل بالتقوى في السر والعلانية فيستمده الواعظ من قوة الإيمان بأن الله يعلم ما يسر الناس، وما يعلنون، ومن تيقنه بأن دعوته إلى فعل شيء هو تاركه، أو إلى ترك شيء هو يفعله لا تتجاوز الآذان إلى القلوب، وتذهب كما يذهب الزبد جُفاء، وقد اشار القرآن المجيد إلى  أن داعي الناس إلى معروف لا يفعله، معدود في فاقدي العقول، وهو جدير بأبلغ عبارات التوبيخ قال تعالى:[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {البقرة:44}.

والتقوى هي التي تجعل الواعظ مخلصاً فيما يأمر به أو ينهى عنه، وللإخلاص أثر كبير في نجاح الموعظة، وانشراح الصدر للانتفاع بها على أي حال.

والتقوى الصادرة عن التفقه في الدين بحق، هي التي تكسو الواعظ وقاراً وحسن سمت غير مصطنع، فتمتلئ العيون بمهابته، فإذا ألقى الموعظة ذهبت تواً إلى القلوب، وأثمرت كلما طيباً وعملاً صالحاً.

يجمل بالواعظ أن يراه الناس في وقار وحسن سمت، فذلك مما يدعوهم أن يتلقّوا وعظه بحسن القبول، و مما لا يليق بمكانته على ما يبدو لي أن يقف أمامهم، ويكثر من حركات يديه ورأسه، أو يحرص على أن يقص عليهم القصص المضحكة، ويطارحهم النكت المسلية، فللضحك والتسلية مسارح ومناظر، إنما شُرعت مجالس الوعظ للتخفيف من أثرها الذي هو الافتتان بزخرف هذه الحياة، والغفلة عن سبيل الفلاح في الحياتين، الأولى والآخرة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة المساجد، السنة الثالثة، شعبان 1365هـ العدد 1.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين