الهجرة فاتحة عهد جديد

 

 

كانت هجرة سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حادثاً خطيراً، أنهى عهداً وبدأ عهداً، وهدم نظماً وبنى نظماً، أنهى عهداً كانت الدعوة الإسلامية فيه جريمة يعذب بأنواع التعذيب من ينطق بها، ومن يستجيب لها، وكان المسلمون قلة أذلة مضطهدين منبوذين، وبدأ عهداً صارت الدعوة الإسلامية فيه نوراً وهدى يجهر بها الداعي ويتسابق إليها المستجيبون، وصار المسلمون كثرة أعزَّة وكلمتهم هي العليا، وهدم نظماً كانت جائرة تهضم فيها الحقوق وتستباح فيها الحرمات، وبنى نظماً عادلة تقيم الحق وتكفل الحريات والحقوق.

فالهجرة المحمدية كانت حداً فاصلاً بين عهدين، وكانت فجراً طلع بعد ليل طويل حالك الظلمة.

وفي العالم الآن ثورات سلمية قضت على عهد وابتدأت بناء عهد، وهدمت نظماً وابتدأت وضع الأسس لنظم، فما أحوجنا أن نرجع إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته لنتعرف كيف بدأ البناء للنظام الجديد، وما أول ما بدأ به في عهده الجديد، وإن لنا في رسول الله أسوة حسنة، وهو أحق من يهتدى بهديه ويسير على سنته، لأنه مؤيد من ربه ولأن خططه نجحت وأثمرت فقويت شوكة المسلمين وعزت دولتهم وانتشرت دعوتهم.

أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء عهده الجديد، توحيد صفوف المسلمين وتطهير نفوسهم وقلوبهم من آثار الاختلاف والعداوة والبغضاء، ففي كتب السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المدينة مهاجراً من مكة، بدأ فبنى مسجده ليكون متعبِّداً ومجتمعاً للمسلمين، ثم أخذ في توثيق عرى المودة والإخاء بين المسلمين فآخى بين المهاجرين بعضهم و بعض، وقال لهم: (تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، وقال هذا أخي) وآخى بين الأنصار بعضهم وبعض، وطهر قلوب الأوس والخزرج، وصار لكل مهاجر أخ من الأنصار له حقوق الأخ وواجباته، وكتب بينهم كتاباً وثق به أخوتهم وقوى وحدتهم، ومما جاء فيه: (إنهم أمة واحدة من دون الناس، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وما كان بينهم من حدث أو أشجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله )

وبهذا العمل الجليل الذي بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم كوَّن من المسلمين كتلة واحدة وبنى منهم بناءً قوياً متماسكاً يشد بعضه بعضاً، وشعر كل مسلم أنه جندي للإسلام والمسلمين، عليه أن يقوم بكل ما يستطيع من خدمات وواجبات واتجهت جهود كل فرد إلى الغاية الواحدة وهي نصرة الإسلام وعزة المسلمين، و اطمأن المهاجرون إلى البلد الجديد والعهد الجديد، ونسوا وطنهم وأهلهم وديارهم وأموالهم، وأنس الأنصار بالمودة بينهم، وبالإخوة الذين جمعهم الله بهم، وأثنى الله عليهم بقوله سبحانه:[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.

وامتن الله تعالى على المسلمين جميعاً بنعمة هذا الإخاء والتأليف بين القلوب فقال عز شأنه: [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران:103}. وفي نعمة هذا الإخاء اطمأن المسلمون وأنس بعضهم بعض، وأمن كل واحد منهم جانب أخيه، وفي ظل هذا الاطمئنان والأمان فرغوا للقيام بما يجب عليهم لدينهم ودولتهم، وكانوا كلمة واحدة وصفاً واحداً فما كان أجدرنا بأن نتأسى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونجعل أو ما نبدأ به في عهدنا الجديد تناسي الحزبية والقضاء على الانقسام والاتجاه كتلة واحدة وصفاً واحداً إلى بناء العهد الجديد والوصول إلى الإصلاح المنشود.

وبعد أن عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الإخاء بين المسلمين من المهاجرين والأنصار وألف بين قلوبهم اتجه صلى الله عليه وسلم إلى أن يؤمن المسلمين ممن معهم في المدينة من غير المسلمين وهم اليهود، فعقد بينهم وبين المسلمين معاهدة قرر فيها لليهود حقوقهم وحرياتهم وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأموالهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وهذه أول معاهدة عقدت بين المسلمين وغير المسلمين، وكان غرض الرسول صلى الله عليه وسلم منها أن يأمن المسلمون جانب جيرانهم ومن يعاشرونهم، وأن لا يكون اليهود شوكة في ظهر المسلمين إذا داهمهم عدو خارجي، وكذلك قصد بها أن ييسر للمسلمين معيشتهم وتبادلهم حاجاتهم لأن اليهود كانوا أصحاب رؤوس الأموال، وأكثر الحركة التجارية بأيديهم فلابد للمسلمين من معاملتهم والتعاون المادي معهم في تدبير شؤون معيشتهم وتموينهم وتدبير شؤون التموين للأمة من  أول ضرورياتها في حالة السلم و الحرب فيعقد الإخوة بين المسلمين بعضهم وبعض، و يعقد المعاهدة بين المسلمين واليهود كفل الأمن والأمان في داخل المدينة وتفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون للإصلاح الداخلي ومواجهة العدو الخارجي، وهذه خطة سديدة حكيمة لبناء العهد الإصلاحي الجديد.

وبعد أن كوَّن الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلمين هذه الكتلة وأمنهم ممن معهم بهذه المعاهدة اتجه إلى اتخاذ شعار لعبادة المسلمين يميِّزهم عن شعائر غيرهم وإلى إبراز شخصية إسلامية لا يشارك المسلمين فيها غيرهم، فاتخذ الأذان لكل صلاة من الصلوات الخمس المفترضة، وقد عاش المسلمون بمكة هذه السنين العديدة لا يستطيع مسلم أن يجهر بصلاته، وليس لعبادة المسلمين شعار، فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وبنى مسجده وآخى بين المسلمين وعاهد بينهم وبين اليهود شاور أصحابه في خير ما يعلنون به عبادتهم ويجتمعون به على أدائها ويكون شعاراً للمسلمين، وانتهى التشاور باتخاذ الأذان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يجهر بالأذان، و لم يقبل رأي من أشار باتخاذ الناقوس ولا رأي من أشار باتخاذ البوق، ولا رأي من أشار بإيقاد النار وكان السبب في رفض الأخذ بهذه الآراء أنها شعائر لغير المسلمين والمسلمون يجب أن يكون لهم شعار خاص بهم وبهذا كان صوت بلال يدوي بالأذان في يثرب خمس مرات في اليوم والليلة، وبهذا كان كل من في يثرب وضواحيها على ذكر دائم بالإسلام و المسلمين.

وإبرازاً للشخصية الإسلامية وتحقيقاً لاستقلال المسلمين، اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تحويل قبلتهم عن بيت المقدس، وقلب وجهه في السماء متجهاً إلى الله تعالى ليحقق له ما يريد، وقد حقق الله للرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد وأمره أن يولي هو والمسلمون شطر المسجد الحرام بدلاً من المسجد الأقصى، وكان هذا في، صف شعبان بعد سنة وأربعة شهور من الهجرة، أي: أن المسلمين مكثوا بالمدينة ستة عشر شهراً يستقبلون في صلواتهم بيت المقدس ثم حولت القبلة واستقبلوا المسجد الحرام.

وبهذا أصبح لعبادة المسلمين شعار خاص وهو الأذان، وقبلة خاصة وهي الكعبة، وبرزت شخصيتهم الإسلامية، وقد قال الله تعالى في تحويل القبلة:[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ] {البقرة:144}.وبيَّن سبحانه أن هذا التحويل كان امتحاناً خصَّ الله به الذين صدقوا في إيمانهم والذين تظاهروا به فحسب، وذلك لأن ضعاف الإيمان من اليهود لما حولت القبلة قالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه، فقال الله سبحانه: [وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ] {البقرة:143}.

وانقضت السنة الهجرية الأولى وأوائل شهور السنة الثانية، والجهود مبذولة في توحيد كلمة المسلمين وتأمينهم ممن معهم في المدينة وإبراز شخصيتهم الإسلامية باتخاذ الأذان وتحويل القبلة.

وبعد هذا اتجه الإصلاح الإسلامي إلى معالجة مشكلة الفقراء والمساكين، ومن القوانين التي تكفل بر الأغنياء بالفقراء وتأمين الفقراء من أن يفتك بهم العدو والعوز وتأمين الأغنياء من أن تمتد إلى أموالهم يد العدوان والطمع ففي الشهور الأخيرة من السنة الثانية للهجرة أوجب على المسلمين صوم رمضان وصدقة الفطر وزكاة المال، وهذه الواجبات الثلاثة تهدف إلى فرض واحد هو الرحمة بالفقراء ومشاركتهم الأغنياء فيما رزقهم الله سبحانه.

فأما صوم رمضان فهو عبادة الله بالإمساك عن الطعام والشراب والشهوات من قبل طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي هذا الإمساك يشعر الغني بما يشعر به الفقير من جوع وحرمان، فتضعف أنانيته وقسوته وتقوى روحانيته ورحمته فهي في الحق عبادة لتطهير النفس من الشح والقسوة، ولتذكير القادر بما يعانيه العاجز، وهي لوقاية النفس من الشح والقسوة، ولتذكير القادر بما يعانيه العاجز، وهي لوقاية النفس من الاسترسال في شهواتها وأنانيتها، ولهذا قال الله تعالى في بيان حكمة إيجابها: [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].أي لأجل أن تتقوا ما ينتاب النفس من بهيمية واستهتار إذا استرسلت في شهواتها وتتقوا ما ينتاب المجتمع من آفات وأخطار إذا لم يرحم أغنياؤه فقراءه ولم تسد فيه روح البر والمعونة، ولهذا كان شهر رمضان في البيئة الإسلامية الصادقة موسم للبر والخير، والقادرون يتسابقون في معونة الفقراء والمساكين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان.

وأما صدقة الفطر فهي عبادة ببذل جزء من القوت الذي يقتات به الإنسان في أكثر العام، قدحان من قمح أو من شعير أو ذرة أو قيمة هذا من النقود يبذله الإنسان في صباح يوم عيد الفطر عن نفسه وعن زوجه وعن خدمه وعمن يعولهم من أولاده، والغرض منها الترفيه في يوم العيد على الفقراء والمساكين وتمكينهم من أن يشاركوا القادرين في مسرتهم وابتهاجهم، حتى لا يكون التفاوت بينهم في ذلك اليوم مبعث حقد أو ضغينة أو خطور أي خاطر من خواطر السوء، ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر بأنها: طهرة، أي تطهر النفوس من الشح، والبخل والأنانية، و تطهر المجتمع من الأنات والشرور والمبادئ الهدامة.

وأما زكاة المال فهي حق معلوم فرضه الله للفقراء والمساكين فيما يملكه الأغنياء من نقود ومن سوائم الإبل والبقر والغنم، وفي عروض التجارة، وفيما تخرجه الأرض من زرع وما تثمر الأشجار من ثمار، وقد شرعها الإسلام بنظام حكيم، فيه توفيق بين مصالح الأغنياء ومصالح الفقراء، فشر ط شروطاً فيمن تجب عليه، وفي المال الذي تجب فيه، وحدد مقدار الواجب، وجعل بعض الواجب من رأس المال النامي، وبعضه من النماء والإيراد، وجعل تنفيذ بعض الواجب إلى الغني نفسه عبادة منه، وأشار سبحانه إلى أن هذا حق للفقير لا منحة، فقال:[وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ] {الذاريات:19}. وقال: [وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] {الأنعام:141}. وأشار إلى أن المال مال الله وأن الأغنياء مستخلفون فيه، و عليهم أن يشاركوا فيه المحاويج من عباد الله، فقال: [وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ] {الحديد:7}.وأشار إلى أن الحكمة في هذا الإيجاب تطهير نفوس الأفراد، وتطهير المجتمع من الشرور والآفات، فقال: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103}.اي: تطهر الأغنياء من الشح والقسوة والأنانية والحر ص، وتطهر الفقراء من الحقد والطمع وخواطر السوء، وتطهر المجتمع من العدوان والمبادئ الهدامة، نهي في الحقيقة صيانة للمال ولرب المال، وصيانة لنفس الفقير من أمراض السوء ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حصنوا أموالكم بالزكاة). وهي نظام حكيم عادل لو وجد من دين المسلم حافزاً على تنفيذه بوصف أنه عبادة وفريضة ودعامة من الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام، ووجد من الحكومات الإسلامية مشرفاً وحارساً على هذا التنفيذ.

فمن رجع إلى تاريخ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، وتتبع ما بدء به في بناء العهد الإسلامي الجديد، يتجلى له أن أول أساس وضع لهذا البناء هو توحيد كلمة المسلمين والتأليف بين قلوبهم وتأمينهم من جانب عشائرهم، وهذا يجب أن يكون أول أساس في بناء أية دولة، وكل بناء يقوم على خلف وانقسام وعصبيات، فهو بناء على غير أساس، وأن أول ما يجب بعد هذا هو إبراز شخصية تعتز بها، وأن أول ما يجب بعد ذلك تحديد علاقة الفقراء بالأغنياء حتى لا يكون الفقراء في المجتمع أعضاء معرضين للآفات، فيتعرض المجتمع كل للآفات، والشجرة كلها قد تشل إذا أصاب الشلل فرعاً منها، و البناء كله قد يختل إذا أصاب الخلل جزءاً منه.

بعد بناء الأسس القويمة المتينة شرع الإسلام النظم العادلة لتنظيم الزواج والطلاق والمعاملات المدنية، والتوثيق للدين وغير هذا، وكان في تشريعه حكيماً يتدرج ويهدم ما لا سبيل إلى بقاءه، ويعدل ويهذب ما تتحقق المصلحة بتعديله وتهذيبه وبهذه الحكمة والتؤدة قامت الدولة وعلت كلمة الدين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة كنوز الفرقان: محرم وصفر 1372هـ العدد 41و42

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين