جليبيب عند الله لليس بكاسد - موازين الناس وميزان التقوى
جليبيب عند الله ليس بكاسد
للأستاذ الشيخ أحمد نصيب المحاميد
لا يزال كثير من الناس قديماً وحديثاً، يغترون بالمظهر الخلاب، والهندام المرموق، والهيئة الحسنة، وهم كذلك يكبرون الثروة الواسعة، والمركب الفخم، والجاه العريض، والصيت المنتشر، ويكفرون بعد ذلك بالقيم الإنسانية الرفيعة، والأخلاق المهذبة السامية، ولكن الحقيقة لا تخفى، والخلق النبيل لن يعود على صاحبه إلا بالخير، والقيم الإنسانية والروحية ستظل محتفظة بقدسيتها ومكانتها. وهذا الصحابي الجليل، القليل الذكر، المغمور الصيت، يكشف لنا بما وقع له مع الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقائق، ويستبين لنا من ذلك طريق واضح لمعالجة بعض النواحي الاجتماعية التي لها خطرها وأهميتها.
هذا ((جُلَيْبٍيب)) شاب من أصحاب النبي، آتاه الله إيماناً متيناً، وخلقاً مستقيماً، وهمة عالية، غير أنه لم يرزق صباحة في الوجه، ولا رشاقة في القوام، ولا جمالاً في المنظر، ولا تنسيقاً في الهيئة، فكان طبيعياً أن يعرض عنه الناس فلا يزوجوه، ويبتعدوا عنه فلا يصاهروه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يعني بأصحابه كلهم على السواء، ويهتم بشؤونهم الخاصة والعامة، ولا يقيم وزناً إلا للقيم الحقة، والأخلاق المرضية، نظر يوماً إلى ((جُلَيْبٍيب)) فأدرك ما يحز في نفسه من ألم، وما يعتلج في صدره من رغبة، وما يرد على خاطره من تمنيات كإنسان ... فلم يدعه صلى الله عليه وسلم يعاني هذه الآلام، ويكبت هذه الرغبات وهو الرسول الكريم، الذي وصفه الله تعالى بإنه رؤوف رحيم.
لذلك فقد سعى بنفسه عليه السلام فخطب ابنة رجل من الأنصار لتكون زوجة لجليبيب، وتوقف الأنصاري أبو البنت، وقال للنبي: ((حتى استأمر أمها)) وانطلق الرجل الأنصاري إلى امرأته، فذكر لها ما أراد الرسول، فأبت أشد الإباء، وكأنها كرهت لابنتها أن يكون حظها في الحياة هذا الرجل، ولِمَ لا تنتظر حتى يأتيها شاب وسيم قسيم يتثنى في مشيته، ويسلب الألباب في طلعته، ويكون على جانب عظيم من الثراء والنسب؟!!
واتصل الخبر بالبنت فماذا كان موقفه؟ إنها قد تنبهت لأمر عظيم غفل عنه أبوها، وكاد أن ينالهما شر وسخط، وأن يحل بهما عذاب عذاب ونقمة، لولا أن الفتاة الحصينة أنقذت الموقف، وظهر من عميق تفكيرها وبعد نظرها وتوقد ذهنها ما يعجز عنه الرجال.
قالت لأبيها وأمها: ((أتريدون أن تردوا على رسول الله أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه))، ثم تلت قول الله عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) ثم اردفت تقول: ((أما أنا فقد رضيت وسلمت لما يرضى لي به رسول الله)).
وهنا تنبهت أمها، واستيقظ أبوها، وعرفا أن فتاتهما أنقذتهما من هوة سحيقة كادا يترديان فيها، دعتهما إلى استجابة أمر الله ورسوله، والتماس رضاهما، وطلب ما عندهما من المثوبة والأجر.
وأقبل الأب على ابنته يباركها، ويشكرها ، ويدعو لها ، وقد امتلأ إكباراً لها، وإعجاباً برجاحة عقلها، وقوة إيمانها، ونفاذ رأيها إذ وفقت إلى ما لم يوفقا إليه، ودعاها إيمانها إلى الاستجابة لأمر الرسول، وذهب أبوها مسرعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((يا رسول الله، إن كنت رضيته لنا فقد رضيناه)) فقال النبي: ((فإني قد رضيته))، وتم الأمر، وكان الزواج.
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بما كان من الفتاة من موقف حميد مشرفٍ فسرَ بها ، وأكبرَ من شأنها ، ودعا لها فقال  : ( اللهم اصبب عليها الخير صبا ، ولا تجعل عيشها كدّا ) ويستجيب الله تعالى دعاء رسوله فتصبح الفتاة في بيتها الجديد من أكثر الأنصار ( نفقة ومال ) .
ويسعد جليبيب بهذه الفتاة الملائكية التي منحها ربها جمالاً وكمالاً فكانت مثلاً أعلى لكل فتاة .
وتسعد الفتاة بهذا المال الوافر ، والخير الدائر ، والزوج المؤمن ، ولعالها كانت أكثر الفتيات سعادة وهناءة بما كانت تشعر به من طاعة الله ورسوله وامتثال أمره والتماس مرضاته ، ورضاها بما قسم لها .
ويمكث جليبيب إلى جانب زوجه الوفية ما شاء الله أن يمكث ، حتى يسمع داعي الجهاد يهيب بالمؤمنين من القيام بما يتوجب عليهم من نصرة الله ورسوله ، فيستجيب جليبيب للداعي ، ويخرج مجاهداً مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
ويخوض المعركة ببسالة وصبر ، ويقتل عدداً من أعداء الله ورسوله ، ثم يخر صريعاً مضرجاً بالدماء ، وينال من الله تكريماً أن سجلَ  اسمه في سجل الشهداء .
عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له ، فلم فرغ من القتال قال : ( هل تفقدون من أحد ؟ ) قالوا : نفقد واللهِ فلاناً وفلانا . قال : ( لكني أفقد جليبيب ) فوجدوه عند سبعة قد قتلهم ، ثم قتلوه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر فقال : ( قتل سبعة ثم قتلوه ، هذا مني و أنا منه ) – حتى قالها مرتين أو ثلاثة - ، ثم قال بذراعيه فبسطهما فوضع على ذراعي النبي صلى الله عليه وسلم حتى حفر له فما كان له سرير إلاَّ ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دُفن .
ويتحدث الصحابة عما نال جليبيب من إعراضٍ عنه ، و كساد أول الأمر، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أما عند الله فليس بكاسد ) .
نعم إنه ليس بكاسد. وهل من تكريم أعظم من أن يحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذراعيه حتى يوارى مقره الأخير ، في جنات النعيم .
إن في هذه القصة لعظة وذكرى للذين يخضعون لهذه المادة، ويغترون بالمظهر، ولا يقيمون وزناً للخلق الكريم!!
روي أن وفداً مثل بين يدي خليفة، فانبرى للكلام أصغر القوم سناً، فقال له الخليفة: يا غلام ليتكلم من هو أسن منك، فأجابه الغلام: (يا أمير المؤمنين لو أن المسألة بالسن لكان في هذا المجلس من هو أحق به من أمير المؤمنين) فسكت الخليفة فأعجب ، ووجد فيما قاله صواباً وحكمة.
وتروي لنا كتب الأدب كثيرة أن كثيّر عزة – الشاعر المشهور – دخل على عبد الملك بن مروان في أول خلافته فقال له: أنت كثير؟ قال: نعم. فاقتحمه (أي احتقره ولم يملأ عينه) وقال: (تسمع بالمُعَيْديّ لا أن تراه) فشعر كثير بذلك فقال: يا أمير المؤمنين، كل إنسان عند محله رحب الفِناء، شامخ البناء، عالي السناء، وأنشد يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه      وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير إذا تـــــــراه        ويخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أطولها رقابـــاً         ولم تطل البزاء ولا الصقور
وقد عظم البعير بغير لــب         فلم يستغن بالعظم البعير
فما عظم الرجال له بزين           ولكن زينهم حسب وخير
فقال عبد الملك: قاتله الله! ما أطول لسانه، وأمد عنانه وأوسع جنانه، إني لأحسبه كما وصف نفسه.
     قال عبد الله بن المقفع يصف صديقاً له: كان لي أخ من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، كان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجاً من سلطان لسانه، فلا يقول ما لا يعلم، ولا يماري فيما يعلم، وكان يرى ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جد الجد فهو الليث عادياً، وكان لا يشكو وجعه إلا لمن يرجو عنده البرء، وكان خارجاً من سلطان الجهالة، فلا يتقدم أبداً إلا على ثقة في منفعة، وكان أكثر دهره صامتاً فإذا نطق بذ القائلين، وكان لا يستشير صاحباً إلا أن يرجو منه النصيحة، وكان لا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه، وحيلته، وقوته.
فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها- ولن تطيق- ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع.
هذه هي الموازين الحقة للقيم الإنسانية، التي يتفاضل بها الناس بعضهم على بعض، ويستحقون الثناء والتقدير
          أحمد نصيب المحاميد
مجلة التمدن الإسلامي
 الأجزاء19-32 من المجلد 32 شعبان 1385هـ
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين