الحركة الإسلامية  في مجالها الفكري والعلمي

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي


إن المجال الأول في رأيي هو مجال الفكر، فهو الأساس للبناء الدعوي والبناء التربوي. الذي يبدو لي أن أزمتنا الأولى أزمة فكرية، هناك خلل واضح في فهم كثيرين للإسلام، وقصور واضح في الوعي بتعاليمه، ومراتبها، وأيها الأهم وأيها المهم، وأيها غير المهم. هناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش، والواقع المعاصر.
هناك جهل بالآخرين، نقع فيه بين التهويل والتهوين، مع أن الآخرين يعرفون عنا كل شيء، وقد كشفونا حتى النخاع !
بل هناك جهل بأنفسنا، فنحن إلى اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا، ولا نقاط الضعف لدينا، وكثيرا ما نضخم الشيء الهيّن ء وما نهون الشيء العظيم، سواء في إمكاناتنا، أم في عيوبنا .
وهذا الجهل لا يقتصر على الجماهير المسلمة ، بل يشمل الطليعة المرجّوة لنصرة الإسلام، والتي تمثل الركائز التي يقوم عليها العمل الإسلامي المنشود .


حاجتنا إلى فقه جديد
الحق أننا في حاجة إلى فقه جديد، نستحق به ن نكون ممن وصفهم الله بأنهم (قوم يفقهون). فليس مرادنا بالفقه : العلم المعروف الذي اصطلح على تسميته (فقهاً) والذي يعني : معرفة الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية، من مثل أحكام الطهارة والنجاسة والعبادات والمعاملات وأحكام الزواج والطلاق والرضاع وغيرها . . .


فهذا العلم - على أهميته - ليس هو مرادنا بالفقه، وليس هو المراد بكلمة (الفقه)حيث ورد في القرآن والحديث، وإنما هي مما بدّل من الأسامي والمفاهيم، كما بيّن ذلك الإمام الغزالي في كتاب (العلم) من موسوعته المعروفة (إحياء علوم الدين). إن القرآن ذكر مادة (ف ق هـ) في سوره المكية قبل أن تنزل الأوامر والنواهي التشريعية التفصيلية، وقبل أن تفرض الفرائض، وتحد الحدود، وتفصل الأحكام. إقرأ قوله تعالى: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] {الأنعام:65} واقرأ في السورة نفسها: [وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ] {الأنعام:98}. والفقه في الآيتين معناه: المعرفة البصيرة بسنن الله في الأنفس والآفاق وسنن الله في خلقه، وعقوباته لمن انحرف عن صراطه.
واقرأ قوله تعالى في ذم قوم جعلهم حطب جهنم فكان من وصفه لهم بأنهم [لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا] {الأعراف:179} ) ثم قال عنهم: [أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ] {الأعراف:179}  واقرأ في أكثر من سورة موقف المشركين من القرآن، وقد عبّر الله عنه بقوله : [أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا] (الأنعام : 25، والإسراء، : 46، والكهف : 57).أما في القرآن المدني فقد تكررت المادة في عدد من السور كلها تنفي (الفقه) عن المشركين والمنافقين. ففي سورة الأنفال يخاطب الله رسوله والمؤمنين بقوله [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ] {الأنفال:65}.


فنفي الفقه عن المشركين المحاربين هنا، يراد به الفقه في سنن الله في النصر والهزيمة، ومداولة الأيام بين الناس.
وفي سورة التوبة ذم الله المنافقين بقوله [رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ] {التوبة:87}. فالفقه المنفي هنا هو الفقه في ضرورة الجهاد والبذل لحماية الدين والنفس والعرض، وكيان الجماعة، وأنه مقدم على أية مصلحة فردية عاجلة أخرى.


وفي نفس السورة وصف بهذا الضعف بقوله تعالى [وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ] {التوبة:127}. فقد غاب عن هؤلاء المطموسين أن الله يراهم قبل رؤية الناس، ولكنهم فقدوا الفقه والفهم حقا. وفي سورة الحشر يتحدث عن المنافقين مخاطباً المؤمنين [لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ] {الحشر:13}.
وقال تعالى . [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ] {المنافقون:3}.
وفي السورة نفسها  : [هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ] {المنافقون:7}.
وفي السورة نفسها: [هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ] {المنافقون:7}.
وبهذا كان لأهل النفاق حصة الأسد من هذا الوصف القرآني بأنهم [لَا يَفْقَهُونَ] {المنافقون:7}. ذلك لأن المنافقين يتوهمون أنهم أذكياء وأنهم استطاعوا أن يلعبوا على الحبلين، و ويعيشوا بوجهين، وأنهم خادعوا الله والذين آمنوا، فإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وذا خلو إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
ولكن الله تعالى هتك سترهم، وفضح ذبذبتهم، وكشف خداعهم في آيات كثيرة [يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] {البقرة:9}.
المهم أنهم فضحوا عند الله وعند الناس، وخسروا الدنيا والآخرة، وحق عليهم أنهم في الدرك الأسفل من النار، فأي غباء أكبر من هذا الغباء؟ ولا ريب أنَّ من كان هذا وصفه ليس عنده شيء من الفقه .


الخلاصة
أن الفقه في لغة القرآن ليس هو الفقه الاصطلاحي، بل هو فقه في آيات الله وفي سننه في الكون والحياة والمجتمع . حتى التفقه في الدين الذي ورد في سورة التوبة [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] {التوبة:122}.
لا يقصد به الفقه التقليدي: فإن الفقه لا يثمر إنذاراً يترتب عليه حذر أو خشية، بل هو أبعد شيء عن أداء هذه الوظيفة، التي هي وظيفة الدعوة.
ومثله قوله  صلى الله عليه وسلم " ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". والمعنى: أن ينير الله بصيرته فيتعمق في فهم حقائق الدين وأسراره ومقاصده ولا يقف عند ألفاظه وظواهره.


أنواع الفقه الذي ننشده
وقد تحدثت في مناسبات سابقة عن أنوع الفقه الذي ننشده أو بعضها. من ذلك ما ذكرته في كتابي (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) عن فقه السنن، وفقه مراتب الأعمال.
ومنها: ما ذكرته في مقدمه كتابي الأخير عن (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والاختلاف المذموم). وموضوعه أحد أنوع الفقه الأساسية المنشودة، وهو فقه الاختلاف .

و ذكرت هناك أن أنوع الفقه المطلوبة خمسة.
والذي أركز عليه هنا من هذه الأنواع اثنان، هما:
1 : فقه الموازنات.
2 :فقه الأولويات.

وينبغي أن نقف قليلاً عند كل منهما.


فقه الموازنات
أما ( فقه الموازنات) فنعني به جملة أمور:
الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، من حيث حجمها وسعتها، ومن حيث عمقها وتأثيرها، ومن حيث بقاؤها ودوامها . . وأيها ينبغي أن يقدم ويعتبرو أيها ينبغي أن يسقط ويلغى

الموازنة بين المفاسد بعضها وبعض، من تلك الحيثيات التي ذكرناها في شأن المصالح، وأيها يجب تقديمه، وأيها يجب تأخيره أو إسقاطه.

الموازنة بين المصالح والمفاسد، إذا تعارضتا، بحيث نعرف متى نقدم ردء المفسدة على جلب المصلحة، ومتى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة.


حاجتنا إلى فقه الشرع وفقه الواقع
:
ونحن في هذا المقام نحتاج إلى مستويين من الفقه:
أولهما: فقه شرعي يقوم على فهم عميق لنصوص الشرع ومقاصده، حتى يسلم بصحة (مبدأ الموازنات) المذكور، ويعرف الأدلة عليه وهي واضحة لمن استقرا الأحكام والنصوص وغاص في أسرار الشريعة. فما جاء الشرع لم لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، برتبها المعروفة: الضرورية والحاجيّة والتحسينيّة .

والآخر: فقه واقعي، مبني على دراسة الواقع المعيش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات، مع التحذير هنا من تضليل الأرقام غير الحقيقية المستندة إلى المنشورات الدعائية، والمعلومات الناقصة والبيانات غير المستوفية، والاستبيانات والأسئلة الموجهة لخدمة هدف جزئي معين لا لخدمة الحقيقة الكلية.

ضرورة تكامل الفقهين للوصول إلى نتائج سليمة.
ولا بد أن يتكامل فقه الشرع، وفقه الواقع، حتى يمكن الوصول إلى الموازنة العلمية السليمة، البعيدة عن الغلو والتفريط .
والجانب الشرعي هنا واضح من الناحية المبدئية. فقد تحدثت عنه كتب أصول الفقه من المستصفى إلى الموافقات، وكتب القواعد والأشباه والفروق.


إن المصالح إذا تعارضت فوَتت المصلحة الدنيا في سبيل المصلحة العليا، وضحي بالمصلحة الخاصة من أجل المصلحة العامة، ويعوض صاحب المصلحة الخاصة عما ضاع من مصالحه، أو ما نزل به من ضرر وألغيت المصلحة الطارئة لتحصيل المصلحة الدائمة أو الطويلة المدى، وأهملت المصلحة الشكلية لتحقيق المصلحة الجوهرية، وغلبت المصلحة المتيقنة على المظنونة و الموهومة.


وفي صلح الحديبية رأينا النبي صلى الله عليه وسلم  يغلب المصالح الحقيقية والأساسية والمستقبلية على بعض الاعتبارات التي يتمسك بها بعض الناس، فقبل من الشروط ما قد يظن لأول وهلة أن فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة، أو رضا بالدون، ورضي أن تحذف البسملة المعهودة، ويكتب بدلها (باسمك اللهم) وأن يمحى وصف الرسالة من عقد الصلح، ويكتفى باسم محمد بن عبد الله. والأمثلة كثيرة، والمجال ذو سعة.


وإذا تعارضت المفاسد والمضار ولم يكن بدٌ من بعضها، فمن المقرر أن يرتكب أخف المفسدتين ، وأهون الضررين. هكذا قرر الفقهاء: أن الضرر يزال بقدر الإمكان، وأن الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، وأنه يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. ولهذا أمثلة وتطبيقات كثيرة ذكرتها كتب (القواعد الفقهية) أو (الأشباه والنظائر).


وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، أو المنافع والمضار، فالمقرر أن ينظر إلى حجم كل من المصلحة والمفسدة، وأثرها ومداه، فتغتفر المفسدة اليسيرة لجلب المصلحة الكبيرة. وتغتفر المفسدة المؤقتة لجلب المصلحة الدائمة و الطويلة المدى. وتقبل المفسدة وإن كبرت إذا كانت إزالتها تؤدي إلى ما هو أكبر منها. وفي الحالات المعتادة : يقدم درء المفسدة على جلب المصلحة. وليس المهم أن نسلم بهذا الفقه نظرياً، بل المهم كل المهم أن نمارسه عمليا. فكثير من مسببات الخلاف بين الفصائل العاملة للإسلام، يرجع إلى هذه الموازنات..

-هل يقبل التحالف مع قوى غير إسلامية؟
-هل تقبل مصالحة أو مهادنة مع حكومات غير ملتزمة بالإسلام ؟
-هل تمكن المشاركة في حكم ليس لم إسلامياً خالصا؟ وفي ظل دستور فيه ثغرات أو مواد لا نرضى عنها تمام الرضى؟
-هل ندخل في جبهة معارضة مكونة من بعض الأحزاب لإسقاط نظام طاغوتي فاجر؟؟
-هل نقيم مؤسسات اقتصادية إسلامية مع سيطرة الاقتصاد الوضعي الربوي؟؟
-هل نجيز للعناصر المسلمة العمل في البنوك والمؤسسات الربويّة أم نفرغها من كل عنصر متدين ملتزم؟؟


صعوبة الممارسة والتطبيق في الحياة العملية:
إن تقرير المبدأ سهل، ولكن ممارسته صعبة، لأن فقه الموازنات يصعب على العوام وأمثالهم من القادرين على التشويش لأدنى سبب. لقد لقي العلامة المودودي وجماعته عنتاً كثيرا حينما رأى - في ضوء فقه الموازنات - أن انتخاب فاطمة جناح أقل ضرراً من انتخاب أيوب خان، فشنت الغارة عليهم بحديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ". وهل يفلح قوم ولوا أمرهم طاغية متجبراً ؟؟ لن يفلحوا، والفقه هنا ينظر: أي الشرين أهون، أو أي المفسدتين أخف، فيرتكب الأدنى في سبيل الأعلى.


والدكتور/ حسن الترابي وإخوانه في السودان لقوا هجوماً من بعض الإسلاميين لقرارهم دخول الاتحاد الاشتراكي في عهد النميري، وقبولهم بعض المناصب الرسمية في عهده، حتى قبل إعلانه تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية . والأخوة في سوريا عانوا مثل ذلك، حين قرروا التحالف مع بعض القوى غير الإسلامية لمقاومة النظام الذي يريد أن يستأصل شأفتهم، وقد تحالف الرسول مع خزاعة وهم على الشرك، واستعان ببعض المشركين على بعض. و أنا لا أنتصر هنا لموقف هؤلاء ولا أولئك، ولكن أنتصر للمبدأ، مبدأ فقه الموازنات الذي على أساسه يقوم بنيان (السياسة الشرعية). وفي مواقف الرسول الكريم وأصحابه، وأدلة الشرع الفسيح، ما يؤيد هذا كله، من جواز الاشتراك في حكم غير إسلامي، وجواز التحالف مع قوى غير إسلامية.

أدلة من القرآن على فقه الموازنات:
والمتدبر للقرآن الكريم مكية، ومدنية، يجد فيه أدلة كثيرة على فقه الموازنات والترجيح. نجد في الموازنة بين المصالح قوله تعالى على لسان هارون لأخيه موسى عليهما السلام: [قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي] {طه:94}  . وفي الموازنة بين المفاسد والأضرار نجد قوله تعالى على لسان الخضر في تعليل خرق السفينة: [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] {الكهف:79}.
فلأن تبقى السفينة لأصحابها وبها خرق أهون من أن تضيع كلها، فحفظ البعض أولى من تضييع الكل. ومن أبلغ ما جاء في الموازنات قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ] {البقرة:217}.


فقد أقر بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن لمقاومة ما هو أكبر منه. وفي الموازنة بين المصالح المعنوية والمادية، نقرأ قوله تعالى عتابًا للمسلمين عقب غزوة بدر [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال:67} وفي الموازنة بين المصالح والمفاسد نقرأ قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا] {البقرة:219}. وفي الموازنة بين الجماعات والقوى غير المسلمة بعضها وبعض، نقرأ أوائل سورة الروم وفيها انتصار للروم على الفرس وكلا الفريقين غير مسلم لأن الروم أهل كتاب، فهم أقرب إلى المسلمين من المجوس عباد النار.

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية : -
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام قوي في جواز تولي بعض الولايات في دولة ظالمة، اذا كان المتولي سيعمل على بعض الظلم، أو تقليل حجم الشر والفساد. وله في موطن آخر فصل جامع في تعارض الحسنات أو السيئات، أو هما جميعاً، إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما، بل الممكن إما فعلهما جميعا وأما تركهما جميعا. لقد أفتت بعض الندوات المتخصصة في الاقتصاد الإسلامي التي جمعت بين عدد من أهل الفقه وآخر من هل الاقتصاد بشرعية الاشتراك في المؤسسات والشركات التي تنشر في البلاد الإسلامية، وتعرض أسهمها على الجمهور ويكون أصل عملها مباحاً، ولكن قد يشوبه بعض التعامل بالفوائد الربويّة فرئي - في ضوء فقه الموازنات - ألا تترك هذه الشركات المهمة والمؤثرة في الحياة لغير المسلمين، أو للمسلمين غير المتدينين، وفي هذا خطر كبير، وخصوصاً في بعض الأقطار، ويمكن للمساهم أن يخرج من أرباحه نسبة تقريبية يتصدق بها في مقابل الفوائد التي شابت ربحه. وفي ضوء هذا أفتى الشباب المسلم الملتزم ألا يدع عمله في البنوك وشركات التأمين ونحوها، وإن كان في بقائه فيها بعض الإثم، لما وراء ذلك من استفادته خبرة يجب أن ينوي توظيفها في خدمة الاقتصاد الإسلامي، مع إنكاره للمنكر ولو بقلبه، وسعيه مع الساعين لتغيير الأوضاع كلها الى أوضاع إسلامية.

إذا غاب فقه الموازنات عن الساحة :
إذا غاب عنا فقه الموازنات سددنا على أنفسنا كثيراً من أبواب السعة والرحمة، واتخذنا فلسفة الرفض أساسا لكل تعامل، والانغلاق على الذات تكأة للفرار من مواجهة المشكلات، والاقتحام على الخصم في عقر داره. سيكون أسهل شيء علينا أن نقول: «لا» أو: حرام في كل أمر يحتاج إلى إعمال فكر وإجهاد.


أما في ضوء فقه الموازنات فسنجد هناك سبيلاً للمقارنة بين وضع ووضع، والمقابلة بين حال وحال، والموازنة بين المكاسب والخسائر، على المدى القصير، وعلى المدى الطويل، وعلى المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، ونختار بعد ذلك ما نراه أدنى لجلب المصلحة، ودرء المفسدة . دعيت إلى الكتابة منذ بضعة عشر في مجلة (الدوحة ) القطرية، وكانت مجلة أدبية ثقافية عامة، وأغلب من يشرف عليها علمانيون، والطابع الغالب عليها إن لم يكن مجافياً للإسلام فليس موالياً له، ولا مدافعاً عنه. وترددت في الاستجابة طويلاً، ثم رأيت بعد الموازنة أن كتابتي فيها أجدى وأنفع من مقاطعتي لها، فإن قراؤها يمثلون قاعدة عريضة من المثقفين، وجلهم ممن لا يقرؤون المجلات الإسلامية، فهم غير قراه مجلة (الأمة ) وأمثالها، ولا بد لنا أن نوصل كلمتنا إلى هؤلاء، أداء الواجب البلاغ إذا أتيحت لنا الفرصة.


وهذا ما يجعلنا نقبل الحوار مع مندوبي بعض الصحف والمجلات التي قد لا نتفق معها في خطها كثيراً أو قليلا.
ولا يزال بعض الأخوة ينكرون على من يكتب في الصحف اليومية التي لا تلتزم بالخط الإسلامي الصريح، حتى إن بعضهم نكر عليّ نشري لكتابي (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) على حلقات في صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية، لما لها من مواقف قد لا يرضون عنها، مع أني لمست جدوى هذا النشر في جمهور كبير من الناس. بل هناك من يرى مقاطعة أجهزة الإعلام كلها : مقروءة و مسموعة ومرئية، لما يشوبها من انحراف وفساد في الفكر والسلوك، ناسين ما لها من خطر بالغ على العقول والضمائر، وإن تركها لا يزيدها إلا فسادا وخبالاً، وسيمكن العلمانيين والمنحلين من التغلغل فيها، والتخريب لها، وسيحرمنا نحن من فرص لا نجد لها عوضاً.


ومن نظر إلى الأمر في ضوء فقه الموازنات وجد أن الدخول في هذه الميادين الهامة ليس مشروعا فحسب بل هو مستحب، بل واجب، لأنه وسيلة إلى أداء أمانة الدعوة ومقاومة الباطل والمنكر بقدر المستطاع، وما لا يتم الواجب لم يتم الواجب إلا به فهو واجب ء كما هو مقرر ومعلوم.


فقه الأولويات
وأما (فقه الأولويات) فنعني به وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغّر الأمر الكبير، ولا يكبّر الأمر الصغير. هذا ما تقتضي به قوانين الكون، وما تأمر هب أحكام الشرع. أعني أن خلق الله تعالى وأمره (ألا له الخلق والأمر) كليهما يوجبان رعاية هذا الترتيب.


السيرة النبوية وفقه الأولويات:
في العهد المكي كانت مهمة النبي  صلى الله عليه وسلم  محصورة في الدعوة إلى الله وتربية الجيل المؤمن الذي يحمل هذه الدعوة بعد ذلك إلى العرب، ثم ينطلق بها إلى العالم كله، وكان تركيزه على أصول العقيدة، وترسيخ التوحيد، وعبادة الله وحده، ونبذ الشرك واجتناب الطاغوت، والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق. وكان القرآن الكريم في تلك المرحلة يزكي هذا الاتجاه، فلم يشغل المسلمون في هذه الآونة بالمسائل الجزئية، ولا بالأحكام الفرعية، بل بنيان الإنسان الذي تحدثت سورة العصر [إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] {العصر:3}. لم يشرع للمسلمين أن يحملوا فؤوسهم الأصنام وهم يرونها كل يوم حول الكعبة، ولم يأذن لهم أن يشهروا سيوفهم دفاعاً عن أنفسهم، ومقاومة العدو ( وعدوهم، الذي يسومهم العذاب، بل كان يقول لهم ما ذكره القرآن أن [كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ] {النساء:77 }  وإن كانوا يأتون إلى رسولهم  صلى الله عليه وسلم  ما بين مشجوج ومجروح.


ارتباط الأولويات بفقه الموازنات :
إن فقه الأولويات مرتبط بفقه الموازنات، وفي بعض المجالات يتداخلان أو يتلازمان، فقد تنتهي الموازنة إلى أولوية معينة، فهنا تدخل في فقه الأولويات .
وجوب مراعاة النسب بين التكاليف الشرعية :
إن الإخلال بالنسب التي وضعها الإسلام للتكاليف الشرعية يحدث ضرراً بليغاً بالدين والحياة. إن العقيدة في الإسلام مقدمة على العمل، لأنها الأساس، والأعمال هي البناء ولا بقاء بغير أساس وبعد العقيدة تأتي الأعمال وهي متفاوتة تفاوتاً بعيداً، وقد جاء في الحديث الصحيح (الإيمان بضع و سبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) والقرآن يبيّن لنا أن الأعمال تتفاضل عند الله، وليست في درجة واحدة، يقول تعالى: [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] {التوبة:20}.
ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن: جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج. بل ذكر فقهاء الحنابلة وغيرهم أن: الجهاد أفضل ما يتطوع به من أعمال البدن.


وفي فضل الجهاد جاءت أحاديث كثيرة منها ما رواه أبو هريرة، قال: "مر رجل من أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك لرسول الله فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله تعالى أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً" وفي فضل الرباط جاء حديث سلمان مرفوعاً: "رباط يومٍ وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن من الفتان" رواه مسلم. وهذا ما جعل إماماً مثل عبد الله بن مبارك وهو في أرض الرباط يكتب إلى صديقه الفضيل بن عياض الزاهد العابد، وهو ينتقل بين الحرمين مكة والمدينة متعبداً: يا عبد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ومن المقرر فقهاً: أن الناقلة لا يجوز تقديمها على الفريضة وأن فرض العين مقدم على فرض الكفاية، وأن فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد أو عدد يكفي، مقدم على فرض الكفاية الذي قام به من يكفي ويسد الثغرة، وأن فرض العين المتعلق بالجماعة والأمة مقدم على فرض العين المتعلق بحقوق الأفراد، وأن الواجب المحدد الوقت، والذي جاء وقته بالفعل، مقدم على الواجب الموسع في وقته. ومن المقرر كذلك أن المصالح المقررة شرعاً متفاوتة فيما بينها، فالمصالح الضرورية مقدمة على الحاجيّة والتحسينية، والمصالح الحاجيّة مقدمة على التحسينية والمصالح المتعلقة بمصالح الأمة وحاجاتها أولى بالرعاية من المصالح المتعلقة بالأفراد عند التعارض، وهنا نجد فقه الموازنات يلتقي بفقه الأولويات.


غياب فقه الأولويات عند كثير من المسلمين:
إن آفة كثير من فضائل الصحوة الإسلامية هي غياب فقه الأولويات عنها، فكثيراً ما تهتم بالفروع قبل الأصول، وبالجزئيات قبل الكليات، وبالمختلف فيه قبل المتفق عليه، وتسأل عن دم البعوض، ودم الحسين مهراق، وتثير معركة من أجل ناقلة، وقد ضيع الناس الفرائض، أو من أجل شكل أو هيئة، دون اعتبار للمضمون.


وهذا هو الحال عند عموم المسلمين، أرى الملايين يعتمرون تطوعاً كل عام في رمضان وغيره، ومنهم من يحج للمرة العاشرة أو العشرين، ولو جمع ما ينفقه هؤلاء في هذه النوافل لبلغ آلاف الملايين، ونحن نلهث من عدة سنوات لتجميع ألف مليون دولار للهيئة الخيرية الإسلامية، فلم نحصل على عشر المبلغ ولا نصف عُشره،ولا ثلثه، لو قلت لهؤلاء المتطوعين بالعمرة أو الحج: ادفعوا ما تنفقونه في رحلتكم التطوعية لمقاومة التنصير أو الشيوعية في آسيا وإفريقيا أو المجاعات هنا وهناك، ما استجابوا لك، وهذه آفة قديمة شكا منها أطباء القلوب. وإنَّ من فقه الأولويات: أن نعرف أي القضايا أولى بالاهتمام فتعطى من الجهد والوقت أكثر مما يُعطى غيرها.


ومن فقه الأولويات أن يعرف: أي الأعداء أولى بتوجيه قوانا الضاربة إليه، وتركيز الهجوم عليه، وأي المعارك أولى بالبدء، فالناس في نظر الإسلام أنواع: هناك المسلمون، وهناك الكفار، وهناك المنافقون. والمسلمون منهم الجهلة، ومنهم الخونة. والكفار منهم المسالمون، ومنهم المحاربون. ومنهم الذين كفروا فقط، ومنهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. والمنافقون منهم ذوو النفاق الأصغر، ومنهم أهل النفاق الأكبر. فبمن نبدأ؟ وأي الجهات أولى بالعمل؟ وأي الأمور أولى بالرعاية؟ ومن فقه الأولويات: أن نعرف واجب الوقت، فنقدمه على غيره ونعطيه حقه، ولا نؤخره فنفوت فرصة قد لا تعوض إلا بعد زمن طويل، وقد لا تعوض يوماً.

والشاعر الراجز بقول:


وانتهز الفرصة إن الفرصة تصير إن لم تنتهزها غصة


ومن حكمنا المأثورة: لا تؤخر عمل اليوم إلى غد.

وقد قيل لعمر بن عبد العزيز يوماً: أخر عمل هذا اليوم، وقم به غداً، فقال لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين؟ ومن حكم عطاء: حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق لا يمكن قضاؤها إذ ما من وقت يرد إلا ولله فيه حق جديد، وعمل أكيد.


الإمام الغزالي وفقه الأولويات:
وقد أنكر الإمام الغزالي في (الإحياء) على بعض فرق المغرورين بالعبادة دون مراعاة لمراتب الأعمال، فقال: (وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض، نرى أحدهم يفرح بصلاة الضحى، وبصلاة الليل، وأمثال هذه النوافل، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وسلم  فيما يرويه عن ربه: (ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم) وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور، بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والأخر يتسع وقته فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغروراً.


ونظائر ذلك أكث رمن أن تحصى، فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة، وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض، كتقديم الفرائض كلها على النوافل، وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية، وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره، وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه، وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت، وهذا كما يجب تقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقيل له: من أبرُ يا رسول الله ؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال : ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أباك)، قال ثم من ؟ قال: (أدناك فأدناك) فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب، فإن استويا فبالأحوج، فإن استويا فبالأتقى والأورع. وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج، فربما يحج وهو مغرور، بل ينبغي أن يقدم حقهما على الحج، وهذا من تقديم فرض أمم على فرض هو دونه. وكذلك إذا كان على العبد ميعاد، ودخل وقت الجمعة، فالجمعة تفوت والاشتغال بالوفاء بالوعد (حينئذٍ) معصية، وان كان هو طاعة في نفسه. وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة، فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك، فالنجاسة محذورة ، وإيذاؤهما محذور، والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة.


وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر، ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور.


تحقيق الإمام ابن القيم في أي العبادات أفضل:
ويذكر المحقق ابن القيم الأقوال في: أي العبادات أفضل: هل الأفضل منها: الأشق؟ أو الأفضل: المتعدية النفع؟
ثم رجح أنه لا يوجد فضل بإطلاق، وإنما لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له. فعند المجاعات يكون إطعام الطعام أفضل ما يتقرب به إلى الله. وعندما يغزو الكفار بلدا مسلما يكون الجهاد أفضل الأعمال، وإمداد المجاهدين بالسلاح والمال من أعظم القربات. وعندما يموت العلماء، ولا يوجد من يخلفهم، يكون طلب العلم والتبحر فيه من أجل ما يؤجر عليه المسلم، ويحمد به عند الله وعند المؤمنين وهكذا يكون التفاضل بين الأعمال، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة  المسلم المعاصر محرم، صفر وربیع الأول 1411 - العدد 57

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين