الإصلاح بالدعوة أم الإصلاح بالسلاح؟

مجاهد ديرانية
 
قرأت أن جماعة دولة العراق والشام الذين "يحكمون" قرية الدانا في ريف إدلب أصدروا قراراً بمنع التدخين ومنع بيع الدخان، وهددوا أي متجر يبيعه بالمصادرة والحرق. وقرأت تعليقات أنصار الدولة وهي تذكر ذلك الإنجاز العظيم بفخر واعتزاز، فلم أحاول أن أناقش أياً منهم، لأن التجربة علمتني أن مناقشتهم باب من أعظم أبواب إضاعة الأوقات وأقلها منفعة، وكما قال الأوّلون: ويلٌ للشجيّ من الخلي!
 
ليس في نيتي أن أناقشهم في جدوى هذا الإنجاز العظيم، ولكني التقطت مثلاً ساقوه في مناقشاتهم مع بعض المعترضين فتعلقت به؛ قالوا: لماذا لا تمنع الدولة أعزّها الله (هذا التعقيب مهم كلما ذكروا اسمها) لماذا لا تمنع الدخان؟ أليسوا يمنعون التدخين في الأماكن العامة في كثير من دول العالم المتقدمة؟


 *   *   *


 لن أخوض في حكم الدخان الذي اختلف العلماء فيه بين الكراهة والتحريم، ولن أتحدث عن درجات المحرمات ولا عن أولويات تطبيق الأحكام الشرعية. سأحصر حديثي في الناحية العملية فحسب: هل يمكننا أن نسمّي إكراهَ الناس على ترك التدخين ومصادرةَ وحرقَ المحلات التي تبيع الدخان إنجازاً يستحق التصفيق؟ هذا عمل تَقْدر عليه أي جماعة تملك السلاح، أي أن آلاف القرى والمدن التي يوجد فيها مسلحون يمكن أن تلحق بالدانا وتصبح من "قلاع الإسلام الكبرى التي يعيش الناس فيها بلا دخان". نعم، هذا ممكن، ولكن السلاح لن يبقى في أيدي الناس إلى الأبد؛ سوف يسقط النظام ذات يوم (عسى أن يكون قريباً) وتنشأ دولة حرة مستقلة لها جيش وطني سيلتحق به من شاء من أهل السلاح ويعود الباقون إلى حَيَواتهم وأعمالهم، وعندئذ ستعود "إمارة الدانا" إلى حضن الدولة السورية، فهل سيستمر الناس هناك في ترك التدخين والامتناع عن بيع الدخان؟
 
كنت ألقي قبل سنوات محاضرات في التربية، فكنت أحذّر مما أسمّيه "التربية الزنبركية". سألني الحاضرون: وما التربية الزنبركية؟ قلت: هل تعرفون الزّنبَرك (كذا نسميه في الشام، ويُسمّى في بعض البلدان لولباً أو نابضاً أو رفّاصاً أو سوستة)؟ إنك لو ضغطته انضغط إلى ثلث طوله الأصلي أو ربعه، ويبقى مضغوطاً ما أبقيتَ إصبعك عليه، وفي اللحظة التي تزيح فيها الإصبع سوف يقفز في الهواء وينقذف بعيداً، فلا هو بقي مضغوطاً ولا هو بقي في موضعه الذي كان فيه قبل الضغط. هذا مثال التربية بالإكراه. إنك تستطيع أن تسيطر على ولدك الضعيف بالقوة، لكن سيطرتك لن تستمر إلى الأبد، يوماً ما سيكبر ويخرج عن السيطرة، وعندها سيطير بعيداً وينتقل إلى حالة أسوأ من التي كان عليها قبل الضغط. أما لو ربيت في نفسه الإيمان وزرعت الخير والصلاح فسوف يجد له من نفسه هادياً ومراقباً طول حياته، فيكون الصلاح فيه طبعاً أصلياً لا تطبّعاً وسلوكاً ذاتياً بلا توجيه خارجي ولا إكراه.


*   *   *


أعود إلى المثال الذي ذكروه: ما العيب في منع التدخين وها هي كثير من دول العالم تصنع ذلك؟ لقد ساعدني هذا السؤال على توضيح الفكرة التي أريدها بمثال من عالم الواقع.
 
سأروي لكم قصة قصيرة: دأبت قبل سنوات عديدة على زيارة معرض لندن السنوي للكتاب، وذات مرة دعاني واحد من وكلاء بيع الكتب الذين أتعامل معهم إلى العشاء. بعدما جلسنا في المطعم وطلبنا الطبق الرئيسي فتح قائمة المشروبات الروحية (والعادة عندهم أنها قائمة منفصلة عن قائمة الطعام) وسألني: ماذا تشرب؟ قلت: المُسْكرات محرَّمة في ديننا، أنا لا أشربها. قال: هل تمانع أن أطلب لنفسي شيئاً منها؟ قلت: لا أمانع، فأنت صاحب الدعوة ولك الحق في طلب ما تشاء، ولكني لن أستطيع البقاء على هذه الطاولة وسوف أضطر إلى الانسحاب مع شكري لك على دعوتك. قال: لا، لن أزعجك، هل نطلب مياه غازية؟ قلت: نِعْم الرأي.
 
وجلسنا ننتظر الطعام، ومن عادة المطاعم الفاخرة (التي لا أحب دخولها) في كل مكان أنها تؤخر وصول الطعام حتى يشرف الجائعون على الهلاك! فاستفدتُ من الوقت الضائع باستغلال الحادثة السابقة وسألته عن ذلك الموضوع الذي شغل ذهني دائماً، قلت: لماذا ترك أكثر الناس في بلادكم التدخين وبقيت الخمور منتشرة عندكم؟ أليس الضرر متحققاً فيهما جميعاً؟ قال (وهنا بيت القصيد): لقد تعرض التدخين إلى حملات إعلامية مركّزة لسنوات طويلة فوصل الناس إلى قناعة ذاتية بضرره وتخلوا عنه طوعاً، واتسعت هذه الثقافة وانتشرت حتى صارت ثقافةَ الأغلبية، ففرضوها على الأقلية المدخنة، وصار التدخين ممنوعاً بالقانون في الحافلات والطائرات والقطارات والمطارات وغيرها من الأماكن العامة.
حسناً، ها هي كلمة السر إذن: "وصل الناس إلى قناعة ذاتية بضرره فتخلوا عنه طوعاً"، أي أن القوانين القسرية لم تطبَّق إلا على الأقلية التي خالفت الرأي العام، والرأي العام لم ينشأ بقوة القانون بل بقوة الفكر والإقناع، وقد صنعَت ذلك عندهم أجهزةُ الإعلام، أما عندنا فإنها مسؤولية الدعاة والعلماء والمربين والمفكرين والمصلحين.


*   *   *


إننا نتأكد مرة بعد مرة أن الدعوة والإقناع هما الطريق إلى الحياة الإسلامية الصحيحة، ولقد قلتها من قبل ولن أمَلّ من تكرارها: لا حاجة لنا بإسلام يأتي بالقهر والاستبداد، فإن القوة التي تفرضه تزول ذات يوم فيزول التدين معها ويعود الناس إلى حال أسوأ من الذي كانوا عليه، أما القناعة فإنها تبقى ويبقى معها الدين. نريد أن يصل المسلمون اليوم إلى ما وصل إليه المسلمون بالأمس، حينما حرّم الله الخمر فأهرقوه حتى سالت منه جوانب الطرق في المدينة. نريد أن يصنع المسلمون اليوم ما صنعه المسلمون الأولون حينما حُرّم لحم الحمير الأهلية؛ أخرج البخاري في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً فنادى في الناس: "إن الله ورسوله يَنهَيانِكم عن لحوم الحُمُر الأهلية". قال (وهنا الشاهد): فأُكفِئَت القُدورُ وإنها لَتَفورُ باللحم.
 
لم يرسل النبي صلى الله عليه وسلم الشُّرَط والحرس يدورون على المتاجر والبيوت ليمنعوا بيع لحوم الحُمُر وطبخها، ولم يصدر فرمانات ولا أنذر بعقوبات. لقد ربّى الإيمانَ في نفوس الناس وزرع في قلوبهم خوف الله، ثم أخبرهم بما أحل الله لهم وما حرّم عليهم، فاستجابوا -بأغلبيتهم ومجموعهم- لقانون الإسلام وكانوا هم الحرّاس على حمايته وتطبيقه.
متى يدرك الدعاة والمصلحون والناس جميعاً أن هذا هو الطريق؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين